الاثنين، 19 ديسمبر 2016

الصور تليق بالأحباب (2 -3)

          * أمي بهيجة عبد الرحيم



                          
.... ثم تعاقب الليل والنهار وتعاظم رصيد هزائمي في كافة فروع بنوك الخسائر وجاءني الجنّي المؤمن وهمس قائلًا: "اكتب عن صديقتك وبنت أيامك كوثر مصطفى".
فكتبت مقالًا مطولًا وأرسلته إلى أخبار الأدب، فاتصل بي مسئولها محمد شعير سائلًا عن صورة تجمعني بكوثر لنشرها مع المقال.
قلت لشعير: لا صورة لي مع كوثر.
لم يعرف شعير أنه بسؤاله العابر قد وضع الملح على الجرح.
أين صوري؟.
أين أحبائي؟
أين أبي الحاج بهجات، وعلاء الديب، ومحمد المخزنجي، وسمير عبد التواب  و........

أين حبيباتي؟.
أين صافي ناز كاظم ولطيفة الزيات ورضوى عاشور والبنت التي جمّلتْ الحياة لساعة ثم قبحتّها إلى نهاية النهايات البعيدة  للقبح المنتن؟
لقد دخلت بيوتهن وأكلت من موائدهن واحتضن بؤسي وقلقي، فأين ذهبن؟.
كيف أثبت لنفسي أنني مررتُ بحياتهن؟.

ثم أين أمي بهيجة عبد الرحيم؟.
جاءني الجنّي وقال: "اعلم ـ رد الله عليك عقلك ـ أن اليتامى على أنواع شتى، وأنت كنت من أسوأهم نوعًا".

***

كان أبي الحاج عبد الرحيم، الذي أنا من صلبه، قد تزوج بأمي الحاجة عظيمة، وكان أبي ـ كما سأعرف من مذكراته ـ تواقًا لفرح يغسل قلبه، فراح يطلق علينا نحن أولادهم الأسماء التي يؤمن أنها مبهجة، كانت الأولى "بهيجة" وكان الثاني "بهجت" أو بهجات.. وهكذا، حتى نصل إلى حمدي أو حمدان أو عبد الحميد أو محمود أو حمام وكل هؤلاء هم أنا.
تزوجتْ  شقيقتي بهيجة التي ستصبح أمي، قبل ميلادي بعامين وولدتْ ابنها ناصر كمال الهمامي قبل ميلادي بعام، وعندما جئت شح لبن أمي فأرضعتني شقيقتي مع ابنها، فأصبحت ابنًا لها وخالًا لابنها وأخًا له.

***

عرفتُ أن أمي هي عظيمة وليست بهيجة وأن أبي هو عبد الرحيم وليس بهجات، وكانت المعرفة أثقل من أن يتحمّلها قلبي فهمت على وجهي مطاردًا فراشات الحقول.
أصحو من نومي فأهبط إلى حيث يقوم جدي  ـ في أرض النخيل ـ زارعًا مصليًا مستغفرًا، فيشير لي بالانطلاق.
هذا الرجل جدي الذي سبقني إلى الوجود بأكثر من ثمانين سنة، كان صديقي الأول وهو الذي حرضني على أن أسير بين الحقول مطاردًا الفراشات.
الفَراش أرق من أن أصطاده، وأجمل من أن أحبسه في علبة، الفراش ملون مزخرف، الحقول خضراء فاجرة الخضرة، للحقول رائحة سأتعذب بها في زمني القاهري البليد، الفراش يطير وأنا أجري خلفه، ثم أجري، ثم أجري، إلى أن يغلبني التعب، فأجلس للراحة تحت صفصافة، وأغمس قدمي في ماء الترعة الصافي، وتدغدغ الأسماك الصغيرة باطن  قدميّ، ثم أنشط فأقوم للعودة إلى المنزل مواعدًا الفراش علي لقاء قريب قادم.
ذات يوم لم أعد إلى المنزل  لقد رأيت الرجل الصياد.

***

الرجل الصياد، طويل عريض، رشيق أنيق معطر، نظيف الثوب مبتسم الثغر.
الرجل الصياد حبيب أعرفه، إنه عمي حسين عراقي.
ربما كان  يومها في أواخر الثلاثين، ولكن الأكيد أني كنت دون العاشرة.
يلتف حزام حقيبة الطلقات حول خاصرته، وبيده اليمنى يطلق خرطوشه على الطيور الكبيرة البعيدة.
طلقة واحدة يطلقها بيسر فتأتيه بالطائر البعيد.
انزعج عندما شاهدني على مقربة منه وسألني:" ما الذي جاء بك إلى هذا الخلاء؟".
قلت له:" كنت أطارد الفراش وتعبت فجلست تحت الصفصافة وعندما سمعت الطلقات هرعت لمصدرها فرأيتك".
مسح على رأسي وأعطاني  قرشًا وطائرًا من صيده.
عدت بالطائر الذي لم أعرف يقينًا ما هو، أمي قالت: إنه الوز العراقي.
تبّلتْ أمي الطائر وقدمته لي في حفل شواء فاخر!!
من يومها وأنا كلما مررت  بآية: "وَلَحْمِ طَيْرٍمِمّا يَشْتَهُونَ" أشم رائحة الشواء مختلطة برائحة حضن أمي.

***

سعيت في ظهيرة اليوم التالي لمتابعة عمي حسين، لكنه لم يأتِ، انتظرته بحرقة، لكنه لم يأتِ، أصغت السمع لعلي أسمع خرطوشه، لكنه لم يأتِ، حاولت صرف نفسي عن انتظاره بمطاردة الفراشات ولكن نفسي عافت المطاردة، أنا الآن لا أريد سوى الرجل الصياد، ولكنه خذلني ولم يأتِ.
عدت إلى البيت مختنقًا بخذلان الرجل الصياد لي.
في الحقيقة الرجل لم يخذلني، لأنه لم يكن قد واعدني، ولكن أين موقع الحقيقة من قلب طفل يطارد فراش الحقول؟
 حاولت أمي معرفة سبب صمتي فباءت كل محاولاتها بالفشل، فجلست تبكي، فبكيت أنا لبكائها، فجاءت بهيجة وصاحت في وجه أمي بحسم: "كفي عن بكائك ليكف هو عن بكائه".
ثم نظرت لي نظرة توبيخ وقالت: "أما أنت فما هي حكايتك؟ ولن أتركك حتى تتكلم".
تكلمت فقلت: "أشتهي طائرًا كالذي جئت به بالأمس ولكن عمي حسين لم يأتِ".
فابتسمت مستهترةً وغابت في غرفة لدقيقة، ثم عادت وقبضت على يميني وغادرنا البيت صامتين.
عندما أصبحنا بين الحقول قالت: "لمرة واحدة سأصطاد لك طائرًا، وبعدها سأذبحك لو جعلت أمك تبكي ثانية".
نظرتُ لوجهها كان غاية في الجدية، إذًا هي قد تذبحني فعلًا.
ولكن كلامها غامض كيف ستصطاد وهي امرأة؟
الرجال فقط هم الذين يصطادون، ثم أين بندقيتها؟ هذا لو كانت حقًا تستطيع الصيد.
تركتني واقفًا في حيرتي، وأعطتني ظهرها، ثم استقبلتني وقد أخرجت من بين طيات ملابسها فرد خرطوش.
مَنْ هذه المرأة؟ أنا خائف منها كأنها عفريت من الجن.
إنها شقيقتي التي عشت زمنًا أظنها أمي، إنها كأمي سيدة دقيقة التكوين، لكن أمي بيضاء وهذه سمراء، هي وأمي قويتان، لا تخافان شيئًا، رأيت أمي تقتل ثعبانًا وتقتل كلبًا عقورًا، وهذه التي أمامي الآن تزعم أنها ستصطاد لي طائرًا يحلق في السماء البعيدة.
رفعت يمينها ممسكة بالفرد ثم قالت: "بسم الله، الله أكبر".
ثم أطلقت طلقة واحدة وجاءت لي بطائر كطائر الأمس بل أحسن.

***

صدق الجنّي، نعم أنا أسوأ اليتامى، فأنا أتقصى الجذور والمنابت، أنبش في خرائب القلوب والأرواح، لا أكف عن السؤال، أريد القبض على الحقيقة، وكل حقيقة هي غائبة، وكل غياب هو مستحيل، وكل مستحيل أنا أسعى خلفه.

تركت استذكار دروس الثانوية وسرقت مفتاح خزانة مذكرات أبي، رأيت الكراسات الطويلة المجلدة بجلد أزرق، ومثل كل اللصوص فقد فرحت بأول كراسة وقعت في يدي.
قرأت طلبًا لليقين فوقعت في الحيرة، أقرأ أحداث 1963 وفيها يقول أبي: "لقد أسلمت اليوم دراسة لا وراثة".
أي الرجال كان هذا الرجل؟.
هل كان شيوعيًا أم كان إخوانيًا؟.
لماذا هرب يومًا وطلب حرق أوراقه؟.
لماذا عندما عاد من مهربه لم يفتقد أوراقه التي طلب إحراقها؟.
كيف نجت مذكراته من الحريق؟.
لم يذكر أبي في مذكراته أحدًا كذكره لبهيجة، فقلت إذًا عند بهيجة الخبر اليقين

هناك تعليق واحد: