قصة قصيرة
تصادقنا وكلانا في ريعان شبابه، كانت بشرتها ناصعة البياض، وكانت عيناها عسليتين، لم تكن تشغل نفسها باختيار مساحيق الزينة، فكل ملامحها متناسقة، قد زينها الله بفتنة كامنة، لم تكن تنفلت من حشمة فرضتها على نفسها إلا عندما تضحك، كانت ضحكاتها عنوانًا لمهرجان من البهجة اللعوب يتمتع به جليسها.
اختصارًا لم تكن تهتم سوى بأمرين، أمر شعرها الناعم الجامع بين اللونين الأسود والبني، كانت تقصه قصة الغلمان، تقصّره من جانبيه ومن مؤخرته، ثم تطيل مقدمته بعض الإطالة، وتجمع المقدمة كلها وتجعلها تاجًا يعلو جانب رأسها الأيمن.
وكانت تهتم جدًا بملابسها، فهي دائمًا نظيفة لامعة تبرز علامات أنوثتها في غير ابتذال أو عري فاضح، وكانت إذا أثنيت على اختيارها لملابسها تطلق واحدة من مفاتن ضحكاتها ثم تقول:
ـ ملابسي هي التي تختارني.
لم أكن أصدق إجابتها، وكنت أحسبها نوعًا من مبالغات النساء اللطيفة، والآن أقول: ليتني صدقتها!
الحقيقة لم تكن هناك جوامع كثيرة تجمعني بها، ولكني كنت دائمًا أستمتع بقضاء بعض الوقت معها.
***
عندما صادقتها كانت فتاة بكرًا، جمع بيننا العمل، فكلانا يعمل مهندسًا في شركة هندسية حكومية كبرى، أعمل أنا في المقر المركزي الذي يطل مبناه على النيل، وتعمل هي في فرع متاخم لصحراء ضاحية مدينة نصر.
كانت كثيرًا ما تقول:
ـ عملك بالقرب من النيل أكسبك رعونة ما، وعملي بالقرب من الصحراء أكسبني حزنًا ما.
الحقيقة لم تكن تفسر كلامها، والحقيقة لم أكن أهتم بتحليلها الطائر لشخصيتي وشخصيتها، وكنت أنسبه إلى مبالغات النساء اللاتي يدعين العمق أو المعرفة، أو يرغبن في الظهور بمظهر الحزينات، لعلمهن بأن الحزن أو ادعاءه يجعل المرأة مثيرة على نحو من الأنحاء.
أذكر أن علاقتنا بدأت منذ يوم البطيخ، وهو اجتماع شهير جدًا في تاريخ شركتنا الكبرى، وأصل قصته أن السيد رئيس مجلس الإدارة، ومعه السادة أعضاء مجلس الإدارة، قد دعوا لاجتماع يضم نخبة من مهندسي الشركة، كنت أنا وهي من تلك النخبة المنتخبة.
السيد رئيس المجلس والسادة أعضاء المجلس هم جماعة من اللصوص الذين لا يشق لهم غبار، وعلى أيديهم وبفضل سرقاتهم، منيت الشركة بخسائر تقصم ظهر جبل، وعندما فاحت رائحة الخسائر، دعا مجلس الإدارة إلى اجتماع نخبويّ حمل عنوان: "سنعبر الواقع نحو آفاق المستقبل السعيد".
عندما تسلمت بطاقة الدعوة ضحكتُ وذهبتُ، هي ستقول لي فيما بعد:
ـ كدت أرفض الحضور وليكن ما يكون، ولكني وجدتها فرصة للنظر في عيون اللصوص.
جلسة الاجتماع كانت في قاعة فندق فخم، تحلقنا حول مائدة بيضاوية، جاءت جلستي في مواجهة التي سأعرف بعد قليل أن اسمها أمل، وستصبح بعد الاجتماع صديقتي غريبة الأطوار.
تحدثوا جميعًا في كل شيء وعن كل شيء، دون أن يقترب أحدهم من منبع الكارثة، كان واضحًا أنهم جميعًا يريدون غسل أيديهم من دماء الشركة بعد أن أزهقوا روحها بسرقاتهم وبلادتهم في إدارتها، عندما كانت أصواتهم تجلجل في القاعة الفخمة مكيفة الهواء معطرة النسمات، هجم النوم عليّ، نوم ثقيل يصعد من بقعة ما من قلبي ويتمركز في عينيّ فأفتح فمي باتساعه متثائبًا، ومع التثاؤب أغلق عينيّ فيسقط وعيي في ظلام دامس، غائبًا عن الاجتماع والمجتمعين.
لا أدري كم مرة هاجمني التثاؤب، ولكن في مرة من المرات، فتحت عينيّ لأرى أمل تتثاءب هي أيضًا، التقت عينانا وابتسم كل منا لصاحبه، ثم رحنا نتثاءب في اللحظة ذاتها، كان الأمر عجيبًا حقًا، فلو كنا قد اتفقنا على التثاؤب المشترك، وتدربنا عليه، ما كان ليحدث بذلك التزامن الدقيق للغاية، ومع انتهاء كل نوبة تثاؤب كان عيوننا تلتقي وشفاهنا تبتسم.
قد يكون سيادة رئيس مجلس الإدارة قد لاحظ مباراة التثاؤب القائمة بيني وبين أمل، وقد يكون أحدهم قد لفت نظره إليها، لأنه فجأة قطع حديث متحدث وصاح:
ـ المهندسة أمل يحيى، هل تتكرمين علينا وتذكرين ملخصًا لما قاله السيد المهندس العضو المنتدب!
أرسلت لي أمل نظرة وهي تقف متمهلة، أجبت نظرتها بنظرة تعني (الله معك).
ابتسمت أمل للجميع ثم طفقت تتحدث حديثًا شنيعًا، لفت نظري فيه حرصها على استخدام الفصحى، إضافة إلى سلامة مخارج حروفها.
قالت أمل كلامًا كثيرًا، فصيحًا نعم، ومرتبًا نعم، لكنه لا يعني شيئًا البتة.
أوقفها السيد رئيس مجلس الإدارة بنظرة نارية وبضربة يد على مائدة الاجتماع، ثم قال:
ـ شكرًا سيدتي على كل هذا البطيخ، أنت ـ ثم أشار إليّ ـ وزميلك، اذهبا إلى أقرب مكان يقدم المشروبات المنبهة.
كنا نتجه نحو باب الخروج بدون أن تعلق بنا ولو ذرة واحدة من تراب الخزي أو العار، نحن لسنا مطرودين من اجتماع مهم، نحن ذاهبان لتناول مشروب منبه.
قبل أن نصل للباب بخطوة جاءنا صوت السيد الرئيس لينًا كأنه أب يودع أولاده:
ـ قبل مغادرتكما مرا على السكرتيرة، تجدانها في الممر الذي على يسار المصعد.
ما إن أغلقتُ الباب خلف ظهرينا حتى سألتني:
ـ فيم كان تثاؤبك؟ ولا تقل لي إنه قلة نوم.
أجبتها:
ـ يصيبني التثاؤب عندما أفقد التواصل.
هزت رأسها معجبة بصياغتي ثم قالت:
ـ قبل أن تسألني سأجيبك، أتثاءب عندما يحاصرني الكذب، هذا الاجتماع كاذب، وعنوانه كاذب، وكل المتحدثين كذبة، إنهم يعرفون أننا نعرف أنهم لصوص، ومع ذلك يصرون على ترويج أوهام وتسويق أكاذيب، فكيف لا أتثاءب؟!
كنا قد وصلنا إلى حيث تقف لامعة كاذبة سكرتيرة السيد رئيس مجلس الإدارة، التي قادتنا إلى غرفة فخمة للغاية، ملحقة بقاعة الاجتماع، وفتحت درج مكتب، وتناولت ظرفين مغلقين، قدمت لكل واحد منا ظرفًا، ثم جعلتنا نوقع على إيصالي استلام.
غادرنا السكرتيرة اللامعة الكاذبة، فقالت أمل:
ـ أراهن أنك لم تقرأ الرقم الذي وقعت على استلامه.
قلت:
ـ لقد ربحتِ الرهان، أنا حقًا لا أعرف ما بالظرف.
قالت:
ـ الملاحظات الصغيرة شأن نسائي، بالظرف مائة وخمسة وسبعون جنيهًا مصريًا فقط لا غير.
فتحت فمي مندهشًا من ضخامة المبلغ وقلت ضاحكًا:
ـ هذا أثمن تثاؤب مر في حياتي.
عندما أصبحنا خارج الفندق، تحيرت في الخطوة التالية، هل أدعوها لشراب منبه كما أوصى سيادة رئيس مجلس الإدارة، أم يذهب كل منا لشأنه؟
قطعتْ عليّ حيرتي قائلة:
ـ المبلغ ضخم، لا شك في ضخامته، إنه يكاد يقترب من ربع راتبي، أظن أنه مال حرام، هل تشاركني الظن؟
ابتسمت ثم قلت:
ـ هو حرام بكل تأكيد؛ لأن الإدارة تغطي على سرقاتها باجتماعات وندوات، وتقدم للحضور مالًا مقابل التصفيق، الحمد لله أننا لم نصفق، كنا نتثاءب فقط.
قالت:
ـ هذا جيد، ولكن كيف سننفق مالًا نعتقد أنه حرام؟
قلت:
ـ سأشتري به مخزونًا من السجائر يكفيني لشهر أو شهرين.
قالت وهي تبتسم:
ـ أنا سأشتري بمالي قمصان نوم تذهل العابد عن عبادته.
قالت جملتها ببساطة متناهية، ثم أطلقت أولى ضحكاتها في تاريخ علاقتنا.
كأني العابد الذي أذهلته فتنة قمصان نومها، وقفت بلا حراك، مأخوذًا بهذه الجنيّة التي لا أعرف عنها سوى اسمها واسم أبيها.
كأنها لاحظت شرودي خلف جملتها المفاجئة، فباغتتني مادة يمينها وهي تقول:
ـ أقدم لك نفسي، أمل يحيي الغريب، مهندسة معمارية وزميلة لحضرتك في فرع منسي يقع على تخوم صحراء مدينة نصر، آنسة وأفكر في الزواج، ملفوفة القوام كما ترى، أجيد الطبخ وأقدس الحياة الأسرية، لا أهوى جمع الطوابع ولا المراسلة ولا تربية الحيوانات الأليفة أو المتوحشة، أحب القراءة الحرة وسماع التواشيح، ها، كدت أنسى الإشارة إلى أنني من مواليد برج الجوزاء، وهو برج ابن شياطين، أبعد الله عنك شروره.
التقت يدانا في مصافحة حارة، ولقد لاحظتُ أن قبضتها قوية لا تزعم النعومة شأن الآنسات.
وهي تصافحني أو بالأحرى تقبض على يمني، أطلقت ضحكتها الثانية في تاريخ علاقتنا وقالت:
ـ اعترف! لقد أربكتك قوة قبضتي.
ثم أطلقت الضحكة الثالثة.
ضحكة أمل لا تُسمع إنها تذاق، وقد يمر بك مذاق ضحكتها مرة في حياتك فلا تنساه أبدًا، وقد لا تذوقه فتظل جاهلًا بنعمة كبرى من نعم الحياة.
لوحت بيمينها أمام وجهي وهي تصيح في فرح:
ـ ها، أين ذهبت؟ قدّم لي نفسك، فأنا لا أعرف حتى اسمك.
قلت:
ـ أنا محمود طه رجب، مهندس معماري وزميل حضرتك، وأعمل في المقر الرئيسي الذي على النيل، أحب البناء والقراءة والغناء ثم لا شيء آخر، لا أفكر في الزواج، ولا أقدس شيئًا سوى الله.
انتبهتُ إلى أننا نسير متجاورين بألفة الصداقات العريقة، كنا قد ابتعدنا عن الفندق ونسير في شارع نظيف بدون هدف.
قالت:
ـ اسمك جيد وله صيغ تدليل كثيرة، اسمي أنا ممل، أبي يدللني ويطلق عليّ لقب "النص"؛ فهو يراني قصيرة مقارنة بأمي، للحقيقة أمي سيدة عملاقة، هل أنا قصيرة حقًا؟
ضحكتُ لأغطي دهشتي من جرأتها وتدافع كلامها وقلت:
ـ أنت سيدة كاملة ولست نصفًا بحال من الأحوال.
أطلقت الضحكة الرابعة في تاريخ علاقتنا ثم قالت:
ـ أنت مغازل طيب، أعني مغازل وديع منزوع الأنياب، ولذا سأقدم لك مكافأة تعوضك عن أنيابك المنزوعة، سأدللك من الآن فصاعدًا باسم حمودة، نحن سنلتقي كثيرًا، لقد أصبحنا صديقين، قل لي ما هو برجك؟
ابتسمت وقلت:
ـ أنا لا أهتم بهذه المسألة، أعرف تاريخ ميلادي طبعًا، لكن لا أعرف برجي.
بدهشة صادقة قالت:
ـ عجيب، ما هو يوم ميلادك؟
أجبت:
ـ أواخر شهر يناير.
بأسى حقيقي تنهدت ثم قالت:
ـ الدلو ! ليس أسوأ من الجوزاء سوى الدلو!
تعجبت من أساها الحقيقي وقلت:
ـ هذا كلام فارغ، لا يعني شيئًا.
توقفت عن السير غاضبة وقالت:
ـ أرجوك، لا تسفّه شيئًا لأنك لا تعرف أسراره، رأيك أغضبني ولذا سأحرمك من مكافأة إضافية كنت سأقدمها لك.
بدون وعي وبعفوية الصداقات العريقة لمست كتفها في حنان قائلًا:
ـ أعتذر يا نص، أرجوكِ لا تحرميني من المكافأة.
أطلقت الضحكة الخامسة في تاريخ علاقتنا ثم سكتتْ لحظة وبعدها سألتني:
ـ هل تحب الغناء حقًا؟ تجيد تذوقه يعني؟
قلت ببساطة:
ـ أزعم ذلك.
هزت رأسها معجبة وقالت:
ـ يعجبني هؤلاء الذين لا يدعون امتلاك اليقين، الغناء إحدى مشاكلي الخاصة، أنا أغني لكي أثبت لنفسي أنني على قيد الحياة، استمعت للجميع، وأحببتهم جميعًا، بداية من سي عبده الحامولي وصولًا لسي عمرو دياب، هذا الولد ستكون له بصمته، هناك بنت اسمها أنغام لعلك استمعت إليها، صوتها عربي أصيل وأزعم أنها تحس ما تغنيه، ينقصها فقط زيادة وزنها كيلو جرامات وعملية تقويم لأسنانها، تكوينها الطفولي يفقدها كثيرًا من المصداقية، عندما تصبح أنثى ناضجة ستحقق شعبية خرافية.
قاطعتها ضاحكًا:
ـ نحن نسير في الشارع ولسنا في محاضرة موسيقي يا نص، أم تنوين أكل مكافأتي؟
اكتسى وجهها بجدية مفاجئة كأنها مقدمة على فعل خطير، ثم قالت:
ـ هناك مغنية تونسية قديمة اسمها عليا، لها أغنية تذكر فيها اسم تدليلك الذي اخترته لك.
افتعلتْ سعالًا كالذي يفتعله قراء القرآن قبل التلاوة، وبجدية تامة بدأت تغني بصوت له مذاق ضحكتها:
"جاري يا حمودة.. حمودة، دبر عليا يا أمه
الناس رقودة.. رقودة، وأنا نومي حرام عليا يا أمه
جاري يا حمودة.. حمودة.. إنت اللي مشعلل ناري يا أمه
تمنيتك بـداري.. بداري.. مثل الشمعة ضوي عليا يا أمه ".
عندما انتهت من الغناء كنت قد سقطت في هوة حبها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر الجزء الثاني والأخير من القصة يوم الاثنين القادم بإذن الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق