الأحد، 9 أغسطس 2015

أسد بن الفرات.. محارب في السبعين





كان أغلب المصريين يمر بمسجد أسد بن الفرات الواقع فى قلب ميدان الدقى بمحافظة الجيزة، يكاد لا ينشغل به إلا ساعة الصلاة، ثم يغادر المسجد، وينصرف إلى حال سبيله، بل بعضهم لم يكن يعرف اسم المسجد أصلا، إنه عندهم مسجد كغيره.


ظل المسجد بعيدا عن دائرة الضوء حتى اعتلى منبره فى تسعينيات القرن الماضى الخطيب الأستاذ عمر عبد الكافى، قال الرجل كلامًا كثيرًا جذب نوعية معينة من جماهير المصلين، ثم قال الخطيب كلامًا عن نوع من التدين أصبح يشغل المصريين ويصرفهم عن جادة الطريق وجاد العمل، هذا التدين الذى يهتم بكل ما هو شكلى، ويقيم حوله المزارات والندوات والمؤتمرات بل والحروب (ألا تحارب داعش الناس لأنهم يخالفون الإسلام ويلبسون البنطلون!!!!).


كلام الأستاذ عمر عبد الكافى كان عن رد المسلم على تحية المسيحى!!

أفٍ لهؤلاء جميعا، ولتدينهم الذى كلما اقتربنا منه بعدنا عن ديننا الذى ارتضاه الله لنا.


يومها كانت مجلة «روزاليوسف» تعيش واحدة من فتراتها الذهبية من حيث التوزيع والتأثير، فشنت حملة على الرجل أدت إلى اعتذاره عما قاله، ثم غادر منبر المسجد ولا أظنه قد عاد إليه ثانية.


تلك الواقعة سبحان الله ستدفع باسم أسد بن الفرات إلى بؤرة الضوء.


فمن هو أسد بن الفرات؟

الميلاد كالموت، كلاهما غيب يعلمه الله وحده، يولد الإنسان فى المكان الأبعد عن مكان سيشهد نبوغه، ويموت المرء فى أرض لم يظن لحظة أنه سيراها.


هذه القاعدة يمثلها خير تمثيل الشيخ الفقيه المجاهد أسد بن الفرات، فقد وُلِدَ سنة 142هـ بحَرَّان التابعة لديار بكر، وحران هذه توجد الآن فى الجنوب الشرقى لتركيا.


فى طفولته انتقل أسد مع أسرته إلى القيروان بتونس، وذلك لأن والده فرات بن سنان كان قائدا للمجاهدين، الذين خرجوا لنشر الإسلام فى بلاد المغرب. القيروان فى الأصل لفظة فارسية، وهى تعنى المعسكر، أو المكان الذى يجرى فيه تخزين السلاح، وكان العرب الفاتحون قد اتخذوا من القيروان قاعدة تتيح لهم الوصول إلى أقصى بلاد المغرب تمهيدا للوصول إلى الأندلس.


ارتباط أسد بأرض المعسكرات هذه سيظهر أثره فى حياته القادمة، لكن فى طفولته وبداية صباه انصرف إلى حفظ القرآن حتى أتمَّه فى مرحلة الصبا، وأصبح هو نفسه معلِّما للقرآن، وهو فى حوالى الثانية عشرة من عمره.


ثم بدأ فى تحصيل العلوم الشرعية حتى برع فى الفقه، فمال ناحية مذهب أبى حنيفة، وظلَّ هكذا حتى التقى على بن زياد، الذى يُعتبر أوَّلَ مَنْ أدخل مذهب الإمام مالك بالمغرب، فسمع منه أسد كتاب «الموطأ»، وتلقَّى منه أصول مذهب مالك، وبعدها قرَّر أسد أن ينتقل إلى المشرق فى رحلة علمية ستطول، حتى تكاد تستغرق شبابه كله.


يقول المؤرخون: قصد أسد أولا المدينة النبوية المنورة لسماع الموطأ من الإمام مالك مباشرة. كلمة السماع القديمة تساوى فى لغتنا المعاصرة كلمة التلمذة، وهكذا كان النابغون يعيشون، إنهم يتتلمذون على أيدى المصارد مباشرة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. بعد رحلته إلى المدينة انطلق أسد إلى العراق. إن كانت المدينة المنورة تعنى التلمذة على الإمام مالك، فإن العراق كان يعج بأكبر تلاميذ أبى حنيفة، فى العراق التقى أسد مع كبار تلاميذ أبى حنيفة، أمثال: محمد بن الحسن، وكان من كبار رواة الحديث، والقاضى أبى يوسف أخص تلاميذ أبى حنيفة وأفقههم، فتعلَّم أسد أولا المذهب الحنفى، وأكثر من سماعِ الثقات فى الحديث، واستفاد أسد من محمد بن الحسن استفادة كبرى، وكتب عنه الكثير من مسائل المذهب الحنفى المشهور.


فى أثناء وجود أسد بالعراق، توفى الإمام مالك بالمدينة، فاهتز لموته العالم الإسلامى، وأقبل الناس من كل مكان للسماع من تلاميذ مالك، وعندها ندم أسد على أنه لم يبقَ بجوار مالك، وقال لنفسه: «إن كان فاتنى لزوم مالك فلا يفوتنى لزوم أصحابه».


بعد رحلة العراق، ستظهر مصرنا فى سماء حياة ابن الفرات، أيامها كان كل الفقه والحديث بل كل العلم مصريًّا. كانت الآية الكريمة «اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم» تتحق على أرض مصر تحققا كاملا.


فى مصر كان يعيش أكبر وأهم تلامذة الإمام مالك أمثال ابن وهب وابن القاسم الذى سيعرض عليه أسد حصيلته من مسائل الفقه الحنفى، وطلب منه أن يُجيب عنها على مذهب مالك، فأجابه عن هذه المسائل، وتفرَّغ له ابن القاسم ولقَّنه المذهب كلَّه بأصوله وفروعه، ودوَّن هذه المسائل كلها فى الكتاب الشهير باسم «الأسدية».


ثم بعد طول غربة عاد أسد بن الفرات إلى القيروان، عاد وقد أصبح من كبار علماء المغرب، وأصبح لديه تلاميذه الذين يأخذون عنه العلم، وذاع صيته فى كل المغرب العربى بوصفه من المجتهدين الذين لا يتقيدون بمذهب بعينه.


تواصلت حياة أسد فى نظامها المعتاد حتى حان وقت فتح جزيرة صقلية.

من البداية الحرب والمعارك لم تكن جديدة على أسد، مر بك أن أباه كان من قادة الجيش، ثم هو نفسه خاض المعارك أكثر من مرة، وابن خلدون يقول: «إن أسد بن الفرات هو الذى افتتح جزيرة (قَوْصَرة)». وهى جزيرة صغيرة تقع شرقى تونس الآن.


بالعودة إلى صقلية، فقد كان فتحها حلما، كثيرًا ما راود المسلمون من بداية تأسيس الدولة الأموية.


يقول الدكتور راغب السرجانى: «تُعتبر جزيرة صقلية أكبر جزر البحر المتوسط مساحة، وأغناها من حيث الموارد الاقتصادية، وأفضلها موقعا، ولقد انتبه المسلمون لأهمية هذه الجزيرة مبكِّرا منذ عهد الصحابة، حيث حاولوا فتحها فى عهد عبد الله بن سعد، ثم معاوية بن حديج، ثم عقبة بن نافع، ثم عطاء بن رافع، وكان آخرهم عبد الرحمن بن حبيب، وذلك سنة (135هـ = 753م)، ثم وقعت الفتن الداخلية ببلاد المغرب بين العرب والبربر، وانشغل المسلمون عن جهاد العدوِّ، الذى انتهز الفرصة، وأغار على سواحل المغرب عند منطقة إفريقية (تونس) مما جعل المسلمين يتوحَّدُون ويتهيَّؤُن للردِّ على هذا العدوان البيزنطى. فى هذه الفترة وقع العديد من الاضطرابات بجزيرة صقلية، التى كانت تتبع الدولة البيزنطية، حيث وقع نزاع على حكم الجزيرة بين رجلين أحدهما اسمه يوفيميوس (وتُسَمِّيه المراجع العربية فيمى)، والآخر اسمه بلاتريوس (وتُسَمِّيه المراجع العربية بلاطه)، وانتصر بلاطه على فيمى الذى فرَّ هاربا إلى إفريقية، واستغاث بزيادة الله ابن الأغلب حاكم إفريقية، وطلب منه العون فى استعادة حكمه على الجزيرة، فرأى زيادة الله فيها فرصة سانحة لفتح الجزيرة».


ترى من سيصبح قائد تلك الغزوة التاريخية؟

ليس غير أسد بن الفرات!!

الشيخ فى السبعين من عمره، وهو يريد الجهاد بوصفه جنديا من الجنود، لكن الحاكم ابن الأغلب لا يرى غيره قائدا.

أخيرًا خضع أسد لرغبة الحاكم الذى ولاه القيادة العامة والقضاء، تحرك أسطول المسلمين فى مئة سفينة حاملا عشرة آلاف مقاتل، يقوده شيخ فقيه فى السبعين من عمره.


التقى الجيشان، جيش المسلمين وجيش البيزنطيين، وكان الجيش البيزنطى فى حوالى مئة ألف مقاتل.

كان المسلمون يعلمون أن لا قرار لهم على البحر المتوسط إن لم يفتحوا صقلية، ولذا فقد استبسلوا فى القتال، حتى حصدوا النصر.


بعد هذا الانتصار الحاسم واصل أسد بن الفرات زحفه حتى وصل إلى مدينة سرقوسة، لكن حدث ما لم يكن فى الحسبان، هاجم الطاعون جيش المسلمين فمات كثيرون على رأسهم أسد بن الفرات.

أليست هذه الحياة تفتح باب الأمل أمام المنكفئين على ذواتهم؟



كان معنا شيخ ولد فى تركيا، وتعلم فى العراق، ومات فى إيطاليا، وخلدته أرض الكنانة مصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى جريدة التحرير في 8 يوليو 2015

هناك تعليقان (2):