تعد الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة
إلى المدينة المنورة، هى ثانى أهم وأخطر حدث فى الإسلام.
كان الحدث الأول هو نزول الرسالة ذاتها،
فى تلك الليلة المباركة التى عرف فيها الرجل القرشى الصادق الأمين محمد بن عبدالله
أنه من الآن فصاعدًا قد أصبح رسول رب العالمين للعالمين .
تكتسب الهجرة أهميتها الاستثنائية فى ضوء ما عرفناه من عداء قريش للرسول وأصحابه، ذلك العداء الذى وصل إلى حد حصار بيت محمد لقتله، وبقتله ينتهى الدين الذى صدّع أدمغتهم ليس بدعوته إلى توحيد رب العالمين فحسب، بل لدعوته إلى المساواة بين كل البشر، فهل يقبل رجل مثل عمرو بن هشام (أبو جهل) بالوقوف فى صف واحد مع رجل مثل بلال بن رباح؟
جاءت الهجرة لتنقذ الدين وتؤسس وطن الحرية
والعدل والخير والجمال ولتخلّص بنى الإنسان من عبادة بعضهم البعض ومن السجود لأحجار
لا تسمع ولا ترى.
وقد عنى المسلمون بحوادث الهجرة أشد عناية
ودوّنوا أدق تفاصيلها، ولكن وقع البعض فى روايات ضعّفها العلماء.
وللحق فإن ما تعلق به عامة الناس من روايات
قد ذكره جماعة من العلماء الكبار، فمن ذلك ذكرهم لقصة العنكبوت التى نسجت خيوطها على
فتحة باب ثور لتخفى النبى عن عيون مطارديه وكذلك قصة الحمامتين اللتين باضتا على باب
الغار.
روى الإِمام أحمد بن حنبل فى مسنده: فصعدوا على الجبل (يعنى مشركى قريش) فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه.
وقال ابن كثير، رحمه الله: ويقال والله
أعلم إن العنكبوت سدّت على باب الغار، وأن حمامتين عششتا على بابه.
وضعّف الشيخ الأستاذ أحمد شاكر محقق مسند
الإمام أحمد القصة وقال: "فى إسناده نظر".
ثم جاء الشيخ الألبانى فضعّف القصة ثم قال: إن آية {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} فيها ما يؤكد ضعف الحديث؛ لأنها صريحة بأن النصر والتأييد إنما كان بجنود لا تُرى، والحديث يُثبت أن نصره - صلى الله عليه وسلم- كان بالعنكبوت، وهو مما يُرى، فتأمّل.
والأشبه بالآية أن الجنود فيها إنما هم
الملائكة، وليس العنكبوت ولا الحمامتان.
ثم قال الألبانى: واعلم أنه لا يصح حديث
فى عنكبوت الغار والحمامتين.
ومن علماء الهند يأتى أبو تراب الظاهرى، فيقول: وقد ورد أن حمامتين وحشيتين عششتا على بابه، وأن شجرة نبتت، وكل ذلك فيه غرابة ونكارة من حيث الرواية، وفى رواية فيها غرابة ونكارة أن الحمامتين أفرختا، وأن حَمَامَ الحرم المكى من نسل تلك الحمامتين، وكل ذلك بأسانيد واهية.
وقال شيخ جزيرة العرب ابن عثيمين، معلقا على قول أبى بكر الصديق (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا): فيه دليل على أن قصة نسج العنكبوت غير صحيحة، فما يوجد فى بعض التواريخ أن العنكبوت نسجت على باب الغار، وأنه نبتت شجرة وكان على غصنها حمامة.. كل هذا لا صحة له؛ لأن الذى منع المشركين من رؤية النبى وصاحبه أبى بكر ليس أمورا حسية تكون لهما ولغيرهما بل هى أمور معنوية وآية من آيات الله عز وجل، فما كان عشٌّ كما يقولون، ولا حمامة وقعت على الغار، ولا شجرة نبتت على فم الغار، ما كان إلا عناية الله عز وجل؛ لأن الله معهما .
ومن المشهور المتداول بين الناس أن الأنصار قد استقبلوا الرسول وهم ينشدون:
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
وهذا النشيد رواه غير واحد من العلماء،
يأتى البيهقى على رأسهم، وأصله ما قاله ابن عائشة: لما قدم النبى صلى الله عليه وسلم
المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقولون:
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
وجاءت طائفة من العلماء فقالوا: هذا إسناد ضعيف، فيه انقطاع كبير؛ فإن ابن عائشة متأخر الوفاة، وهو من شيوخ الإمام أحمد وأبى داود، فكيف يروى حدثا من أحداث السيرة النبوية من غير إسناد؟
وقال الحافظ العراقى: هذا حديث معضل.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هو سند
معضل.
وقال الألبانى: هذا إسناد ضعيف، رجاله
ثقات، لكنه معضل، سقط من إسناده ثلاثة رواة أو أكثر، فإن ابن عائشة هذا من شيوخ أحمد
وقد أرسله.. فالقصة برمتها غير ثابتة.
أما الإمام ابن القيم فقد نسف القصة من جذورها فقال فى كتابه زاد المعاد: إن هذا الحديث وهم ظاهر؛ لأن "ثنيات الوداع" إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام.
وشرح كلام ابن القيم معناه، أن مكة المكرمة هى جنوب المدينة المنورة، فالرسول قادم من الجنوب إلى الشمال، بينما ثنيات الوداع هى فى شمال المدينة فى الطريق إلى بلاد الشام، فكيف يظهر الرسول فى مكان ليس فى طريقه ولا يقصده؟
وبعد هذا التبيان لحقيقة الهجرة، ليتنا نعرفها على وجهها الصحيح، فقد كانت خطوة عظيمة جدا وخطيرة جدا، درسها صلى الله عليه وسلم خير دراسة وخطط لها خير تخطيط، ثم بعد نفاد جهده البشرى كانت عناية الله التى هى فوق كل شىء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة "صوت الأمة" 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق