الخميس، 28 ديسمبر 2017

صفية ابنة زعيم اليهود التى تزوجها النبى




إذا جاء ذكر (قبول الآخر) يقول أحدهم متفاخرًا: نعم لقد تزوج رسولنا بيهودية ومسيحية وتركهما على ديانتهما!

هذا كلام يغيظ لأنه حديث إفك من رأسه إلى قدميه فلم يتزوج رسولنا لا بمسيحية ولا بيهودية، الحق أنه تزوج من امرأة كانت يهودية ولم يعقد عليها إلا بعد أن أسلمت، أما المسيحية ونعنى بها السيدة مارية أم ابنه إبراهيم فلم تكن زوجة، كانت أم ولد وهى مرتبة دون الزوجة وفوق الجارية، وهى أيضًا أسلمت، وعندما ماتت حشد لها الفاروق عمر المسلمين حشدًا للصلاة عليها.

نعود إلى السيدة صفية وهى أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب يعلو نسبها حتى يصل إلى رسول الله هارون بن عمران، فكأنها إحدى بنات هارون، وموسى الكليم عمها.
أبوها هو حيى بن أخطب ملك من ملوك اليهود، ومن أكابر علمائهم، وكذا كان عمها أبو ياسر بن أخطب، تروى السيدة صفية عن نفسها بلسانها فتقول: "لم يكن أحد من ولد أبى وعمِّى أحبَّ إليهما منِّى، لم ألقهما فى ولد لهما قطُّ أهشّ إليهما إلاَّ أخذانى دونه، فلمَّا قدم رسول الله قُباء غدا إليه أبى وعمِّى أبو ياسر بن أخطب مغلِّسين فوالله ما جاءانا إلاَّ مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين، كسلانين، ساقطين، يمشيان الهوينى، فهششتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليَّ واحدٌ منهما، فسمعت عمِّى أبا ياسر يقول لأبى: أهو هو؟ قال: نعم، والله! قال: تعرفه بنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ؟ قال: نعم والله. قال: فماذا فى نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بَقِيتُ."
هذه الرواية ثمينة جدًا لأنها تكشف عن تاريخ عداوة حيى بن أخطب للرسول.
ويذكر الزهرى رواية تزيد الأمر وضوحًا فيقول: "إن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادَثه، ثم رجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أطيعوني؛ فإن الله قد جاءكم بالذى كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه".
فانطلق أخوه حيى بن أخطب وهو يومئذٍ سيِّد اليهود، فجلس إلى رسول الله وسمع منه، ثم رجع إلى قومه، وكان فيهم مطاعًا، فقال: أتيتُ من عند رجلٍ والله لا أزال له عدوًّا أبدًا.
فقال له أخوه أبو ياسر: يابن أمِّ، أطعنى فى هذا الأمر واعصنى فيما شئتَ بعده، لا تهلك.
قال: "لا والله لا أطيعك أبدًا ."

ثم مرت الأيام وعداء حيى للرسول يتزايد حتى كان يوم معركة بنى قريظة، لقد هٌزم اليهود ولم تغن عنهم أسلحتهم ولا حصونهم، وجاء حيى مهزومًا ليقتل شأنه شأن مجرمى الحرب، فالرجل لم يكن يترك مناسبة إلا وحارب فيها الرسول وكان يؤلب عليه كل القبائل عربيةً كانت أم يهودية.
جاء إلى ساحة القصاص وقد مزق جبته بيديه لكى لا ينتفع بها غيره، ثم نظر إلى الرسول وقال: أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس، فقال‏: ‏ أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر ملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل.
 ثم جلس فضُربت عنقه.‏
 
إذا قتل والد صفية بأمر الرسول، وكانت السيدة صفية قد تزوجت من سلاَّم بن مشكم، وكان شاعرًا، ثم طلقها فتزوجها كنانة بن أبى الحُقَيْق وكان شاعرًا أيضًا وكان من زعماء اليهود.
 ثم مضت الأيام حتى جاءت معركة خيبر وكانت فى بداية العام السابع من الهجرة النبوية، وفى تلك المعركة قتل كنانة جنديًا مسلمًا هو محمود بن مسلمة، وقرب نهاية المعارك تم القبض على كنانة فقتله محمد بن مسلمة قصاصًا لأخيه.
على ذلك فقدت صفية وهى ما تزال شابة فى ريعان شبابها الأب والزوج ومعهما المكانة العائلية ومركز القيادة، فبهزيمة يهود خيبر لم تقم لليهود بعدها قائمة فى كل الجزيرة العربية .

الآن نحن أمام مشهد السبى وهو مشهد كان مألوفًا فى الحروب القديمة، صفية الأميرة ابنة الملوك وقعت فى السبى شأنها شأن غيرها، فجاء الصحابى دحية الكلبى إلى الرسول وقال له "أعطنى جارية".
فقال له الرسول: اذهب وخذ جارية.
فذهب دحية إلى حيث تقيم النساء اللاتى وقعن فى السبى وأخذ صفية.

أحد المسلمين النابهين لم يعجبه ما فعله دحية، لأن هذا المسلم النابه كان يعرف أن صفية هى ابنة الملك، وفوز دحية بها سيفتح بابًا من الصراع، فدحية وإن كان صحابيًا إلا أنه ليس من مشايخ الصحابة ثم أن صفية قد لا تنقاد إليه لأنها قد ترى نفسها فوقه وتراه دون منزلتها، ثم إن الجنود قد يقول أحدهم: لماذا يحصد دحية هذا الشرف دوننا وهو واحد منا وقد حاربنا مثلما حارب؟
ذلك المسلم النابه انطلق إلى الرسول وقال له: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيى سيدة قومها، وهى ما تصلح إلا لك.
تلك المحادثة القصيرة كانت أول سماع للرسول بصفية، فطلب الرسول صاحبه دحية وقال له: خذ جارية من السبى غيرها.
لقد أدرك الرسول أن بقاء صفية مع غيره سيفتح بابًا للفتنة، ولكن ما أصعب الموقف لقد علم الرسول أنه أمام ابنة الأكابر الذين قتلوا فى حروبهم معه.

ترى هل ستحب صفية الرسول وتقبل به وقد قتل جيشه أباها وزوجها وعامة أهلها؟
ذهب رسولنا الكريم إلى لقاء صفية وجهًا لوجه فقال لها: لم يزل أبوك من أشد يهود لى عداوة حتى قتله الله.
 فقالت: يا رسول الله، لا تزر وازرة وزر أخرى.
 فقال لها الرسول: اختارى، فإن اخترتِ الإسلام أمسكتُكِ لنفسى، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقى بقومك.
 فقالت: يا رسول الله لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعونى، حيث صرت إلى رحلك وما لى فى اليهودية أرب، وما لى فيها والد ولا أخ، وخيَّرتنى الكفرَ والإسلامَ، فالله ورسوله أحب إلى من العتق وأن أرجع إلى قومى.
تلك كانت جلسة تصفية حساب وتطهير جراح غلق الدفاتر القديمة.

صفية قبل إسلامها ولأنها ابنة علماء كانت تعرف يقينًا أن محمد بن عبدالله هو رسول الله حقًا فقد سمعت من أبيها وعمها تأكيدًا لصدق الرجل ثم هى قد رأت فى منامها شيئًا عجيبًا، فعن عبدالله بن عمر قال: رأى رسول الله بعينى صفية خضرة فقال: يا صفية ما هذه الخضرة؟ فقالت: كان رأسى فى حجر ابن أبى حقيق، وأنا نائمة فرأيتُ كأن قمراً وقع فى حجرى فأخبرته بذلك، فلطمنى وقال: تمنِّين ملِكَ يثرب؟
هل هناك قمر غير رسولنا الأعظم؟

بعد جلسة تصفية الحسابات، تحير الصحابة فى أمر صفية، هل ستصبح جارية للرسول أم إحدى أزواجه.
قالوا: إن ضرب عليها الحجاب فهو سيتزوجها.
ما توقعه الصحابة حدث، فقد ضرب الرسول الحجاب على السيدة صفية، وأرسلها إلى صحابية من السابقات وهى أم سليم، وأم سليم هذه هى أم الصحابى الجليل أنس بن مالك، ولكن قبل الاسترسال فى سرد القصة يجب علينا التوقف عند شبهة يقذف بها بعضهم سيرة رسولنا، وهى تلك الشبهة الخاصة بالعلاقة الحميمة التى تكون بين الرجل والمرأة.
رسولنا الكريم كأنه كان يعلم ما سيكون عليه اعوجاج قلوب بعضهم فقالها فى السبايا صريحة مدوية: "لا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً."
وهناك فى كل كتب الفقة باب ضخم جدًا لأحكام العدة الخاصة بالسبايا وإجابة عن كل سؤال قد يشغل بال البعض، ولكن كل الإجابات لا تخرج عن الأمر النبوى الشريف، وهو أن عدة الحامل من السبايا أن تضع حملها، وعدة غير الحامل أن تحيض حيضة، وهناك تفصيل فى حالة السبية البكر والسبية التى بلغت سن اليأس، فليرجع إليه من يشاء.

وقد بلغ تحريم وطء الحامل حد اللعنة، واللعنة متى نطق بها الرسول كانت كبيرة جدًا، فعن أبى الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم: أنه -أى الرسول- أتى على امرأة مجح (أى حامل توشك أن تلد) على باب فسطاط فقال: لعله يريد أن يلم بها؟ يعنى يريد مالكها أن يجامعها
 قالوا: نعم.
 فقال الرسول: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟.
الكلام واضح لا يحتاج شرحًا، وعلى الذين يخوضون فيه معرفة الفرق بين حديثهم عن الدواعش وعن سيد المخلوقات علوية كانت أم سفلية.
نحن نتحدث عن الرسول الذى بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق ولم يبعثه ليكون جبارًا شقيًا.
إذن السيدة صفية فى عدتها عند أم سليم، وعندما انتهت العدة تزوجها الرسول وأقام لها وليمة عرس.

كانت السيدة صفية عليها الرضوان تتمتع بجمال باهر، ثم هناك أمهات المؤمنين عائشة ابنة الصديق وحفصة ابنة الفاروق وزينب بنت جحش وهى ابنة عمة النبى، والسيدة أم سلمة، والسيدة سودة بنت زعمة، وكل هؤلاء بنات سادة العرب، فكيف سيكون اللقاء مع ابنة سيد اليهود؟
نساء الأنصار والمهاجرين أدخلن أنفسهن فى الأمر، القصة تحولت بالمعنى الدارج إلى "فرجة" النساء جميعًا حريصات على معاينة ابنة ملك اليهود وكيف هى، ومع النساء كانت الصديقة عائشة، التى لبست نقابها وراحت تنظر من خلفه لجمال صفية، فدخلتها الغيرة فورًا.
الغيرة ستتحول إلى ملاسنة واضحة، السيدات زينب بنت جحش وعائشة وحفصة أصبحن يدًا واحدة فى مواجهة السيدة صفية.
روى الترمذى عن أنس قال: بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ بِنْتُ يَهُودِيٍّ!! فَبَكَتْ فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ وَهِيَ تَبْكِى فَقَالَ (مَا يُبْكِيكِ) فَقَالَتْ: قَالَتْ لِى حَفْصَةُ: إِنِّى بِنْتُ يَهُودِيٍّ. فَقَالَ النَّبِيُّ (إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ ؛ فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ) ثُمَّ قَالَ (اتَّقِى اللَّهَ يَا حَفْصَةُ).

ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يعد جبر الخواطر من أعظم العبادات فقد كان يضع ركبته الشريفة بجوار الجمل ثم تضع السيدة صفية قدمها فوق ركبته الشريفة لكى تستوى فوق جملها.
هل هناك ما هو أطيب وأرق من هذا؟
إنها أخلاق المبعوث رحمة للعالمين، هو يعرف طبيعة الغيرة لدى النساء حتى لو كن أمهات المؤمنين، وهو يعرف أن زوجه صفية تكاد تواجه منفردة ولا تملك إلا دموعها فيجعلها تصعد إلى جملها واضعة قدمها فوق ركبته الشريفة أمام الناس لكى يقول للجميع: إنها واحدة من أزواجى ولها الكرامة كاملة.
ولكن مساندة الرسول للسيدة صفية لم تذهب الغيرة من قلوب أزواجه عليهن جميعًا الرضوان، فقد حدث أن كان الرسول ومعه السيدتان صفية وزينب بنت جحش فى سفر، فاعتل (أى مرض) بعير السيدة صفية، وكانت السيدة زينب لديها إبل كثيرة، فطلب منها الرسول بعيرًا تقرضه لصفية فرفضت السيدة زينب وقالت: "أنا أفقر (أعير) يهوديتك؟".
فغضب الرسول من الكلمة حتى أنه هجر السيدة زينب قرابة الشهور الثلاثة.
من ناحيتها لم تتأثر السيدة صفية بتلك الملاسنات، لأنها كانت حكيمة عاقلة فعذرت نساء النبى وهن بنات سادة العرب ومن قريباته فى الغيرة عليه، ومضت حياتها معه على أحسن ما يكون حتى جاءت أيام مرضه الأخيرة فذهبت مع نسائه لعيادته حيث كان يرقد فى بيت عائشة، فنظرت إلى حبيبها الذى كان معها نعم الحبيب ونعم السند ونعم الزوج ونعم الرجل وفاضت عيناها وهى تراه يعانى أشد المرض ثم قالت وهى تبكى بدمع الوفاء والعرفان والمحبة: "إنى والله يا رسول الله! لوددت أن الذى بك بى".
كلمة السيدة صفية جعلت أزواجه عليهن الرضوان يغمزن بأبصارهن.
رسولنا الذى هو بالمؤمنين رؤوف رحيم رأى الغمزات، فقال لنسائه "مضمضنّ" أى اغسلن أفواهكن.
فقلن: من أى شىء؟
فقال الرسول: من تغامزكن، وإنها والله لصادقة.
هذا القسم النبوى الشريف يكفى السيدة صفية ثم يفيض على كل امرأة تعرف خلق الوفاء وآداب الحب الطاهر المنزه على المصالح الفانية.


نعم كانت أمنا أم المؤمنين السيدة صفية صادقة لقد بشرها الله فى منامها بالقمر، وها هو قمرها وقمر كل الأكوان قد أصبح زوجها وحبيبها، وها هو مريض فكيف لا تفديه بنفسها؟
ثم لحق رسولنا بالرفيق الأعلى، فبقيت صفية آية من آيات الصفاء والمحبة، سمعت مرة نفرًا من المسلمين يتلون القرآن فصاحت بهم: هذا هو القرآن فأين البكاء؟
نحن أمام سيدة من سيدات الخشوع، القرآن عندها يعنى تطهير العين بدموع الخشوع والخضوع لرب القرآن.

ثم تواصلت حياتها حتى كارثة الفتنة التى راح ضحيتها عثمان بن عفان، كانت تريد مساندته وفض المتظاهرين عنه ولكنها لم تستطع، فجعلت بين بيتها وبيته ممرًا ترسل من خلاله الماء والطعام للإمام الذى حاصرته نيران الفتنة.
وبعد عثمان جاء الإمام على فهدأت الحياة شيئًا ما، حتى استشهد الإمام على وجاء حكم معاوية وفيه ماتت ودفنت بالبقيع فى مدينة زوجها وحبيبها بعد أن سطرت أعظم آيات العرفان والمحبة، فعليها وعلى سيدات آل البيت الرضوان .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة "صوت الأمة" 2017

هناك تعليق واحد: