الخميس، 25 سبتمبر 2014

التجربة الألمانية




فى يوم الثلاثين من أبريل من العام 1945 انهارت ألمانيا التى كانت قوة عالمية عظمى، هزمت فى الحرب العالمية الثانية شر هزيمة، وانتحر طاغيتها هتلر، الذى أوردها موارد التهلكة، واحتلت قوات الحلفاء المنتصرة العاصمة برلين، وأعلنت ألمانيا هزيمتها بعد تدمير غالبية مدنها واقتصادها وبعثرة جيشها وتفكيكه، ثم أن كل هذا العقاب لم يشف غليل المنتصرين، فسعوا إلى تقسيم الدولة الواحدة الموحدة إلى دولتين «ألمانيا الاتحادية» و«ألمانيا الديمقراطية»، وبعد التقسيم قاموا بتجزئة البلاد، وضموا جزءا من أراضيها إلى بولندا والاتحاد السوفييتى وفرنسا، وقد وصلت الخسائر الألمانية البشرية إلى أرقام مفزعة لم تذقها الإنسانية من قبل، تشريد نحو 12 مليون ألمانى، إضافة إلى 8 ملايين أسير فى معتقلات قوات الحلفاء، والعجيب فى هذا السياق أن الاتحاد السوفييتى قد احتفظ بأسراه الألمان حتى بعد مرور أحد عشر عاما على نهاية الحرب، أما عن النكبة الألمانية على الصعيد الاقتصادى فقد تم تدمير السكك الحديدية والطرق، وتفكيك المصانع، بل لقد أوغل المنتصرون فى عقاب الألمان، وقاموا بتفكيك القضاء نفسه من خلال إقالات فورية لقضاة عهد هتلر، وجرى إغلاق المدارس ودور النشر بزعم تطهير العقلية الألمانية من رجس النازية.

إذن نحن أمام دولة لا تمتلك من مقومات الدولة شيئا أى شىء، فكل ما يمكن البناء عليه أصبح كومة من التراب، ومع ذلك عض الألمان على شفاههم، لكى لا يقعوا فى مستنقع جلد الذات أو العويل واللطم والبكاء، بدأ الألمان مرحلة لعق جراحهم، على يد قائدهم «لودفيج إرهارد»، وهو ملقب عندهم بـ«أب المعجزة الاقتصادية»، هذا الرجل كتب مذكرة صغيرة ستقود ألمانيا إلى ما هى فيه الآن من نعيم ورخاء، مذكرة هذا القائد الفذ كان عنوانها «تمويل ديون الحرب وإعادة هيكلتها»، وقد أودعها فكره القائم على إعادة بناء الاقتصاد الألمانى من خلال ترسيخ فكرة «السوق الاجتماعية» التى تقوم على حرية السوق مع الاهتمام الفعلى والجاد بالعدالة الاجتماعية، وقد قام الرجل بتنفيذ أفكاره فعلا عندما أصبح وزيرا للاقتصاد بعد النكبة بأربعة أعوام، وقد خاض فى سبيل إنقاذ بلاده حروبا طاحنة على أكثر من صعيد، فعلى الصعيد الخارجى، كان المنتصرون قد فرضوا على ألمانيا المهزومة دفع تعويضات سنوية تبلغ حوالى المليار دولار (انظر إلى قيمة وفداحة هذا الرقم قبل ستين عاما من الآن) التزم إرهارد بسداد تلك التعويضات التى تقصم ظهر أى دولة، ثم خاض حربا ضد التجار، وأجبرهم على عرض بضائعهم، التى كانوا يستثمرونها فى تكوين سوق سوداء خرافية، وقد وصل به الأمر إلى إلغاء العملة نفسها، فبعد أن كانت عملة ألمانيا تعرف باسم «مارك الرايخ» أصبحت تعرف باسم المارك الألمانى رابع أقوى اقتصاد على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان بناتج محلى بلغ حوالى 3.518 تريليون دولار، وذلك وفق ما استطعت الحصول عليه من بيانات تعود إلى العام 2011.

هل ما حققه الألمان هو معجزة غير قابلة للتحقق مرة أخرى؟

الحقيقة أن ما صنعه الألمان لم يكن معجزة بحال من الأحوال، لقد صنعوا إنجازا، وكل إنجاز قابل بطبعه للتكرار دائما.

إن الإنجاز الألمانى ليس حكرا على الألمان فقط، بل هو تجربة إنسانية عابرة للحدود الأعراق بل والأزمنة، وما أركانها سوى الإيمان المطلق بقدرة الإنسان على تجاوز نكباته والبدء من جديد من نقطة هى تحت الصفر بمراحل.


حال الآن فى مصر هو بكل المقاييس سيئ إن لم يكن سيئا جدا، لكنه أحسن مئات المرات من حال ألمانيا عشية إعلان هزيمتها، فإن كان الألمان رجالا، فنحن أيضا رجال، وإن كانوا قد ربطوا حجرا على بطونهم، لكى لا يشعروا بمذلة الجوع، فما الذى يمنعنا من أن نقتدى بهم؟ خاصة وليس لنا ترف الاختيار بين الحياة والموت.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 23 يوليو 2014م
لينك المقال: 

الاثنين، 22 سبتمبر 2014

المتحمس






من معارك المسلمين مع الفرس معركة تبدو مجهولة رغم خطورتها، تُعرف باسم معركة الجسر، والجسر هو الكوبرى بلغة أيامنا، ويقول ملخصها إن رستم قائد الفرس الشهير كان رجلا صاحب طموح وكبرياء، وقد هزته هزا عنيفا الهزائم التى أوقعها المسلمون به وبجيوشه، فحشد حشدا عظيما مكونا من ثمانين ألف مقاتل من خيرة محاربى الفرس، وجعل فى مقدمة جيشه عشرين فيلا، وهو كائن ليس للمسلمين الأوائل فى زمن عمر بن الخطاب كثير معرفة به، وجعل القيادة العامة لبهمن جازويه، وهو من أشد العسكريين الفرس بغضا للمسلمين، وكان الذى يقود المسلمين هو أبو عبيدة بن مسعود، وهو رجل وإن لم يكن ذائع الصيت إلا أن صفحات العسكرية الإسلامية تحتفظ له بتاريخ ناصع. كان معسكر الفرس على الجانب الشرقى من نهر الفرات ومعسكر المسلمين على الجانب الغربى، ولا يفصل بينهما سوى جسر صغير يصل بين الضفتين.

صاح بهمن فى المسلمين: «هل تعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟».

أكابر قادة الجيش، وكان من بينهم القائد الفذ الشهير المثنى بن حارثة، أشاروا على أبى عبيدة بضرورة أن يعبر الفرس إليهم، وقد قالوا فى حيثيات مشورتهم إن المسلمين لو انهزموا فسيعودون إلى بلادهم التى يعرفون جغرافيتها، أما لو عبروا وهزموا على أرض العدو فسوف يتشتت الجيش، ولن تقوم له قائمة.

يقول المؤرخون إن أبا عبيدة كان رجلا من حديد لا يلين لرأى غير رأى حماسه الدافق وإخلاصه العظيم، ولذا فقد شق على ثقته بنفسه وبرجاله أن يبقى فى مكانه، ولا يعبر بالجيش ليلاقى العدو على أرضه، وقد حاول المثنى غير مرة أن يثنيه عن عزمه هذا، ويبين له خطورة ما هو مقدم عليه، لكنه بحكم قيادته استبد برأيه، وأمر الجيش بالعبور.

وما أن عبر جيش المسلمين، وكان عدده عشرة آلاف مقاتل، حتى تصدت لهم الأفيال فجفلت خيول المسلمين، وولت هاربة من ميدان المعركة، وقد ألقت من فوق ظهورها فرسانها، حاول المثنى وباقى القواد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن كان الوقت قد فاتهم، وتبعثرت فرص الإنقاذ، لأن أبا عبيدة ذهب برأيه إلى كارثة محققة، وذلك عندما ذهب ليقتل الفيل الأبيض، الذى كان بمثابة القائد العام للأفيال، وقد حاول باقى القواد مرة أخرى منع أبى عبيدة من مواجهة هذا الفيل تحديدا، لكنه رفض الإنصات إليهم، ضرب أبو عبيدة الفيل بسيفه على خرطومه ضربة قاتلة أهاجت الفيل، الذى ركل أبا عبيدة ركلة أطاحت به، ثم جن جنون الفيل، فوقف فوق جسد أبى عبيدة حتى جعله والأرض سواء، هنا تيقن المسلمون من الهزيمة بعد مقتل قائدهم العام، ومقتل القادة العموميين، الذين عينهم قبل موته، وكانوا جميعا من أبنائه الذين حاولوا الثأر لأبيهم فماتوا مثله بسبب حماسهم الزائد الذى كان فى غير محله، وما زاد الطين بلة أن أحد عساكر جيش المسلمين تقدم بفرقة من الجيش، وقاموا بقطع الجسر لكى يحمس الناس على القتال حتى آخر نفس، قطع الجسر أدى إلى مزيد من استبسال الفرس، الذين أعملوا سيوفهم ورماحهم فى ظهور عساكر المسلمين، الذين تفرق جمعهم.

ولولا حنكة وحكمة المثنى الذى أعاد وصل ما انقطع من الجسر ورتب انسحابا هادئا لكان الهلاك قد لحق بكل جيش المسلمين.


وبعد مرور مئات السنوات على تلك المعركة يحق لنا أن نحذر المتحمسين، الذين لا ننكر عليهم إخلاصهم وحماسهم من التزيد، الذى يقود غالبا إلى المهالك لا إلى النجاة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير 16 يوليو 2014
لينك المقال:

الخميس، 18 سبتمبر 2014

مبعثرات



البحر


يفضل دائما الاختباء بين جدران مكتبته حيث الحيوات المحنطة بين أغلفة الكتب، لم يعُد يطيق ذلك الجمال المنبعث من زرقة البحر وخضرة الحدائق ورحابة الصحراء، كل جمال ينتمى إليها، وهى قد هجرته.

مقاطعة ماديسون


كان سعيدًا جدًّا، حبيبته إلى جواره، وسيشاهدان معًا فيلمهما المفضل (جسور مقاطعة ماديسون)، وسيتمتعان بتعقيب على الفيلم من ناقدهما المحبوب. أظلمتْ قاعة العرض وظهرت ميريل ستريب فى دور فرانشيسكا، لا لتضىء الشاشة بل لتضىء عتمة قلبيهما. غمز لحبيبته عندما قالت فرانشيسكا: «إن اغتسالها بعد حبيبها فى نفس المغطس وتساقط قطرات الماء على جسدها من نفس رشاش الحمام يبعث فى أوصالها بنبيذ الغواية». ردتْ حبيبته على غمزته وعلى جملة فرانشيسكا بابتسامة فاتنة. عندما انتهى عرض الفيلم، كانت عيونهما محتقنة وأنفاسهما مبهورة. سيطرا على انفعالهما بشق الأنفس لكى ينصتا إلى تعقيب الناقد الذى قال: «الأمريكان الذين يبقرون بطون الحوامل، الأمريكان الذين يبول جنودهم على جثامين الموتى، الأمريكان الذين يدفنون الأسرى وهم أحياء، الأمريكان الذين يلهون باغتصاب البكارى، الأمريكان الذين إن لم يجدوا عدوًّا اخترعوه، كيف أنجبوا ميريل ستريب؟». طرح ناقدهم سؤاله ثم خنقتْ الدموع صوته.

الربيع


رغم سنه المتقدمة فإنه يغادر بيته فى تمام السادسة صباحًا، يصل إلى محل الأحذية الذى يمتلكه فى تمام السابعة، يكنس أمام المحل ويرش البلاط بالماء ثم يلمع فاترينة العرض، ثم يتأمل بمحبة الأحذية التى لا يبيع منها إلا القليل، فى تمام الثامنة يكون قد جلس خلف مكتبه النظيف يرشف بتلذذ قهوته الصباحية. فى التاسعة يأتى ثلاثة رجال يماثلونه فى العمر، هم كل من بقى من مئات كان يحبهم ويحبونه. لا يتحدث الرجال الأربعة عن أمراض الشيخوخة أو غلاء الأسعار أو شح الأدوية أو حالة المناخ، إنهم يحمدون الله على الصباح الجديد ثم يشعلون سجائرهم ويرمون له نظرة يفهمها. يقوم إلى جهاز كاسيت عريق ويضع بداخله الشريط الوحيد الذى لا يستمعون لسواه، يضغط مفتاح التشغيل فيأتى صوت فريد الأطرش مغنيًا للربيع. عندما يتسلطن عود فريد فى المقدمة الموسيقة، يتطوع بأن يردد عليهم جملتهم الخالدة: «لو كان للغناء أب فسيكون عبد الوهاب، ولو كان له أم فستكون أم كلثوم، أما الابن فهو حتمًا سيكون فريد». يهزون رؤوسهم بعلامة مؤيدين لكلامه، ثم يتفرغون بكلياتهم للعودة عبر صوت فريد إلى أزمنتهم الماضية، عندما يغنى فريد: «أيام رضاه يا زمانى هاتها وخد عمرى»، لا يرى أحد منابت دمعه تترقرق فى عينيه. عندما سقط فى غيبوبة بين أصحابه ذات صباح، جاء الطبيب الذى نظر إلى أصحابه قائلاً: «لا تتهمونى بالجنون لو قلت إنه مات بفعل الشجن».

عبث




ليس من مألوف عاداته التدخل فى شؤون الناس، حتى إنه كان لا يتدخل فى شأنه هو الشخصى، تاركًا الأيام تفعل به ما تشاء، ليلتها كان يسير غير ملتفت لشىء كعادته، عندما سقط بصره على غير إرادة منه على البنت التى كاد بياض وجهها يضىء ظلمة الشارع، كانت ترتجف من البرد والوحدة ومن مشقة الانتظار. كأنه غيره، اقترب من البنت البيضاء وهمس بثقة طارئة عليه: «عودى إلى بيتك، هو لن يأتى». حملقت البنت البيضاء فى وجهه خائفة، كأنه جنى ثم انخرطت فى بكاء عنيف. غضب من نفسه ومنها ومن كل هذا الكون، اعتذر لها عن تعليقه السخيف، وترجاها أن تكف عن بكائها. تشنج جسدها فوجد نفسه يحتضنها مواسيًا، من لحظتها نسيت البنت البيضاء حبيبها وأحبته هو بجنون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير بتاريخ 9 يوليو 2014
لينك الجريدة:

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

الوطن ليس وهمًا




تحت وطأة اليأس من وقوع أى إصلاح فى زمن مبارك، غادرتُ مصر والصديق الراحل حسام تمّام إلى المملكة المغربية، كان خروجنا عبثيا بامتياز، كل الصحفيين يقصدون بلاد الخليج، أما نحن فقد اخترنا أبعد أرض بلغها العرب والمسلمون. على رأس المغرب يقف المحيط المخيف الذى يفصل تماما بين عالمين.

كنت قبل المغادرة بساعة واحدة عاقدًا العزم على عدم العودة إلى مصر مرة ثانية، مر أسبوع ثم أسبوعان وبدأ القلب يعوى، نعم كنت أسمع هذا العواء المقبض الذى تتشنج له الأطراف، كان حسام رحمه الله يشاكسنى عندما أصحو من نومى سائلًا: «هل تعرفت على أعضائك؟».

أجيبه: «ينقصنى عضو اليقين».

بعد شهر بدأ الأمر يأخذ بعدًا جديدًا، أىّ فقد أعانيه حتى يعوى قلبى كل هذا العواء؟

المغاربة طيبون هادئون، وقعوا فى عشق مصر وانتهى أمرهم، كَوْنى مصريا يجعلنى أعيش معززًا مكرمًا لا يرد أحد لى طلبًا بل لا يناقشنى فى أمر.

كيف لا أكون سعيدًا فى بلد كهذا البلد؟ كيف لا أغتنم الفرصة وأتمتع بكل هذا الجمال والهدوء والنظافة؟

ما هذا الوطن الذى يبعثرنى فقْدى له كل هذه البعثرة؟

جاءتنى الإجابة من قصة كنت أعرفها منذ سنوات، ولكنها لم تستوقفنى إلا وأنا أعيش مبعثرًا فى المغرب، القصة روتها كل كتب السيرة النبوية الشريفة، وتحكى عن اللحظة الأولى لوصول المهاجرين إلى موطنهم الجديد فى المدينة المنورة.

كان المهاجرون فريقين لا ثالث لهما، الفريق الأول وهو الأكثرية يضم سادة مكة وأبناء سادتها، الذين أسلموا واختاروا التضحية بمكانتهم وأموالهم وعشائرهم فى سبيل الإيمان بالدين الجديد، وهؤلاء لم يكن أحد يستطيع اضطهادهم أو تعذيبهم، مَنْ الذى يستطيع جلد عمر بن الخطاب، أو تعذيب على بن أبى طالب، أو شتم الزبير بن العوام، أو مواجهة سعد بن أبى وقاص، أو التطاول على الصديق أبى بكر؟! ما تعرض له هؤلاء من عذاب لا يتجاوز عذاب المصلح والمفكر والفيلسوف فى بيئة معادية.

الفريق الثانى وهو الأقلية كانوا من المضطهدين حقًّا وفعلاً وقولًا، وكان على رأس هذا الفريق صحابة من أمثال بلال بن رباح وعمّار بن ياسر وباقى الأرقّاء الذين أعتقهم أبو بكر الصديق.

ذهب الفريقان معًا إلى الوطن الجديد، وهنا تقول الكتب إنهم جميعًا مرضوا وأصابتهم جميعًا الحُمّى، تشخّص الكتب الأمر على أنه راجع إلى طقس المدينة الجديد عليهم، والله يعلم أن طقس المدينة ألطف من طقس مكة، ثم هم ليسوا غرباء عن طقس المدينة، لقد كانوا يزورونها كثيرًا فى زمن جاهليتهم، لقد أخطأت الكتب التشخيص، إنها حمى البعد عن الوطن وحمى افتقاده وحمى الحنين إليه.

تقول الكتب إن الصحابة كانوا فى مرضهم الشديد يجلسون فى بكاء مقيم، وكان الذى يهيج أحزانهم بشعر حارق يذكر فيه مآثر الوطن الأولى هو بلال بن رباح.

نعم بلال الرقيق الذى عذبته قريش كما لم تعذب أحدًا، بلال الذى يقينًا لم يشهد عمره بمكة فرحة واحدة، بلال الذى ليس له فى العير ولا النفير، كان أشد الجميع بكاءً على الوطن، وأكثر الجميع حزنًا على مفارقة الوطن، الوطن الذى كان يعذبه ويجلده ويضع الصخر فوق صدره، بينما ظهره يكتوى بنيران رمل مكة.

أى شىء كان لبلال فى مكة حتى يبكيها كل هذا البكاء؟

لقد بكاها حتى زجره الرسول.


حتمًا بلال لم يكن يبكى عبوديته، ولا الظلم الذى تجرعه على مدار عمره، إنه كان يبكى المعنى العام للوطن، هذا المعنى الذى يسكن تحت جلودنا ويجعلنا نؤمن ساعة الجد أن الوطن ليس ترفًا كما أنه ليس وهمًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة التحرير في 2 يوليو 2014
لينك المقال: