تقول البيانات الرسمية: إن نزار قباني هو ابن صانع الحلوى توفيق قباني الذى يقول عنه بعضهم إنه ابن لرائد المسرح العربى أبو خليل القباني.
بعض المصادر تقول: إن خليل القباني هو عم والد نزار لا والده.
وتشير بعض الكتابات إلى أن نسب نزار يصعد حتى الإمام الحسين بن عليّ.
تؤكد البيانات الرسمية أن نزارًا قد ولد بدمشق فى 21 مارس من العام 1932 ودفن بها فى 30 أبريل 1998.
تضيف البيانات أن نزارًا قد درس الحقوق ثم عمل بوزارة الخارجية السورية التى عينته دبلوماسيًا فى أكثر من عاصمة، منها القاهرة وأنقرة ولندن وبكين ومدريد، ثم قدم استقالته وهو فى الأربعين من عمره متفرغًا لشعره.
سنترك حديث البيانات الرسمية الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع مع شاعر وصف نفسه بأنه "الكبريت والنار"، ونذهب إلى الشاعر نزار، تاركين الرجل الرسمي صاحب المناصب الخطيرة.
أقدم بين يديّ كلامي كلمة نسبوها للعقاد: "لقد دخل نزار مخدع المرأة ثم لم يغادره".
إن صحت نسبة الكلمة للأستاذ العقاد فهل هي الحكم الصحيح على إنتاج نزار قبانى؟
الغالبية تقول: إن نزارًا هو شاعر المرأة، وما تقوله الغالبية يساند ما نسبوه للعقاد.
ولكن هل نزار حقًا هو شاعر المرأة ؟
هل تبنى نزار قضايا المرأة ؟
هل دافع عنها ؟
ما هي صورة المرأة فى شعر نزار؟
بل ماذا أراد نزار من المرأة وكيف حلم بها؟
المرأة هي موضوع الحب البشرى، والرجل الذى لم يذق حب امرأة ولو مرة فى عمره يصبح ناقصًا نقصانًا يهدم كيانه ويشوه تكوينه، ثم إن ذلك الرجل عندما يسمو إلى مقام الحب (هم يقولون سقط فى الحب.. بئس ما قالوا) يكسو المحبوبة بصفات الجمال.
فهل كان هذا شأن نزار مع المرأة التى لا يقوم ديوانه إلا عليها؟
الناقد السوري "خالد حسن" سيضعنا على أعتاب إجابات الأسئلة.
كتب خالد عن نزار كتابًا تحت عنوان "نزار قبانى قنديل أخضر على باب دمشق".
فى ذلك الكتاب شهادة مهمة جدًا للشاعر الكبير الأستاذ محمود درويش قال فيها: "علمني نزار أنّ الشعر ليس له هيبة، يمكن أن تشتغل قصيدة من بنطال، ومفرداته ليست مستعصية، وأن ما نعيشه يمكن أن نحكيه ببساطة تامة".
تلك الشهادة تقول: إن نزارًا كان أستاذًا لدرويش الذى ستجد بصمة نزار واضحة على شعره فى بداياته، ثم تلك الشهادة عندما تمد خيطها لمنتهاه، ستجد أن التلميذ القديم قد وضع يده ببيت واحدة من أبياته على مكمن الجرح النزارى وذلك عندما قال:
وأحب الحبَ
إذ يبتعد الحبُ .. أحب الزنبقة
نعم الشعر لدرويش ولكن الجرح لنزار، الذى أفنى حياته باحثًا عن الحب، وليس عن المرأة، غافلًا عن أن الحب البشرى لا يقوم إلا بين رجل وامرأة.
هل بدأت الإجابة عن أسئلتي التى صدرت بها كلمتي؟
لا يمكن لمنصف قراءة علاقة نزار بالمرأة بعيدًا عن أحداث حياة نزار الخاصة.
شقيقة نزار السيدة وصال قتلت نفسها لأن أهلها زوجوها رغم أنفها، وقعت تلك الحادثة المحرقة ونزار فى بدايات تكوينه، سيقول نزار عن جنازة أخته: إن جنازتها كانت جنازة شهيدة، كانت مثل جنازة رابعة العدوية!
قالوا: إن نزارًا لم يفطم إلا فى سن السابعة!
وقالوا: إن أمه كانت شديدة العطف عليه فكانت تطعمه بيديها حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره!
هل قصة الرضاعة حتى السابعة من العمر تصلح تفسيرًا لكل تلك النهود التى تملأ ديوان نزار؟
ثم جاء الشعر (والشعر قدر من أقدار الله متى جاء فلا راد له).
لقد ترك نزار الرسم الذى برع فيه، ثم ترك عزف العود الذى تعلمه فى طفولته، لقد ترك كل شيء وطارد سحب الشعر، فلعل سحابة تمطر عليه قصيدة.
فى الثامنة عشرة من عمره قال نزار الشعر، وفى الثانية والعشرين نشر أولى مجموعات ديوانه الضخم جدًا، مجموعته الشعرية الأولى حملت عنوان "قالت لي السمراء".
لقد نشرها على حسابه الخاص، وصنفها النقاد بوصفها مجموعة إباحية.
فى بداية شدو أي شاعر يقع فريسة حيرة اختيار الموضوع، تلك الحيرة أفلت نزار منها، فموضوعه قائم فى أصل خلقته، موضوعه هو المرأة التى رضع من صدرها حتى بلغ السابعة.
ترى ماذا قالت السمراء لنزار قبانى؟
لا تندهش عندما أقول لك: إنها لم تقل شيئًا.
نزار لم يترك لها فرصة الكلام، سمراء نزار ليس لها وجود، لقد خلقها هو خلقًا، ولأنه الخالق فهو المتكلم، سمراء نزار لن تجدها لا فى قاعة الدرس ولا فى المصنع ولا فى المشغل ولا فى الحقل ولا فى الشارع، إنها سمراء الغواية التى خلقها نزار، ثم راح على امتداد ست وثلاثين مجموعة شعرية يقطع ألسنة السمراء والشقراء والبيضاء والسوداء، ويتحدث هو، وهو فقط.
منذ البداية أفصح نزار عن موقفه وعن رؤيته للمرأة المتهم بالدفاع عنها، وتلك تهمة يجب نفيها وشرف يجب ألا يلصقه أحد بنزار.
قال نزار:
لم يبق نهدٌ أبيضٌ أو أسودٌ
إلا زرعت بأرضه راياتي
لم تبق زاوية بجسم جميلة
إلا ومرت فوقها عرباتي
فصًّلتُ من جلدِ النساء عباءةً
وبنيت أهراما من الحلمات..
وكتبت شعراً لا يشابه سحره
إلا كلام الله فى التوراة .
هل نحن أمام سلخانة أم قصيدة ؟.. هل نزار شاعر أم جزار؟
ثم ما الذى جاء بالتوراة فى هذا السياق؟
إنها القافية وليس أكثر، فالتوراة التى بين أيدينا مترجمة، وقد حرص مترجموها لحاجة فى نفوسهم على أن يجعلوها غاية فى الركاكة فلا سحر ولا بيان.
ما سبق لا يقوله محام عن المرأة، يقوله عدوها فقط.
ثم يقول نزار:
وغدًا سيذوى النهد والشفتان منكِ
فأقدمي وتفكري بمصير نهدكِ بعد موت الموسمِ.
ثم يذل أحداهن ويفضحها قائلًا
"أتهددين بحبك الثاني.. وزند غير زندي؟
إني لأعرف، يا رخيصةُ، أننى ما عدتُ وحدي
هذا الذى يسعى إليكِ الآن لا أرضاه عبدي
فليمضغ النهدَ الذى خلَّفتُه أنقاض نهدِ
يكفيه ذلًا أنه قد جاء ماء البئر بعدي"
القصة إذن قصة أكل ومضغ وفضلات وبئر لا ترد دلوًا !
أين المرأة التى يقولون إن نزارًا هو شاعرها؟
هل هي تلك السحاقية ؟
مطرٌ.. مطرٌ.. وصديقتُها
معها، ولتشرينَ نواحُ
والبابُ تئنُّ مفاصلُهُ
ويعربدُ فيه المفتاحُ
شيءٌ بينهما.. يعرفُهُ
اثنانِ، أنا والمصباحُ
الذئبةُ تُرضع ذئبتها
ويدٌ تحتاجُ وتحتاجٌ
ودثارٌ فرَّ.. فواحدةٌ
تُدنيه. وأخرى ترتاحُ
وحوارُ نهودٍ أربعةٍ
تتهامسُ، والهمس مباحُ
ويكسَّرُ نهدٌ واقعهُ
ويثورُ، فللجرحِ جراحُ
أشذوذٌ.. أختاهُ إذا ما
لثم التفّاح التفاح
نحنُ امرأتان.. لنا قِممٌ
ولنا أنواءٌ.. ورياحُ
فإن لم تكن السحاقية فهل هي التى قال لها:
مغامرة النهد.. ردِّى الغطاء
على الصدر والحلمة الآكلة
كفاك فحيحاً بصدر السرير
كما تنفخ الحيَّة الصائلة
لقد غمر الفجر نهديك ضوءاً
فعودي إلى أمِّكِ الغافلة
ستمضى الشهور.. وينمو الجنين
ويفضحكِ الطفل والقابلة
القابلة هي "الداية"
والرجل بعد أن فعل فعلته قال لها: "عودي لأمك".
ولو نما الجنين سيقسم بالله مثل كل نذل: "ليس ابني".
هل ترى فى هذا الشعر دفاعًا عن المرأة ؟
بل هل ترى غير امرأة الفاحشة عارية النهد والفخذين، التى تتكاثر على بئرها الدلاء؟
ليت شاعرنا لم يقع على موضوعه فى بدء أمره، لو وقع نزار فى الحيرة لكثرت موضوعاته، فقد وهبه الله بساطة ساحرة، إنه كما قال درويش يستطيع كتابة قصيدة من بنطال، ولكن الموضوع الجاهز المعلب طمس شاعرية نزار فقل معجمه حتى أصبح ضئيلًا ضآلة مفزعة، ليس فى معجمه سوى النهد والفخذ وهسهسة القرط وضوء الكتفين، وفحيح السرير، هي مئة كلمة لا تزيد دار فى فلكها نزار منذ مجموعته الأولى :قالت لي السمراء" 1944، وإلى مجموعته الأخيرة "أبجدية الياسمين" 1998.
ليت نزارًا عرف مأساته، لقد كان الحب هو مأساته وجرحه النازف أبدًا، لقد أحب نزار الحب، أما المرأة التى هي موضوع الحب فقد مر بك كيف تكلم عنها نزار.
رحمه الله كان شاعرًا يحترم الحب ولكنه لم يحترم المرأة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صوت الأمة 12 سبتمبر 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق