الاثنين، 30 يناير 2017

القبلة الأولى






قبل القبلة بسنوات

كنتُ قد نلتُ مئات القبلات، لكنها جميعًا كانت برائحة ملابس متسخة، عافتْ نفسي القبلات، ولكن ظللت أحلم بقبلة نظيفة مشرقة.

عندما لم يتحقق حلمي حتى بعد أن أصبحت رجلًا يضرب الشيب رأسه، رأيت أن أحلامي ليست سوى أوهام وأن كل القبلات المتاحة هي برائحة الملابس المتسخة.

                          ***

 عندما أقف كل صباح أمام مرآتي لأضع اللمسة الأخيرة على زينتي، أصارح نفسي بأنني لا أستطيع الفصل بين نداء الحب وأشواق الجسد.

أشعر بظلم وقسوة ذلك الفصل، فالحب هو الاثنان معًا، فلا يمكنني أن أحب رجلًا ولا أشتهيه، كما لا يمكنني اشتهاء رجلٍ لا أحبه.

أعترف أمام مرآتي أن خيالاتي عن مشاهد لقاء جسدين محبين، تكمل بناء الروح وتؤدب القلب، لم أستطع يومًا التعايش مع الحسية التي لا تقوم على أساس راسخٍ من حبٍ جارف، وهذا يفسر خوفي الذي يشلني كلما تذكرت أنني قد أتزوج برجل لا أحبه، كيف سأسمح له بمضاجعتي؟ بل كيف سأسمح له بأن يقبلني؟
 

قبل القبلة بسنة

كان قلبي قد تصحر ونبتتْ على أطرافه بل وفي مركزه نباتات شوكية سامة، كنت أقاوم التصحر أيامًا ويهزمني اليأس شهورًا، كنت أعرف أن المطر وحده هو الذي يغلب التصحر، كنت أقلب وجهي في السماء منتظرًا سحابة حبلى بالمطر.

في ليلة مقمرة رأيت السحابة تشاكس القمر، تظهره حينًا وتخفيه حينًا.

ناشدتها الله أن تهطل عليّ.

                           ***

أصبحتُ ناضجةً واستويتُ على عرشٍ من خيالاتي الخاصة. من نظرة عينيه عرفتُ أنني سحابة خيرٍ حبلى بالمطر، لكن كيف أهطل عليه؟

                          ***

أدعوها إلى لقاء فتلبي، أراقب كل ما تصنع، حتى الشاي ترشفه بأناقة لا تصنُّع فيها. ألمح في قدميها سوارًا ذهبيًا، أسألها عنه فتنظر إلى الأرض وتهمس: "إنه خلخال".

يفتنني رنين الكلمة (خلخال). أعود إلى زمن الصبايا حاملات الجرار وخلاخيلهن الصاهلة بنداء الحب وأشواق الجسد.

 

                         ***

لا لم أنضج بعد، عندما لمس أصابع يدي اليسرى جف ريقي وعندما أخذ كفيّ بين كفيه وقبلهما معًا، علت دقات قلبي، وعندما تشمم رائحة باطن كفيّ ثم حبس شهيقه في رئتيه ضربتْ دفقة دم عاتية منبت شعري.

لقد أعادني إلى مراهقتي وها هو وجهي يحتقن خجلًا من مجرد استعادة مشهد كنت أظنه سينتهي أثره بانتهاء وقت حدوثه.

أطمئن إلى لمعان خلخالي الذهبي ثم أخترع لحنًا تقول كلماته: "لست ناضجة أنا مراهقة.. يحمّر وجهي عندما ينظر لي حبيبي.. يكاد قلبي يقفز من صدري عندما يلمس كفي.. حبيبي لا أستطيع مراقصتك.. سأكتفي لكي لا أسقط في غيبوبة النشوة بأن أراقص ظلك".

 

قبل القبلة بخمس ساعات

عادة ما أستعد لميعادها، أسرف في كل شيء، أحرم نفسي من الأكل لكي آكل معها بشهية، أحرم نفسي من قهوتي الصباحية لكي أتناولها معها، أغتسل جيدًا، بل جيدًا جدًا، أتمنى لو نبت لي جلد جديد لم يلحقه من تراب الأحزان شيء أطمئن على قلبي، أشكره على أنه لم يخذلني وقاوم التصحر حتى هطلت السحابة.

                         ***

أفتعل الضيق من كشفه لكل أوراقي، يضحك من غضبي ويسرد عليّ أدق تفاصيل مشاعري قبل لقائه بخمس ساعات.

يقول: "تغادرين مكتبك وتذهبين ناحية النافذة، تشاهدين عجوزين يعبران الشارع متساندين، تقولين في نفسك سأعيش في حضن حبيبي حتى يحصي نمشًا سيبقِع ظهر يدي. تعودين إلى المكتب تتناولين هاتفك المحمول، تفتشين ذاكرة رسائله، تقرئين رسالة مني، تتأملين كلماتها القليلة، تقسمين أن حروفها مختلفة".

أقاطعه قبل أن يسترسل: "هذه أوهامك.. أنا لست متلهفة عليك كما تظن".

 

قبل القبلة بأربع ساعات

تحسست ذقني فوجدتها كما أكرهها، ليست حليقة ناعمة ولا طليقة مسترسلة، يذكرني ملمسها بنباتات شوكية سامة كانت تنبت في قلبي قبل أن تهطل عليه السحابة.

أتوتر من دون سبب مفهوم، أرجع توتري إلى اختناقي بالشوق إليها، لا أرغب في شيء سوى رؤيتها الآن، الآن وليس بعد أربع ساعات.

عندما غادرت بيتي، ابتعت جرائد كثيرة أعلم أنني لن أقرأ منها حرفًا.

دخلت إلى المطعم الذي حددناه مكانًا لموعدنا. اخترت مائدة في ركن قصي من أركان حديقة المطعم، جف ريقي فطلبت (رغم برودة الجو) ماءً مثلجًا. ألقى نظرة تائهة إلى عناوين الجرائد ثم نظرة مدققة إلى مدخل المطعم ثم امتص الماء المثلج.

يطول الانتظار، أحس ببوادر وجع في ذراعي اليسرى، أحاول تسكينه بتدليك مفاصل الذراع.

لماذا لا تطل الآن لكي يسكت هذا الوجع؟

 

                          ***

قبل مغادرتي مقر عملي راجعت للمرة العاشرة تاريخ اليوم، لقد تأكدت مجددًا أن الليلة ستكون مقمرة، أحب ذلك الشجن الذي تبثه الليالي المقمرة إلى قلبي.

أشتاق للمسة منه، أتمنى لو صارحته: "كف عن حلاقة ذقنك كأنك أمرد، اترك لي شيئا من خشونتها".
 

قبل القبلة بثلاث ساعات

عندما ستأتي لن أصافحها، سأفتح ذراعيّ على امتدادهما لتسقط ناضجة ومعطرة في حضني، سأكون مباغتًا، لن أتركها تعود خطوة للوراء فتتفادى الحضن المشتاق، سأقبل خديها سريعًا، سترتبك ثم ستلمع عيناها بغضب متدلل وتغمغم: "هكذا.. ما أحكمه من فخ، ما علينا لن نتعاتب الآن".

هكذا كنت أحادث نفسي وهكذا ذهب وجع ذراعي، وهكذا ظللت مصلوبًا على باب انتظارها.

                         

                      ***

تناول قطعة لحم ووضعها في طبقي قائلا: "وددت لو وضعتها في فمك ولكن أخشى غضبك".

أدرتُ عنه وجهي وهمست لنفسي: "لا يعلم أنني ما كنت سأغضب، لا يعلم أنني كنت سأسعد فيما لو جعلني أسقط بين ذراعيه في عناق أشتاقه".

طافت عيناي بوجهه، توقفت عند ذقنه التي لا هي حليقة ولا طليقة.

 زفرت بصوت مسموع، وعندما سألني عن زفيري المفاجئ، قلت:" أحدهم حقق لي اليوم أمنية دون قصد منه".

عندما ألح في طلب المزيد من المعرفة، أجبته بالنبرة التي يحبها: "لن أبوح بأسراري".

 

قبل القبلة بساعة

أعتمت السماء فجأة، خفت أن تقترح الجلوس إلى مائدة مضيئة. أنا أحب نور الله، صباحًا وليلًا، ظهرًا وعصرًا.

 إنها السحابة الحبلى بالمطر تظلل السماء وتتوقف فوق مائدتنا وترسل رذاذها الخفيف.

أهمس للسحابة: "أحبك يا أيتها السحابة ولكن الوقت ليس وقتك، ستخاف حبيبتي الآن من أن يبتل شعرها".

أناشد السحابة: "بالله عليك انصرفي عنا الآن لكي لا تقول حبيبتي بحسمها القاطع: هيا بنا ندخل إلى القاعة الرئيسة".

أتضرع للسحابة: "رذاذك ينعشني ولكنه سيجعلها تغادر بالله عليك اذهبي بعيدًا ".

يوترني رذاذ السحابة، ترى توتري فتتشاغل بتمزيق ورقة إلى قطع صغيرة جدًا.

          

                         ***

ما باله متحفظ هكذا، لقد جئته معطرة فواحة بالشوق، حتى السماء تساعدني وترسل رذاذها، متى يمد يده ويمسح عن شعري قطرات علقت به؟

الليلة مقمرة يا حبيبي، وأنت لا تعرف ما الذي يصنعه بي القمر.

توتره يوترني، كلما مضى الوقت، ضاعت الفرصة، عن أي فرصة أتحدث؟
 

قبل القبلة بنصف ساعة

ذهبتْ السحابة سريعًا وخلفّت جوًا عابقًا برائحة الشبق للحياة. كانت خصلات من شعر حبيبتي قد ابتلت قليلًا: "يا الله اصرف عني حماقة أن أمد يدي لشعرها المبتل".

تستجيب لي السماء وترسل نسمة تضرب جسد الحبيبة ثم ترتد لي حاملة عطرها. أعرف نفسي جيدًا، يثيرني عطرها، بل يهيجني، لكنه الليلة خدرني، لا، ليس هكذا، عطرها الذي يبدو كأنه بخور منابر المساجد هذبني وجعلني شفافًا، عطرها جعلني درويشًا في حلقة ذكرها، جعلني إلى الله أقرب وإلى حقيقة نفسي أقرب معلنًا انتمائي الكامل لحبيبتي.

 

                          ***

لو أعرف فيمَ يفكر؟ ولو أعرف لماذا هو صامت شارد؟ حبيبي كلما مضى الوقت ضاعت الفرصة. عن أي فرصة أتحدث.

 

قبل القبلة بربع ساعة

حانتْ لحظة الوداع وكان عليّ أن أختار بين الخروج من باب الحديقة الجنوبي ومن ثمّ الوصول إلى الشارع العام مباشرة، وبين التوغل في الحديقة مترامية الأطراف والوصول إلى الشارع من بابها الشرقي، لكي أربح وقتًا إضافيًا بحضرتها، دعوتها مفتعلًا التلقائية إلى التوغل في الحديقة.

 

                          ***

لو قادني من المطعم إلى الشارع مباشرة لغضبتٌ منه غضبة العمر، الحديقة متسعة ومنظمة وأشجارها لا تحجب قمري الذي يسكب حليبه فوق رأسي، لا، بل فوق قلبي، يغتسل قلبي بحليب القمر وأهتف للحب أنْ انتصر وطهرني من دنس الحرمان.

 

                           ***

نمشي على مهلٍ، لا نريد لهذا الطريق أن ينتهي، لا نريد لهذا الليل أن ينتهي، لا نريد لهذا القمر البهي أن يغيب.

مرحبًا يا حجر المتوحد المحروم، هكذا هتفت في نفسي، عندما وصلنا إلى الحجر الضخم الأبيض الأملس الذي كثيرًا ما جلست عليه منفردًا أمضغ الصبر والوحشة.

من حق حجري أن يراني بصحبة حبيبتي، سبقتها بخطوة وجلست على حجري أمرجح كطفل قدميّ في الهواء.

 نظرت لي باسمة وجلست بجواري.

 

                         ***

هل يعرف هذا الذي يمرجح قدميه في الهواء أنه هكذا يؤلمني لأنني بعد قليل سأغادره وليس معي غير شوق جامح إليه. قل له يا قمري كلما مضى الوقت ضاعت الفرصة.

 

قبل القبلة بدقيقة واحدة

كنت قد رأيتها في منامي وقد أسلمتني وجهها فاحتضنته بين كفيّ، فبكتْ، فرشفتُ دموعها. ماذا لو أسلمتني في عالم الحقيقة وجهها فاحتضنته بكفيّ فتبكي فأرشف دموعها؟

هل سيختل ميزان الكون لو قبلتُ الآن جبينها المشرق الناعم كأنه حضن أمي؟

 

                          ***

ماله قلبه ينتفض تحت قميصه؟، أكاد أسمع دقاته، إنه يمسك يدي يقبل أصابعي، إنني أغيب الآن، ألمس وجهه كله، أتحسس ذقنه الخشنة النابتة، أمرر أصابعي ببطء ونعومة على شفتيه، إنه يقربني منه، لا، إنه يجذبني، لا، إنني أجذبه، إنه يقبل الآن جبيني، قبلة عميقة شاكرة وممتنة، يا قمري شاهدني جيدًا لكي تقص عليّ حقيقة ما يجري الآن.

 

ثم جاءت القبلة

فجأة وجدتني على بعد شهقة من جبينها، أقسم لم أتعمد شيئًا، لمست خدها الأيمن ليس كما أحب أن تكون اللمسة، ولكنه الخوف من غضبها، ثم كأن جبينها غادر موقعه وأصبح قريبًا مني، هكذا دون وعي أو تفكير أو تردد قبلت الجبين المتسع الناعم كأنه حضن أمي.

تعالت دقات قلبي، كاد يغادر مكانه في صدري ويرمي بنفسه تحت قدميها.

أخذت وجهها نحوي، كانت شفتها السفلى ترتعش، لمحتها وهي ترتعش، كانت حبيبة وقريبة ومطمئنة، وكنت جائعًا ومحرومًا ومتلهفًا، كنت وشفتها في سباق مَنْ منا يتخلص من حرمانه أولًا.

تعالي يا شفة حبيبتي، لقد عشت طويلًا وما أحلى الموت على عتبتك.

كل قبلة قبل هذه كانت موتًا وجحيمًا وكذبًا وخداعًا.

 

                         ***

قل له ياقمري إنني أحب أنفه الذكوري المستقيم، لا أحب الأنوف القصيرة الصغيرة، أشعر كأن أصحابها خبثاء. أحب أن أحك أنفي بأنفه، أحب أن أقبل أنف حبيبي، هذه ليلتي فلمَ لا أفعلها؟، لقد قبلت أنفه، ليس كما أريد وأشتهي ولكنها قبلة تصبرني على حرماني الذي طال سنوات. 

 

                         ***

هذه ليلتي أنا، أعود ثانية إلى شفتيها متمهلًا ومراقبًا، لو تركت نفسي للنشوة فلربما صرخت بكل صوتي.

كنت أقبلها وكانت تقبلني، كنت أحاول ضم شفتها السفلى تلك المتوحشة المكتنزة، وكانت تقبل شفتي العليا، لم تكن خائفة أو مرتبكة، كانت متلهفة ومتجاوبة، لحظتها قلت لها " قدمي لسانك لحبيبك".

                        ***

مسحورة أعطيته طرف لساني فقبض عليه بشفتيه جميعًا، كان يمتصه، وكان الخدر الناعم يشملني، إنني أضيع الآن، احفظ لي يا قمري تفاصيل ما يجري.

 

                         ***

لسانها حار لعوب يريد أن يتملص من شفتيّ، لكنني أقبض عليه بقوة، أمتصه كأنني أتقصى سر عذوبة كلماته.

 

                         ***

يرتاح قليلًا ثم يقبل شفتي لمرة ثالثة، فتكون الأحلى لأنها الأهدأ والأعمق والأطول. لأنني أعرفني جيدًا، فلابد وأن يكون وجهي قد احتقن وعيناي قد أشرقتا بنشوة الحب. أتناول يده اليمنى وأضعها كتعويذة فوق قلبي لكي يهدأ.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق