الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

الشيخ الإمام فؤاد حداد















رمضان شتائي بعيد ، شقيقى الحاج مندي يهندس التدفئة ،يأتي" بالقروانة "يضع رملًا  في قعرها ،ثم يأتي بالحطب يبني منه هرمًا ويشعل النار في قاعدته ،يكون أبي الحاج بهجات قد أنتهي من تقطيع قشر البرتقال أو اليوسفي إلي قطع متناهية الصغر ينثرها فوق النار ،سريعًا تحترق القطع  مخلفة رائحة ( لن أشم مثلها أبدا )، النار الآن لها لون يجمع بين الأزرق والأحمر والأصفر،يندلع نقاش حاد بين الحاج مندي وأبي الحاج حول رجال لهم أسماء غريبة ( توفيق الحكيم ،محمد عودة ،مصطفي بهجت بدوي ) ،تأتي أمي بالسحور ولا ينقطع حبل النقاش ، ولكن عندما يأتى من الراديو صوت طبلة ورجل يغني، يسكت الجميع ،  الرجل يغني كلامًا يشبه كلام أمي، يغني كلامًا سهلًا أفهمه كله .

:"  إصحي يا نايم
وحّد الدايم
وقول نويت
بكره ان حييت
الشهر صايم
والفجر قايم
إصحي يا نايم
وحّد الرزاق.
المشي طاب لي
والدق علي طبلي
ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثال
الرجل تدب مطرح ما تحب
وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال ".

أعرف من أبي الحاج أن الرجل المغني اسمه سيد مكاوي وصاحب الكلام اسمه فؤاد حداد.

* * *
مضت سنوات وصوت مكاوي يتعذب بـ  "حبييت ودبييت كما العاشق ليالي طوال "
عرفت القراءة وعرفت الشعر ، بحثت في مكتبة بيت أبي عن شعر فؤاد حداد وجدت ديوانًا واحدًا فقط ( المسحراتي. الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ،دار الكاتب العربي .الثمن 15قرشا).هل حفظت الديوان كله ؟

:"  كل اللي كان في البال
غيرلي ريقي وطل
الليل وياما طال
الفجر وياما طل
عجوز شويه وعلي راسي خطوط بيضا
والفجر لسه صغير لسه في البيضه
وأنا ماشي بأسمع سلامات الندي والطل ".

* * *
في مكتبة أبى  كل أشعار الأبنودي وصلاح جاهين و....
الوحيد الذي له ديوان واحد فقط هو فؤاد  حداد ،لغز لا أعرف له حلًا ،أبي الحاج والحاج مندي معجبان بشعره فلماذا لم يقتنيا كتبه ؟

اقتناء كتب حداد مهمة ألقيتها علي عاتقي، نشرت دار الثقافة الجديدة ( الحَمْل الفلسطيني ) كان الديوان يضم مختارات من دواوين له لم أكن قد عرفت طريقي إليها بعد.من ديوان " أيام العجب والموت " تذبحني قصيدته " النبض " فؤاد حداد يرثي نفسه:
"  نعشي طالع لابس العمّه
شيخ فؤاد يا شيخ فؤاد حتطير
وآلا راح تتقل علي كتافهم
وآلا تتسمر في نور الأرض
وآلا بعد الناصية راح نعمي
يا حبيبتي للأبد عن بعض ".

كنت قد حفظت من المظاهرات الجامعية  قصيدة:" ازرع كل الأرض مقاومة
ترمي في كل الأرض جدور
إن كان ظلمه تمد النور
وان كان سجن تهد السور
كون البادئ كون البادئ
كل فروع الحق بنادق
غير الدم ماحدش صادق
من أيام الوطن اللاجئ
إلي يوم الوطن المنصور ".

كان سب الرئيس جمال عبد الناصر يجلب الرزق، وكان فؤاد حداد ينشر ديوانا متحديا حمل عنوان "استشهاد جمال عبد الناصر ".

" حبّيت أموت واللي عشته من السنين نوّح
وشفت عيني بفجري وليلي يطوح
ولقيت يتيم شرقان ولقيت شهيد عرقان
ولقيتني زي الجمل طالع جبل قلقان
واللي أنكتب ع الجبين يشهد عليه النحر
ولا يعرف البحر غير اللي أتولد غرقان

                     ***
يا مصر حزنك ما يقدرش عليه النور
يا مصر حزنك يبكيّ الشمس لو جايّه
حزنك من الطمي الاسمر يقتل الميّه
حزنك يسمّع في قلبي وصوتي وعنيّه

                           ***
يا مصر من كل غمضه في عيني بتشقيّ
حزنك قديم وأليم وأمرّ من بقيّ
وكنت خلي الشهيد يا رب يستأذن

                         ***
يا حضن مصري يا طلعة فجر يا ريس
مع السلامة ياوالد ياأحنّ شهيد
آدي الرقابي والأعلام بتتنكس
فين طلتّك في الدقايق تسبق المواعيد
والابتسامة اللي أحلي من السلام بالإيد ".

                          ***
ثم جاء العام 1985وفيه نشرت دار المستقبل العربي دواوين ( رقص ومغني، التسالي، عيل علي المعاش، النقش باللاسلكي، مواويل ) في مجلد واحد.قرأتها حتى سري شعر حداد في عروقي
:" فنان فقير علي باب الله
الجيب ما فيهشي ولا سحتوت
والعمر فايت بيقول آه
والقطر فايت بيقول توت
صحتني ليه يا شاويش يا شاويش
أنا كنت سارح في الملكوت
لما با نام باحلم وباعيش
لما بافوق ما بافوقشي باموت
وتقول عليّ كبير السن
وأنا في قلبي ولد  كتكوت
وتشوفني بابكي وبانعي وائن
والدنيا لسه بنت بنوت ".

                               ***
وكان حقا عليّ واجبا أن أتوقف عند "شرع التسالي " فؤاد حداد أدرك أنه لن ينصف رغم كتابات خيري شلبي ومحمد كشيك فقالها بملء فيه منتصفا لنفسه
:"  أنا والد الشعراء فؤاد حداد
أيوه أنا الوالد ويا ما ولاد
قبلسه ربتهم بكل وداد
بعدسه تلميذ أولي وإعداد
يا اسمر يا روحي يا امتداد النيل  
الثانية مشيت قد ألفين ميل
علي قافيه متقدر لها تحميل
ألفين سنه ويفضل كلامي جميل ".

* * *
كان الأبنودي قد كتب عن حداد قصيدة حملت عنوانا يلخص مسيرة حداد " الإمام " (أنت الإمام الكبير وأصلنا الجامع * وأنت اللي نقبل نصلي وراك في الجامع ).

وكانت دار الغد قد نشرت " فؤاد حداد ،دراسات في شعره وقصائد في وداعه" وكان عمر الصاوي قد كتب استشهاد فؤاد حداد
:"  لما بشم في قلبي ريحة عياط
بأعرف إن الدنيا حلمت بيك ".

وكان محمد كشيك يدور كما الدراويش في حضرة الإمام منشدا
:"  شاعر قديم علي ناقه عربية
شاعر جديد بيغني حريه "
وكان أمين حداد قد سلم بموت أبيه فبكاه شعرا صافيا
:"  أبويا جاني في المنام وسمعت تنهيده
قلب عليا اللي راح بقديمه وجديده
وفضلت أقول المثل وأعيده وأزيده
عيدٌ بأية حالٍ عدت ياعيدُ
ليلٌ بأية حال عدت يا ليلُ
يا ليل حبيبي اللي كان في إيديا مش طايله
عدت جنازته علي البساتين وكان شايله
عصافير حمام ويمام وكناريا وبلابل
إبكي عليه ياريح واتشاهدي يا سنابل
إبكي عليه يا مّاي وخديه في أحضانك
سحي عليه الدموع واقري في قرانك
حاسبي عليه م الهوا واحميه من الزحمه
قلبه اللي خافض جناح الذل والرحمه
إيده اللي ماسكه الفانوس بتنور العتمه
حسه الجميل العميق ساكن ورا الكواليس
قاعد بينشد ويحكي ببنطلون وقميص ".

نعم كثرت الكتابات عن والد الشعراء، نعم كثرت القصائد، ولكن ظل الرجل محاصرًا  حتى جاء صيف العام 1996وجاء ما ظننته دوري في فك أطواق الحصار.

* * *
في صيف 1996 كنت أعمل في ديسك جريدة "الأحرار"،تغيبت عن العمل أسبوعين وعندما عدت كانت الصفحة الأخيرة من الأحرار مزينة ببرواز يحمل شعرا لفؤاد حداد .قال لي عبد السلام لملوم سكرتير التحرير إنه  هو الذي ينشر المختارات وإنه عازم علي نشر كل ديوان المسحراتي .

فرحت بالفكرة وأحزنني تنفيذها ،فؤاد حداد ليس المسحراتي فقط ،قد يكون ديوان المسحراتي درة تاجه لكنه يظل درة واحدة في تاج مرصع بملايين الدرر.رأيت في افتتان لملوم بالمسحراتي شكلا من أشكال حصار السيد الإمام .

ناقشت فكرة الحصار مع لملوم الذي تفهم موقفي وقال لي:" هذه بضاعتك ردت إليك".بدأت نشر مختاراتي من شعر السيد الإمام محاولا أن تكون معبرة عن ثراء الرجل، هذا فؤاد حداد يتغزل
:"  شفت عودها لما جاني
عودها لما طل تاني
كنت ماشي وراح تناني
قال ما كانش الخالي يشغل
شفت كوعك لما شمّر
قلت فل وقلت مرمر
العجين التاني خمّر
والدراع لسه مخدل
يا العروسه ".

وهذا فؤاد حداد الحزين
:"  البين يكتّف وينتف من جناحي الريش
والدم يجري في قلبي كأنه ما بيجريش
فيه أم ماتت عليلة وابنها مادريش
ماتت في ليلة ماجرّوه وانجلد والا
في ليلة طالت خمستاشر نهار والا
في ليلة زى الليالي كلها والا
من خوفها ليقولوا ماتت وابنها ما دريش ".

أزعجت اختياراتي عبد الفتاح طلعت مدير تحرير الأحرار فقال لي: الناس كلها تعرف أن فؤاد حداد هو شاعر المقاومة ،يا أخي هو اسمه المسحراتي ،يعني الرجل الذي يوقظ الناس من النوم والغفلة ،تفهم كلامي طبعا ؟.

كنت أفهم كلام عبد الفتاح وجاء ردي عليه عمليا ،الإمام في قلبه ولد كتكوت يتيح له أن يغني قائلا
: " آه يا عرايس يا عرايس
سمّيت علي القد المايس
وحلفت بالله المعبود
لاموت علي إيديكم بايس
وآه كأني ما قلتش آه
والشمس صنعتها تشمس
والقلب صنعته يتحمس
والآه لا صنعه ولا مجهود
باغني زى ما بتنفس
وآه كأني ما قلتش آه ".
تمنيت لو قرأت مصر كلها اعتراف فؤاد حداد
: " أنا من غلب في الصبابة أمة العصافير
أنا من طُلب بالربابة والغنا وصفافير
مرسال حنين وقاطع تذكرة وسفير
من قبل ما يصوتوا في قلبي يتوطوطوا
جوزين كناريا وبلابل سود علي فرافير ".

* * *
راحت السكرة وجاءت الفكرة، هل تستطيع نشر كل شعر فؤاد حداد ؟ هكذا سألت نفسي .كنت أعلم أن المختارات ستتوقف يوما ما ،يعود بعدها الإمام محاصرا .
ـ لماذا لا أكتب كتابًا عن فؤاد حداد ؟.
 ـ أنت تكتب عن الإمام هكذا مرة واحدة ؟.
ولمَ لا ،أكتب كتابا عمدة يصبح مصدرا ،أكتب عن حياة حداد ،سر شعره في حياته ـ ـ إذا كنت جادا فللبيوت أبواب .

* * *
طرقت باب أمين فؤاد حداد، استقبلني الرجل استقبالًا  حارًا، قصصت عليه القصة كاملة، بداية من تلك الليلة الرمضانية البعيدة ونهاية بلحظة طرقي لباب بيته.
قال أمين:لكل عائلة مؤرخ، ومؤرخ آل حداد هو حسن فؤاد حداد، حسن هذا عجيب جدا، يحفظ كل شيء، ينقذ رجال آل حداد ويذكرهم بأعياد ميلاد زوجاتهم، أنا شاعر ولا تعتمد علي ذاكرة شاعر، حسن يبدو لي أحيانا كأنه ولد قبل أبيه ،أذهب إليه ،بيته في شارع متفرع من شارع أحمد عرابي بالمهندسين .

* * *
عندما دخلت إلي بيت حسن فؤاد حداد كان يمّرن ذاكرته علي الحفظ منشدا رثاء مالك بن الريب لنفسه.
:" تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد
سوي السيف والرمح الرد يني باكيا ".

* * *
أطلعتُ حافظ آل حداد ومؤرخهم علي خطتي ،نبدأ من الجذر اللبناني للعائلة من الجد الذي هبط أرض مصر ليدّرس المحاسبة في الجامعة الأمريكية ثم يستعين به بنك مصر ليضع له نظام محاسبته ،ثم مولد الإمام وأخوته ،ثم إسلام الإمام وسجنه،باختصار لن نترك يوما من حياته ،سأسجل معك ومع كل أفراد العائلة ،ثم تقدمني لأصحاب الإمام من غير المشاهير ،ثم سأذهب منفردا للتسجيل مع المشاهير من أصحابه .
بارك الأستاذ حسن خطتي واتفق معي علي العمل يومين من كل أسبوع.قبيل مغادرتي بيت المؤرخ قال لي :خذ هذه النفحة ،كان أبي إذا أصابته حمي الشعر ،يترك أقلامه وأوراقه ويخر ساجدا ،نسأله عن سجدته الطويلة فيرد قائلا :"تعس مخلوق نسي أنه مخلوق ". يقودني حسن نحو باب الخروج ويمنحني نفحة ثانية:"أسلم أبي في بداية شبابه، كان جالسا علي المقهى ثم قال لنفسه:" لا يليق بي إلا أن أكون شاعرا مسلما ".

* * *
مضت شهور من العمل مع حسن ، كنتُ خلالها  راضيا عن الديسك ،كنتُ كصاحب كنز لا يعرف به أحد ،نهاري نهار الديسكاوية حتى إذا بدا ليّ الليل استخرجت كنزي ،هذا فؤاد حدا بين يديّ أري حياته تتشكل أمام عينيّ ،تقول لي السيدة زكية زوج الإمام :عمك فؤاد كان سيعمل مع أم كلثوم ،طلبت منه قصيدة ،كان سعيدا جدا ،في اللحظة الحاسمة ،تدخل أولاد الحلال ـ ربنا يسامح الجميع ـ أفسدوا الأمر كله ، لو غنت له أم كلثوم لنُشر شعره كله ،هل تعرف أن سبعة عشر ديوانا من شعر عمك فؤاد لم تنشر بعد. الأسابيع تتوالي والكنز يكبر ويكبر ،أمتلك الآن ثلاثين ساعة تسجيل تؤرخ لحياة فؤاد حداد من مولده وحتى رحيله في الأول من نوفمبر 1985.

*  *  *
غادرت الشقة التي كنتُ أسكنها لشقة أخري ( كنتُ أعيش حياة البدو الرحل ) الكنز في حقيبة بجواره كتب هيكل ونسخة من الطبعة الأولي لمجموعة" أرخص ليالي" ليوسف إدريس ،ونسخة من الطبعة الأولي لمرايا محفوظ ،وضعت أشيائي وحقائبي في صالة سكني الجديد ،غرس ثعبان خبيث نابه في قلبي ،ضاعت حقيبة الكنز .
من يومها وأنا أتواري عن أنظار من آل حداد، لقد ضاع كنزي وكنزهم.

* * *
هدأت أحزاني فعرفت أنني أهون من أن ينصر الله علي يديّ وليّه  الشيخ الإمام فؤاد حداد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة القاهرة بتاريخ 10 نوفمبر 2015  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق