الخميس، 27 أكتوبر 2022

أبو الفرج الأصفهاني وكتاكيته الخرافية




هل تعرف الفيلم، المسرحية، الأوبريت، الأغنية، القصة، الرواية، الحدوتة، المسلسل التلفزيوني، رسمة الكاريكاتير، حكايات المصطبة؟

 نعم تعرف كل هذه الأشياء ولا تستغني عنها، كأنها احتياج بيولوجي مثل الطعام والشراب، فلم يخلق الله بشرًا لا يحبون الحدوتة التى هي أصل الرواية، ولا الترنيمة التي هي أصل الشعر، ولا المبالغة في رسم الأشياء التي هي أصل الكاريكاتير.

العرب في زمن تحضرهم لم يكن لديهم لا السينما ولا المسرح ولا التليفزيون، كان لديهم الكتاب الذي يقوم مقام كل تلك المخترعات، ومن تلك الكتب التي قدمت كل هذه الفنون، كتاب  الأغاني "لأبي فرج الأصفهاني" الذي  تظلمه الأغلبية عندما تتعامل معه تعاملها مع كتب الحديث والتفسير والفقه، الكتاب كما أراده صاحبه كتاب في الأغنيات والألحان ثم إطلالة سريعة علي حياة الشعراء أصحاب القصائد التى جرى تلحينها وغنائها، ثم حكايات مسلية يفرضها السياق العام لكتاب موسوعي من هذا النوع.


أبو فرج القرشي

بدأ الخلط عندما نسبوا الرجل إلى الفرس، وذلك لأنه ولد في مدينة أصفهان الفارسية الشهيرة، وتجاهلوا أن كل تلك الدول والأقاليم لم تكن سوى ولايات إسلامية من حق أي مسلم الإقامة بها، بل يكاد لا يوجد عالم من علماء ذلك الزمان ولد وعاش ومات في بلد واحدة، لقد كانوا يرتحلون بكل يسر وسهولة طلبًا للعلم أو الرزق، بل بعضهم كان يرتحل لوجه الارتحال.

إذّا الأصفهاني ليس فارسيًا بل هو عربي قح واسمه هو "علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي"، وهذا يعني أن الرجل من العائلة المالكة أو الملكية، وقد نسبوه إلي التشيع لأن أخواله كانوا من الشيعة، وليس في كتب الرجل دعوة إلى التشيع، وقد كتب كتابه الفذ "مقاتل الطالبين" عن الشهداء المنتسبين لأبي طالب وللبيت الهاشمي عمومًا، ليس تشيعًا لهم، ولكن إنصافًا لبيت لم يقدم سوي العلماء والفرسان والشهداء والنبلاء.

وقد بالغ البعض في ذم الرجل فزعم أن أبا الفرج كان وسخًا لا يعرف النظافة في جسده ولا ثيابه، وتلك واحدة من الأكاذيب التى حاولوا بها تشويه عالم شهير لم يكن يجالس سوى الملوك والقادة، ولا نعرف ملكًا يرضي بأن يكون جليسه نتن الرائحة متسخ الثياب.


لماذا الأغاني ؟

من الواضح أن أبا الفرج كان مولعًا بالغناء عارفًا لمقامه في سلم حضارات الأمم، ومن الواضح أيضًا أن أبا الفرج كتب الكتاب لنفسه أولًا، لقد مكث يجمع مادته على مدار نصف قرن، ثم عندما رضي عن كتابه أهداه إلى سيف الدولة الحمداني فوهبه سيف الدولة ألف دينار، ولا تظنن أن الألف دينار قليلة، لأن ثمن الحصان العربي الأصيل في تلك الفترة لم يكن يتجاوز العشرة دنانير، والحصان كان يقوم مقام السيارة الحديثة في أيامنا هذه، يعني الألف دينار كانت ثروة خرافية، إلا أن الأديب الوزير الصاحب بن عباد كان يرى أن سيف الدولة الحمداني قصّر في حق الكتاب والكاتب، لأن الأغاني ومؤلفه كانا يستحقان أكثر من الألف دينار.



أشعب الخرافي

مر بك أن أبا الفرج قد جمع مادة كتابه الأشهر في خمسين سنة، هذه الخمسون وإن استدعت تدقيقًا وتمحيصًا فقد تستدعي ملء الصفحات بالشارد والنادر من القصص والحكايات بهدف التسرية عن القارئ، المشكلة أن أبا الفرج لم يفصح عن هدفه في رواية تلك النوادر التى لا تستقيم مع أدني درجات العقل، والمشكلة الأكبر أن الأغلبية تعاملت مع الكتاب بوصفه كتاب تاريخ كتبه مؤرخ مدقق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا التهويل من قيمة الكتاب التاريخية جلب الإساءة إلي أبرياء وبريئات كما سترى.

من ضمن أبرز قصص الكتاب قصة عن "أشعب الطامع" وأشعب هذا سيكون المدفعية الثقيلة التي سيتم توجيه نيرانها إلي صدر المسكينة البريئة السيدة سكينة ابنة الإمام الحسين بن على بن أبي طالب رضى  الله عن السادة والسيدات آل البيت جميعًا.

في التاريخ الذي هو تاريخ لا وجود محقق لأشعب هذا، إنما مثله مثل "جحا" شخصية تخترعها الأمم اختراعًا لتروى من خلالها النكات والطرائف والمواعظ التي تريدها، ولقد قرأت بحثًا يؤكد صاحبه أن جحا مجري الأصل، وبحثًا يقطع بأنه تركي وثالث يزعم أنه  مصري!

هذا التناقض الواضح في النسب والزمن يقطع بأنه شخصية مخترعة تؤدى دور الراوي على مسرح الزمان.

أشعب من هذه النوعية، وقال عنه أبو الفرج إنه من موالي عثمان بن عفان (المولى فوق الخادم ودون الصاحب) وقال إنه شهد موقعة قتل عثمان وكان يحمل السيف ويتلقط السهام، ثم فجأة نري أشعب هذا موجود وحي يرزق ويتفاعل في زمن الخليفة المهدي بن المنصور!

أبو الفرج نفسه يستهول كل هذا العمر، ويقول إن بين قتل عثمان وخلافة المهدي أكثر من مائة وأربعين سنة !

ثم ترى هذا الأشعب الذي لا ينشغل سوي بطمعه وبملء بطنه من أطايب الطعام يجالس، بل يجادل رجلًا مثل عبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر وأبان بن عثمان بن عفان، ولا ندري كيف لهذا الصعلوك الذي تعترف أمه بالزنا علانية مجالسة هؤلاء ومجادلتهم؟

المؤكد أن تسلية الأصفهاني هي التي جاءت بهذا الصعلوك بين هؤلاء الملوك.




قصف سكينة بنت الحسين

أشعب الذي هو اختراع شعبي سيخترعون له ولدًا يواصل سيرة أبيه في التسلية التي بعضها غاية في الشناعة والأذى، ومن ذلك ما رواه أبو الفرج (دون تدقيق أو مراجعه) عن أمير من أمراء البيت العباسي وهو إبراهيم بن المهدي، يقول أبو الفرج إن عبيدة بن أشعب الطامع، كان من سمّار الأمير إبراهيم، وذات ليلة سأله الأمير: "هل لك قرابة في المدينة" أهل ونسب يعني؟

فرد عبيدة: "اللهم غفرانك، لي بالمدينة قرابات وأي قرابات".

فسأله إبراهيم: هل هم عشرات؟"

فرد عبيدة: "اللهم غفرانك، لا تذكر العشرات ولا المئات وتجاوز عن ذكر الألوف".

الأمير العباسي يعرف يقنيًا عائلات المدينة المنورة ولذا لم يصدق كلام عبيدة الذي قص قصة طويلة عريضة انتهت بالتشنيع علي السيدة البريئة سكينة ابنة الإمام الحسين بن علي.

قال عبيدة إن سكينة كانت زوجة لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان.

هنا نتوقف لنشير إلي أن أغلب من كتب عن سيرة السيدة سكينة، قال إنها تزوجت مرة واحدة وليس سبع مرات كما ذكر أبو الفرج، وإن زوجها المعروف هو ابن عمها عبد الله بن الحسن بن علي.

واجمع المؤرخون علي فضلها وزهدها وعلمها وانصرافها إلى العبادة، ولكن تسلية الأصفهاني كان لها رأي آخر!

يقول عبيدة بن أشعب المخترع إن السيدة سكينة كانت تغار على زوجها زيد بن عمرو كل الغيرة، وكان لزيد هذا (ضيعة = عزبة) بها المئات من جواريه، وكانت سكينة تمنعه من الاقتراب من الضيعة لكي لا يعاشر جارية من الجواري، واستمر الحال على هذا المنوال حتى جاء يوم وقال فيه زيد لسكينة إن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك سيحج وهو لا يستطيع تجاهل هذه المناسبة ولابد أن يشاركه رحلة الحج هذه، فوافقت سكينة على مضض واشترطت عليه ألا يذهب إلي الضيعة وأن يصحب معه أشعب الطامع لكي يكون عينا لها عليه.

وافق زيد على الشرطين، وبعد انتهاء شعائر الحج قدم أربعمائة دينار رشوة لأشعب لكي يسمح له بالذهاب إلى الضيعة ومعاشرة الجواري ثم لا ينقل ذلك إلي سكينة عندما يعودان إليها.

أشعب الطامع أو الطماع قبل الرشوة بل وفرح بها، وترك زيدًا يعاشر جواريه كما يحلو له، بل فى فترة غياب زيد انتحل أشعب شخصيته وركب فرسه ولبس ملابسه وتصرف في الحياة كأنه زيد حفيد عثمان بن عفان وليس أشعب ابن الزانية.

يواصل عبيدة قص حكاية أهله الكثيرين بالمدينة المنورة فيقول لإبراهيم المهدي: عندما عاد أبي مع سيده زيد، سألته سكينة عن تفاصيل الرحلة، فقص كل شيء إلا خبر معاشرة زوجها لجواريه، استوقف ذلك الكتمان السيدة سكينة التي راجعته لكي يشهد بما حدث فحلف بكل قسم بأنه لم يمكن سيده من الذهاب إلي الجواري.

هنا وقف زيد حفيد عثمان بين يدي زوجه السيدة سكينة وقال لها: "أي بنت عم، يا بنت رسول الله ، لقد كذبك هذا العلج، وقد أخذ مني أربعمائة دينار مقابل أن يأذن لي بالذهاب إلي الضيعة، وقد ذهبت وأقمت بها يومًا وليلة وعاشرت عدة من الجواري، وها أنا ذا تائب إلى الله تعالى مما كان وقد جعلت توبتي هبتهن لك، وهن موافيات المدينة في عشية هذا اليوم، فبيعهن أو عتقهن بيدك".

يكمل عبيدة قصة أبيه مع السيدة سكينة فيقول: إن السيدة سكينة قد غضبت الغضب كله وأمرت أشعب الطامع أن يعيد لها الأربعمائة دينار التي هي رشوة زوجها له، فقدم لها أشعب صاغرًا المال، فقامت ببناء بيت كبير من الخشب تكلف ثلاثمائة دينار(لاحظ أن هذه المبالغ كبيرة جدًا في ذلك الوقت) والمائة الباقية قسمتها بين النجارين الذين صنعوا ذلك البيت الخشبي، وبين شراء البيض!

وأمرت أشعب الطامع أن يرقد علي ذلك البيض، ففعل، حتى فقس البيض وخرج منه ألوف الفراريج.

يكل عبيدة القصة فيقول: عن هذه الفراريج هم بالنسب أخوته لأنهم أولاد أبيه ومن هنا فهو له عائلة كبيرة جدًا بالمدينة.

تنتهي القصة بضحكة مدوية من الأمير العباسي الذي قدم عشرة ألاف دينار هدية لعبيدة علي قصته المضحكة!

هذه الحدوتة وغيرها من الحواديت التي جاءت في كتاب الأصفهاني ليست علمًا وليست تاريخًا، إنها ليست سوى حدوتة قد يطرب لها مترف من المترفين، ولكن لا يمكن التعامل معها بوصفها حقيقة تاريخية تقام علي أساسها محاكمة لأخلاق السيدة سكينة، التى قدمها أبو الفرج بوصفها ثرية مشغولة بجسدها وجمالها وصاحبة صالون أدبي تجتمع فيه مع أمجن شعراء زمانها، ومن ذلك قصة رواها أبو الفرج ودارت حول لقاء جمع بين السيدة سكينة وشاعر من الشعراء، ودخلت عليهم جارية من جواري السيدة لتقديم واجب الضيافة إلي الشاعر الذي رأت السيدة سكينة في عينيه الإعجاب بالجارية فقالت له: " تمنى علىّ".

وفي خاطرها أنه سيريد أن تهبه الجارية، فما كان من الشاعر إلا أن قال للسيدة سكينة:  أتمني إن مت أن تدفنوني في حر هذه الجارية".

وما الحر ـ حفظ الله مقامكم ـ إلا الاسم القديم لفرج المرأة!

هذا الكلام العاري المكشوف بل البذيء لا يمكن أن يتفوه به شاعر معاصر في حضور راقصة، فكيف نصدق أن سكينة بنت الحسين بن علي الزاهدة المنصرفة للعبادة تسمح لشاعر أيًا كان بأن يتحدث في حضورها بهذه الطريقة؟

الكتاب ممتلئ بحواديت خرافية كالتي توقفنا عندها وإن كان هذا خطأ قد ارتكبه أبو الفرج، فنحن نرتكب الجرم الأشنع عندما نقدس كل تراث ونصدق كل رواية ونتشنج دفاعًا عن أي قصة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة التحرير 19 أبريل 2015

هناك تعليقان (2):

  1. شكرا يا حمدي على هذا التوضيح البارع لجرايم ابو الفرج التي لا تغتفر

    ردحذف
  2. من صافي ناز كاظم

    ردحذف