الثلاثاء، 11 يوليو 2000

فكري الخولي : عندما قبضت 25 قرشاً شعرت وكأنى امتلكت كنوز سليمان ( 2 ـ 3 )





رغم أن مكتبتي مكدسة بكتب السير الذاتية والتراجم، إلا أن كتابين فقط هما اللذان سيطرا علىّ لدرجة "الهوس" كان الأول هو كتاب "الوسية" للرحل الكبير د. خليل حسن خليل وقد كان لي شرف مصاحبته في سنواته الأخيرة. وكان الكتاب الثاني هو الذي بين أيدينا الآن وكم تمنيت لقاء عمنا فكري الخولي وكم بحثت عنه ولكن لم يشأ الله لنا باللقاء لأن العم فكري رحل منذ أسابيع بعد أن أدى ما عليه تجاه عمله وفكره ووطنه. رحل رحمة الله عليه تاركًا لنا هذه الدرة الفريدة التي نتشرف بعرضها لنسدد بعض الدين الذي طوق به أعناقنا.. وبعد، فقد طالبني أكثر من صديق بأن أتوقف عند كل فقرة من فقرات المذكرات لأعلق عليها، ولكني أري أن أى تدخل في سياق هذه الوثيقة سيفسدها وإن كان على التعليقات فلنا جميعاً عيون ترى وآذان تسمع، وكلنا نعرف ما كان وما هو كائن.

حكاية الأسطى

الأسطى اللي قال لي إنه هيعلمني طلع راحل قد كلامه وفعلاً قام بتعليمي، فى الأول أنا كنت خايف موت من شكل المكن. المكنة كانت أكبر من بيتنا، ولكن شوية شوية الرهبة راحت وابتدأت أحب المكن وأحاول أفهم كل مسمار فيه. الحقيقة أنا معرفش سبب حبى للمكن ولكن صورة أمي وهي بتقول لازم تتعلم زي الناس اللي في مصر ماكانتش بتفارق خيالي.

 أمي دي أعظم ست شفتها فى حياتي أنا فاكر لما كنت صغير قوي وجه عندنا جدي الحاج وقعد مع أمي وفجأة أمي راحت معيطة وأخواتي البنات قعدوا هما كمان يعيطوا أتاري جدي كان عايز يجوز أمي ولكن أمي رفضت وقالت بعلو صوتها تحرم عليّ الرجالة بعد أبو فكري ومن ساعتها وأمي وخدانه في حضنها.
المهم حاولت أفهم سر المكن يعني لما كانوا العيال زمايلي يستخبوا من الرويسا علشان يناموا أنا ماكنتش بعمل زيهم وكنت مقطع نفسي في الشغل علشان أتعلم وأبقى عملت بوصية أمي اتعلمت زي الناس اللي في مصر.
وفي عز انشغالنا بالعمل، الجماعة أهل المحلة ماكانوش سايبنا في حالنا وكل يوم ينزلوا فينا ضرب وبرضه رؤساء العمل كانوا يضربونا ويعذبونا وفي كل يوم كان المكن بتقتل عامل أو عاملين وأحياناً خمس عمال وكان الرؤساء بيدفنوا العمال ولا من شاف ولا من درى، ده بالإضافة إلى انتشار الأمراض والأوبئة بين صفوف العمال لأن كل عشرين عامل كانوا بيسكنوا في أوضة واحدة والمستشفي الأميري كانت مليانة بجثث العمال اللي إيده مقطوعة أو رجله مقطوعة واللي المكوك خزق عينه واللي حالته كويسة كان مريض بالسل.
 الشركة ماكانش تعرف ليها صاحب إحنا بنشتغل زي الحمير 12 ساعة باليوم وبعدين نروح علي النوم وماعمرناش شفنا صاحب الشركة. المهم إن إحنا نقبض الأجرة كل 15 يوم. بعد وقوفي علي المكن لوحدي وبدون مساعدة من حد نزل قرار من الإدارة إني اللي النسيج بتاعه يكون وحش يتخصم منه 5 صاغ، طبعًا العمال زعلوا ولكن مين يقدر يكسر كلام الإدارة. المهم أنا اشتغلت بإديا وأسناني علشان النسيج بتاعي يطلع حلو وأقبض المرتب بتاعي كامل. وفي يوم القبض كانت المصيبة الكبرى لأني لما رحت للصراف أعطاني قرش صاغ واحد وقال لي باقي الأجرة بتاعتك اتخصمت منك لأن التوب اللي انت نسجته طلع معيوب، الصراف قال الكلام ده لناس كتيرة قبلي والعمال اللي اتخصم منهم قعدوا يبكوا ويلطموا على وشهم. أنا طبعا بكيت ولكني كنت مقاوح وقعدت أستعطف الصراف وأقول له حرام والنبي يا عم دا أنا يتيم وأبويا ميت وبجري على رزق أمي وأخواتي.
 الصراف كش فيا وطردني برضه، فقعدت أزعق وأقول حرام عليكم لغاية ما لقيت نفسي بمكتب المدير. العمال الرجالة الكبار لما شافوني وأنا داخل أوضة المدير قعدوا واستعجبوا من جنوني ولكن أنا كنت مستبيع لأنه في الآخر مش هخسر حاجة. المدير أعجب بشجاعتي وأمر بإعطائي التوب اللي نسجته وطلع معيوب وفعلاً أحضروا لي التوب وسط دهشة الجميع. وأنا خارج من المصنع ومعي التوب مسكوني علي البوابة وقالوا لي رايح بالتوب فين يا حرامي انت لازم سرقته وقعدت أحلف ليهم أن المدير ذات نفسه هو اللي أعطاني التوب ولكنهم لم يصدقوني إلا لما جاء واحد من الرؤساء وقال لهم سيبوه التوب فعلاً بتاعه.
الواد الصفتى والواد الغريب ماكانوش مصدقين إني خرجت بالتوب فعلاً. بعدما خرجنا من المصنع رحنا ندور على دكان نبيع له التوب وفعلاً بعته بـ 25 قرشاً وحسيت أني امتلكت كنوز النبي سليمان. خدت الفلوس وجري على بلدتنا ولما أعطيت الفلوس لأمي قعدت تبكي وتدعو لي بالسلامة طبعًا أنا مانسيتش أجيب منديل مشغول لأختي الكبيرة وعيش خاص وفلافل علشان يدوقوا أكل البندر. ولما جاء المغرب امتلأ نسوان وبنات جم علشان يسلموا عليا والبنت أختي جابت الطبلة وقعدت تغني هي وأخواتي ومعها باقي البنات "سالمة يا سلامة راح وجه بالسلامة".
 وفي الليل أمي عملت فطير علشان نتعشي وتاني يوم الصبح فطرنا بلبن حليب وبسرعة انتهت أيام الأجازة ورجعلنا للشغل تاني.

العودة إلى العمل

في أول يوم بعد رجوعنا، فيه ريس ضرب في عامل من العمال لغاية ما العامل بك الدم من بقه وأنا سمعت عامل تاني يستحلف للريس وبيقول أنا هموت الريس واللي يكون يكون، وبالفعل صرخ أحد العمال الحقوا العامل موت الريس. واقشعر جسدي وكنت أفكر.. والعمال تجري وإذا بي أدور الجري إلى هناك وأجد عالم ترش الملح ما ينزلش. وعالم متحوطاه، وأخرين يتزاحمون.. وتدافعت بينهم وهالني ما رأيت.. رأيت رجلاً ممدداً على الأرض والدماء تنزف منه بغزارة وملابسه قد لطخت بالدم.. كان نائماً حافياً.. وحذاؤه بجواره.. فردة هنا وفردة هناك وحاولت أن أتبين ملامح وجهه فلم أستطع.. كنت أريد أن أعرف من هو هذا الرئيس.. أهو الذي ضرب العامل أم غيره من الرؤساء؟.. ولكني لم أتمكن من رؤية وجهه فقد كان كل وجهه مغطي بالدم فلم تظهر من وجهه قطعة بيضاء.. تطلعت بين الوجوه الواقفة فلم أجد على وجوههم أي تأثر أو حزن.. ماعدا القليل منهم وكان على وجوههم الحزن بادياً.. كانوا من الرؤساء والرؤساء فقط.. أما العمال فلم يستطيعوا إخفاء بهجتهم من كثرة ما رأوه..

كانوا يتململون بأرجلهم نحوه وقيل إنهم يعبرون عن رغبتهم أن يدوسوا عليه بأقدامهم.. ومن خلال وقفتي لم أسمع صوتاً يردد اسم العامل الذي خلص العمال منه.. بل كثيراً ما سمعت اسم هذا الرئيس المتعسف ولم يكن يردده سوي الرؤساء كانوا يقولون عنه إنه كان شهماً في إخضاعه للعمال وكنت أسمع من حين لآخر صوتاً يقول: كنا متوقعين أن يحدث هذا.. كثيراً ما نبهناه وحاولنا إرشاده ولكنه رفض أن يسمع نصائحنا بحجة أن هذا الصنف لا يجب أن يعامل إلا هكذا وكثيراً ما ردد في هذه الكلمات.. كانت هذه طبيعته حتي منذ أن كان في المدرسة قبل أن يأخذ الدبلوم، دبلوم المدارس الصناعية، حتي زملائه الطلبة كانوا يكرهونه للتعالي.. كان المتوقع له أن يموت هكذا.. وآخرون كانوا يبكون بحرارة.. وكانوا يرددون اسمه كشهيد.. وكانت الدموع تتساقط من أعينهم وهم يرددون اسمه!! كنت معانا دلوقت يا زغفراني، كنت معانا من دقيقة.. بينما الرؤساء يقولون ذلك.. كانت العمال واقفة على الجانب الآخر تجز على الأسنان وقال أحد الواقفين وهو يلوح بيده نحوهم.. بكره ترقدوا رقدته.. وأحذيتكم تبقى كل فردة منها في ناحية. وقال آخر: يمهل ولا يهمل، فرد آخر أمهلناكم كثيراً وآن الأوان لننتقم. وسألت أحد الواقفين عن العامل اللي قتله.. وكنت الإجابة ما نعرفش.. وسررت لهذا وتمنيت ألا يعرفوه.. وإذا بأحد الواقفين يزعق: الدراع.. الدراع.. اللي انضرب بيه.. أهو ملوث بالدم، كان الدراع من بتوع المكن. دراع من الخشب الزان.. وقال أحد العمال الواقفين: هاتوه.. هاتوه هذا نخفيه ولم تمر لحظة إلا ودخل العنبر عدد من الخفراء بأيديهم العصى.. ودوروا الضرب في العمال ولم يبقى سوى الرؤساء بجواره.. وتجمع العمال على الماكينات وهم يقولوا ربنا خلصنا من واحد.. كانوا يرددونها شامتين، ووقفوا على الماكينات يختلسون النظرات من بعيد.. وقال أحدهم: شايفين الريس ميت والمكن ما وقفش.. كله عند العرب صابون.. مافيش فرق بين موت العامل وبين موت الرئيس.. كنت فاكر أن هناك فرق.

 فرد آخر: عاوز تقول مافيش فرق.. أيوه مفيش فرق.. العامل لما تموته المكنة.. ما وقفش المصنع، والريس أهوه مات ومتلقح والمكان داير.. يبقى فين الفرق.. حد جه وقال إنه كان بيضرب العمال ياللا وقف المكن علشانه.. ولو دقيقة.. ولما وقع ما حدش سأل عنه.. كلوه لحم ورموه عضم.. كانوا يتكلمون وعيونهم في الاتجاه نحوه.. وقال آخر: خلصنا من واحد.. وبينما العمال تتحدث كان المكن "داير" والسيور تهتز اهتزازاً بطيئاً، خيل إلىّ أنها تسير دون خوف.. وقلت في نفسي: حتى المكن والسيور فرحانة.. وسألت نفسي: هم بيقولوا إن العامل لا يعمل إلا وهو خائف، سمعت هذا من الضابط المتقاعد يوم أن أعطى أمرًا للخفراء بالضرب.
 سمعته يقول: إنهم عبارة عن لمامة.. لازم يمشوا خايفين ورأسهم مطأطأة.. لازم تخوف العامل من دول يمشي ويبص وراه.. لازم يخضعوا.. وما يخضعوش إلا بالضرب. وسمعت هذا من الرؤساء.. إذن فهذه سياسة ينفذونها جميعاً.. حتى المدير.. وإذن نشتكي لمين.. هذه كانت الأسئلة. وسألت نفسي من جديد: هل صحيح العامل ما يشتغلش إلا بالضرب، إلا وهو خايف.. مش معقول طيب لما كانت أم الواحد تشتمه كان الواحد بيفضل طول النهار محروق دمه، وما بيعرفش يعمل حاجة.. قلت في نفسي: وهم دول ما همشي زينا.. مش أولاد آدم ما يمشوش إلا بالعافية.. ما يمشوش إلا بالضرب.. ما يعرفوش إن الضرب بيغضب.. ما غضبوش من أهاليهم.. ما سمعوش من أهاليهم "إن ضربت القطة خربشتك" وعدت وقلت: يمكن مافيش حد ضربهم ولا حد شتمهم وعلشان كده بيضربونا.. لو حد ضربهم مرة أو شتمهم ما كانوش عملوا كده.. وهم دول حد بيضرهم ليه.. دول طول عمرهم عايشين بعيد عنا.. عايشين في السرايات.. دول ولاد عمد.. لا حد شتمهم، ولا حد ضربهم دول طول عمرهم عايشين على ضرب الناس.. شافوا أباءهم وهم بياخدوا الفلاحين في الدوار يضربوهم ويشغلوهم في أرضهم ببلاش دول أصلهم راحوا المدارس واتعلموا، فلازم يبانوا قدامنا إنهم أحسن، وأصلهم فاكرين إن العمال دول زي الغنم بيسوقوهم زي ما بيسوق الراعي الغنم.. وبينما أنا غارق
جاءت النيابة في تساؤلي إذ بعالم يدخل من الباب.. عالم كثيرة.. كلهم أفندية لابسين على رؤوسهم طرابيش.. واتجهوا نحو الجثة.. نحو الريّس الميت الغارق في دمه، واتهت الأنظار نحوهم.. والقصير اللي ما يقدرش يشوف شب على صوابعه وإذا بالولد الغريب يأتي مسرعاً ومال على أذني ــ النيابة ــ: النيابة جت.

 جاية تحقق، الناس قدام بيقولوا وقلت في نفسي: طبعاً النيابة لازم تيجي.. تيجي دلوقت.. لما واحد يموّت واحد.. لكن المكن لما يموت واحد النيابة ماتجيش.. ليه.. ما نعرفش؟ قال الولد الغريب: النيابة جت تعالى واتفرج. وتركته واقفاً على المكن.. ودورت الجري نحو عبدالعظيم قائلاً: النيابة.. ياللا نقول: نقول لها كل حاجة، نقول لرؤساء بتضربنا والمكن بيموت كل يوم عمال. نقول لها إن الرؤساء يمنعونا من الذهاب إلى الدورة.. نقول لهم إنهم بيرغمونا على المشي في العمل حافيين، فرد قائلاً: حتقول لها إزاى.. المدير واقف.
ما يهمش نروح ونوشوشهم في ودانهم.
يفصلونا
وحيفصلونا ليه.. اشمعنا همه اشتكوا.
همه حاجة وإحنا حاجة تانية
أمال حنعمل إيه
نستنى
وحانستنى لإمتى
لما يطلونا
وهمه حايطلبونا؟
تعالى نقف جنبهم.. مانخليش حد يشوفنا.. قلت هذا وتركته لأن المكن قد وقف.. وقلت للعمال المحاورين لى: النيابة تحت.. تعالوا نشوفها.. فوقفوا ساهمين دون أن يتكلموا. وجاءني عبدالعظيم يجري لأنه رآنى أتكلم مع العمال وهمس في أذني ــ هو أنت جايب الكلمتين دول من البلد جاي تقولهم على طول.. اسكت ما تتكلمش لحسن لو حد سمعك حايشيلوك من إيدك ومن رجلك ويرموك على بره. قلت: أمال هنعمل إيه.
نستني لما نكتب زي ما أنت قلت.. نستنى لما نجتمع نكتب شكاوي خلسة.
 في بلدنا راح يعملوا.. وإحنا كنا نعمل.. وإذا كانت النيابة جت نقول على كل حاجة، ولم تعجبه كلماتي، تركني وذهب. وإذا بي أجد العمال يتسربون واحد ورا واحد وهم يقولون ياللا.. ياللا نشوفه.. ياللا نشوفه.. نشوف الظالم وهو ميت.. نشوفه في رقدته الأخيرة.. واتجه الجميع نحوه ووقفوا في أحد الأركان يتأملون في الوجوه التي حضرت ليلاً ووجوه الأفندية اللي قيل إنها نيابة.

وآخرون يسيرون في تباطؤ ناظرين خلفهم خائفين واتجهت أنا الآخر سائرًا على مهل.. وأخذت مكاني بين العمال ووقفت أنظر إلى الأفندية وهي تذهب وتأتي، ويعدون المسافات بالخطوة وأخيراً وقفوا يطلون في الورق وأخيراً وقفوا ينظرون إلى الوجوه الواقعة بعيون حادة النظرات وإذا بي أسمع كثيرين يقولون ياللا.. ياللا نقول للنيابة وكان عبدالعظيم واقفاً بينهم، وهللت عندما رأيته واقفاً وأيقنت أنه هو الذي تكلم مع الواقفين أخذاً بكلامي.. واتجهت نحوه قائلاً: ياللا نقول.. وإذا بي أجد أحد الأفندية يهم واقفاً من على المقعد الجالس عليه وفي يده جانب من الورق يأتي بخطوات مسرعة نحوي، وقلت للواقفين عندما رأيته: دا جاي نحيتنا، أهو جاي وتطلعت إلى وجهه الأبيض المشبع بالاحمرار، وعينيه الخضراوين وشعره الأصفر الناعم.. وقلت في نفسي إنه أت مسرعاً ظناً منه أننا سندلي باعترافات.. ولهذا فهو آت والبسمة تعلو شفتيه، إنه رآنا نتكلم ونتكلم، وعندما اقترب منا هجمنا عليه في نفس واحد مرددين.. الرؤساء بتضربنا.. والمكن بيموت العمال وما بيخلوش العمال يروحوا الدورة.. والعامل لما بيموت ما بنعرفش بيندفن فيه. كانت الكلمات تخرج سريعة كلمات سريعة متتالية تخرج من الأفواه وتشجع آخرون وهجموا علينا وتكلموا في هذا الاتجاه.. وسمع لكل العمال وأشار بيده قائلاً: بس اسكت انته وهوه.. وأنا حسأل وانتم تجاوبوا.. مين موت الريّس؟ وأجبنا في نفس واحد – مانعرفش.. شوفنا الريّس ده بيضرب العمال في أول الليل.. كان بارك على عامل.
مين موت الريّس؟
قلنا ما نعرفش.
كنا بنتكلم.. وهو يكتب.. وبعد الانتهاء من الأسئلة عاد إلي مكانه وطلب آخرين وسأل واحداً وراء الآخر. وكانت إجابة من دخلوا.. ما نعرفش.. وأخذت النيابة الورق وخرجت بعد أن رفعت الجثة. وقالت العمال وهي تنظر له: شايفين.. داخل على رجليه.. وطالع النهاردة على ضهره.. على أيدى الرؤساء من شاكلته وقال أحد العمال:
مش قلنا إن الصبر على جار السو يا يرحل يا تيجي له داهية.. وأهو راح.. راح من نصيبه. وقال آخر: راح للأبد. وقال ثالث: عقبال الباقي.
وسار العمال خلف المكن وإيديهم تمتد بالسلامات.
وأشرق الصباح
وانتهي الليل، وأشرق الصباح مع تهاليل العمال وفرحتهم.. وخرجنا من العنبر في الاتجاه إلى البيت وانتشر الخبر كالرعد بين العنابر لا حديث للعمال إلا هذا الحادث.. حديث الشارع في الطرقات وفي العطف.. كل الناس تتكلم .. الظلم قد مات.. وأمام باب المصنع وجدنا عدداً من العمال بملابسهم المخططة واقفين جنب البوابة في انتظار عبدالعظيم، أمام باب المصنع كانت النسوة الأخريات واقفات، والفرحة بادية عليهن لأنهن سمعن خبر الرئيس اللي مات "الرئيس الظالم"!
صحوت مبكراً، ولبست جلبابي، وتمشيت في الحجرة.. تمشيت طويلاً، وأيقظت الولد الغريب والولد السيد الصفطي وكان الصباح هادئاً.. لم يكتمل إشراقه، والجو مغبراً ينذر بالمطر، ولم تكن أبواب المنزل قد فتحت والمحلات كانت مغلقة.. ولكن طلائع العمال قد ظهرت في الطريق.. وفي عجلة أخرج كل منا رغيفاً من قفته، وبدأنا نأكل في نهم وخرجنا من المنزل مسرعين.. وفي ميدان المحطة وجدنا عبدالعظيم واقفاً ومعه آخرون، وأمام باب المحكمة وجدنا نسوة كثيرات وأطفالاً صغاراً يمسكون بجلابيبهن وأخريات يقبضن على أطراف ملايات اللف بأسنانهن، ويتطلعن ذات اليمين وذات اليسار متأملات كل من يسير في الطريق وخيل إلي أنهن يبحثن عمن يعرفونهن، ووقفت أتطلع في تلك الوجوه، وقلت في نفسي: أين أم العامل.. أين هي؟ وإذا بعبدالعظيم يقول تعالى لما نخش علشان نلحق لنا مكان.. قلت:
أمال فين أم العامل؟
دلوقت تشوفها.. تشوفها لما تيجي.
ونحن نسير وسط ضجيج الباعة.. وإذا بثلاث نسوة بملابس ريفية سوداء يجلسن القرفصاء بجوار سور المحكمة وبجانبهن طفل في التاسعة من العمر بجلباب من الزفير المخطط يحمل عصا في يده وعلى رأسه طاقية من الصوف الأحمر وعلي القرب منهن ثلاثة رجال بملابس جبردين، بها خطوط بيضاء.. وقفت عندهن متأملاً وهم يتحدثون مع أحد الأفندية وكان يحمل تحت إبطه ظرفاً مليئاً بالورق وجذبني عبدالعظيم من يدي، واتجهنا للداخل، ولم تمر لحظة وإذا بالنسوة يدخلن خلفنا.. وفي أحد الأركان جلست النسوة، ويدا كل منهن على خديها.. وأخذت مكاني في الصف الأخير من القاعة وبين الحين والحين كنت أنظر للنسوة محاولاً معرفة أم العامل.. وهمست في أذن عبدالعظيم أسأله:
كل النسوان دون جايين علشانه؟
وإذا به يقول: لأ.. هيه حتكون فيهم.. دون جايين علشان ناس تانية.
قلت: أمال فين العامل؟
دلوقتي ييجي.. هييجي من السجن.
وبعد فترة كانت القاعة قد امتلأت بالناس وإذا بصراخ وضجة تعلو من الخارج كان صراخ النسوة هو الغالب.. ازيك يا محمد.. ازيك يا محمود.. ازيك يا علي.. أسماء وأسماء!! وصراخ وعويل وناس تجري من هنا وناس تجري من هناك وإذا بعبدالعظيم يقول: أهم جم.. جم من السجن دلوقت.
وتطلعت الأنظار، وشحبت الوجوه، وازداد البكاء.. بكاء النسوة الواقفات ودخل المساجين.. دخلوا القاعة مقيدين بسلاسل من حديد.. وعلي أجسادهن ملابس بيضاء، غطتها الوساخة، ورؤوسهم لم يكن بها شعرة واحدة حلقت بالموس، وحفاة الأقدام، وبجانبهم الكثير من العساكر حاملين البنادق.. وقلت وسط الضجة:
دول حالقين جلط! حالقين لهم رؤوسهم ليه؟
صراخات النساء
 وتأملت الوجوه المشوهة باحثاً عن العامل بين الجنود ولم أستطع معرفته إلا بعد أن أمعنت النظر، ولم أعرفه إلا وهو يلوح للعمال بيديه المكبلتين. وإذا بامرأة طويلة تميل إلى السمرة مشدودة الرأس بطرحة سوداء بجانبها طفل يمسك بجلبابها تقف بالقرب منا هي وأخريات، يصرخن صرخات عالية، متوالية بعد أن دفع الجند المساجين في القفص، واستمررن في الصراخ: ابني. ضناي.. ثم بدأن يجففن دموعهن بملابسهن.. وارتجفت رجفة خفيفة عندما سمعت منهن تلك الكلمات المحزنة.. والتفت النسوة حول تلك المرأة الطويلة يهدئن من روعها، وأخرجت منديلها وكورته في يدها بانفعال.. خيل إلىّ أنها تضغطه وخيم السكون على القاعة، وأطبقت كالقبر. وقالت في صوت يشبه الصمت همه عاملين فيهم كده ليه؟ ورد أحد الجالسين:
السجن كده.. مكتوب علي بابه تأديب وتهذيب وإصلاح.. بياكلوا عيش أسود تقرف الكلاب من أكله وسكتت القاعة، ووضع كل منا يديه على قلبه في انتظار ما نسمعه، وخرج صوت الأم من جديد من وراء المنديل المبلل بدموعها، كأنه الأنين، وآخرون يسكتونها: استكتي يا وليه، وهي تردد: ابني.. ابني.. وارتفع صوت من الأمام هز المحكمة.. ودخل ثلاثة معلقين أشرطة خضراء على أتافهم، وجلسوا في الأماكن المخصصة لهم، وشخصت الأنظار وشعرت بالرهبة والرعشة ملكت كل جسدي وخيم الصمت على القاعة، وشعرت بنبضات قلبي ترتفع ولم أستقر في مكاني، فكثيراً ما تمللت عند نداء الحاجب على الأسماء.. وكانت قضية العامل.. وعلى يمين القضاء وقف أحد الأفندية، علق على كتفه شريطاً أحمر، زين بالهلال ممسكاً فى يديه ورقة وبدأ القول:
حضرات المستشارين، قضية اليوم هي من القضايا المهمة المتصلة بأمن الناس وأرواحهم، وقلت في نفسي هيه.. حلوة.. أمن الناس وأرواحهم.. وهمست في أذن عبدالعظيم.. ده معانا.. بيتكلم عن أمن الناس وأرواحهم.. وإذا بعبدالعظيم يقول: دي نيابة.
ما هي معانا.. مش قلت لك إحنا كنا عايزين نكتب لها. واسترسل وكيل النيابة في القول: قدمت علي عجل لأهميتها.. ولوح بيده نحو القفص هذا القاتل الخالي من كل إحساس ملأت قلبه الأحقاد والغيرة.. قتل رئيسه.. قتله أثناء العمل علي مسمع من الجميع.. قتل رئيسه المتفاني في خدمة المجتمع.
جميع إيه.. هو إيه ده.. انت معانا ولا معاهم ما تقول الحق.. مش إحنا قلنا لك إنه كان بيضرب العمال.. قول إنه كان لا يحترم خلقة ربنا وبيضرب الناس علي وجوههم، ويمنعهم من الذهاب للدورة.. قول.. قول الحق.. مش مكتوب في الورق.. خايف ليه.. وإيه العدل؟ أمال نيابة إيه؟ أنا طول عمري أقول نكتب للنيابة.. هيه النيابة تبقي كده؟ هوا أنت كمان حتبقي على العامل.. واسترسل وكيل النيابة في القول:
ولأهمية القضية قدمت على عجل، مصنع لأول مرة في مصر.. مصر المستقلة فهمس أحد الحاضرين.. مستقلة إيه.. أمال الإنجليز اللي مالية البلد دي.. واسترسل وكيل النيابة في القول:
مصنع يضم بين جدرانه الآلاف من العمال بينهم صفوة من خيرة المثقفين بذلك أمهاتهم العرق في سبيل العم ونهضة الصناعة، فقام أحد الجهلاء من الذين أعمت قلوبهم الأحقاد وقتل رئيسه.. ولوح بيده من جديد نحوه.. واسترسل قائلاً: وهنا تبرز أهمية القضية، وسبب التعجل في تقديمها.. قدمت على عجل لأخذ القصاص منه ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه الاعتداد ولحماية الصفوة المتعلمة.. وقال عبدالعظيم في همس:
بس الصفوة.. أما العمال اللي كل يوم بيموت مالهمش حد علشان كده مستعجلين.. له رب.. وقالت واحدة من النسوة:
حرام عليك.. ده بيربي يتامى.
وختم وكيل النيابة كلامه قائلاً: إنني أطلب الإعدام لهذا العامل ليكون عبرة لاستقرار النظام ولتعود الطمأنينة للقلوب. وهدأت القاعة وتململ الجميع والتقت الأنظار متسائلة: أين العدل؟ وقال آخر: عدل إيه؟
وإذا بصوت يجلجل من بعيد.. وكان صوت المحامي الذي وقف أمام القضاء.. يقول: "موكلي ليس هو القاتل ولكن القتلة هم الذين يختفون من وراء المكاتب ويصدرون الأوامر.. ثم يسمونهم الصفوة المختارة.. صفوة المثقفين الذين رباهم الأهل بالعرق.. وإن المظالم بلغت حد الإهانة بالقيم إن المظالم التي يعانيها العمال بالشركة دفعت غير موكلي إلى الإقدام على العمل.. فإذا أردتم الاستقرار ابحثوا عن السبب.. سبب المتاعب التي يعانيها آلاف الفلاحين الذين نزحوا للعمل في سبيل لقمة العيش، إن على أكتافهم تقام الصناعة.. هيئوا لهم حياة أفضل من تلك الحياة التعسة التي يحيونها.. إن هذا العامل ضحية من يختفون وراء الستار، وإذا أردتم معرفة الحقيقة.. تفضلوا واذهبوا معي إلي المستشفي الأميري لتروا بأعينكم ما تفعله الشركة بالعمال، أما ما يقال إنه القاتل، فهذا غير صحيح، لأنه لم يثبت عليه، ولم يعترف به أحد من العمال، لم يعترف رغم ما قاساه من تعذيب أثناء التحقيق، كان يتكلم والقضاة تنصت، وقاضي اليسار يهتم كلما سمع كلمة مظالم وكان يتململ في مكانه دائماً، وكثيراً ما كان يسند بيده رأسه، وتارة أخرى يعبث بالورق، ويميل بأذنه على قاضي الوسط، والآخر يتململ كلما سمع.. فكان لا يتحرك.. والامل واقف في القفص يهز رأسه إعجاباً بالدفاع، وأم العالم ترفع يديها إلى السماء، تدعو في صمت علشان اليتامي، وهمي عبدالعظيم: قول.. اتكلم عن الدورة.. النيابة.. النيابة ما قالتش.. قول عن المكن اللي بيقتل كل يوم عامل.. قول الله يحميك.. وختم المحامي دفاعه قائلاً:
إن هذا العامل يجب أن يخرج من القفص، ويوضع مكانه من يختفون وراء الكواليس، ووراء الماكينات.. إن موكلي بريء، من واقع الأوراق، وأطلب البراءة. وكادت القاعة تضع بالتصفيق لولا أن القضاة دقوا بأقلامهم على المنضدة ثم نهضوا ودخلوا إلي غرفة جانبية.. وعاد القضاة، وأعلن قاضي الوسط الحكم، ثماني سنوات مع دفع دية تقدرها المحكمة فيما بعد. ورنت القاعة بالتصفيق. وقالت النسوة "إيش تاخد الريح من البلاط؟" قالوها والدموع تتساقط.. وهلل العامل في القفص بعد أن قيدت يداه بالحدي وهتف قائلاً راح الظلم إلى الأبد، وخرج من القفص وأركبوه عربة سوداء وسارت بطيئة وسط شارع مزدحم بالعمال، والنسوة يقفن والعمال يلوحون بأيديهم، والعامل يخرج يده المكبلة ويلوح بها طويلاً إلي أن اختفى عن الأنظار. ونحن نسير في الطريق كانت دقات قلبي ترتفع وسألت من كانوا يسيرون بجانبي: أنتم ليه صفقتم عندما سمعتم الحكم؟ فقال أحدهم "كنا نتوقع الحكم بإعدامه.. وكان الجميع يتوقعونه.. ولهذا كان هو أول المصفقين.. ليه يحكموا بثمانية سنوات مش بيقولوا "وإذا حكمتك بين الناس أن تحكموا بالعدل" فيه عادل يحكم على المظلوم ويترك الظالم.. أنا كنت فاكر أنهم حيروحوا يشوفوا بعينهم.. المحامي مش طلب.. ليه همه لم يستجيبوا لطلبه ويذهبوا إلي المستشفى.. لو راحوا يمكن ماكانوش حكموا بهذا الحكم.. لو شافوا العمال المتكسرين.. والعمال اللي بتموت بالسل.. يمكن كان قلبهم رق.. ليه ما راحوش.. خايفين من إيه.. خايفين من اللي قال عليهم المحامي أنهم وراء الكواليس.. اللي بيصدروا الأوامر.. ومن هم؟.. من هم الذين يقصدهم المحامي؟ وأنا لما كنت عند المدير علشان أستلم التوب وجدت صورة فوق رأسه مكتوب عليها "الملك أحمد فؤاد" وأخري مكتوب عليها "طلعت حرب" متعلقين فوق رأسه يبقي دول اللي وراء الكواليس.. يمكن!! بس هو ما قالش.. ما قالش ليه، والمدير ليه معلق الصور فوق رأسه.. وأفكار كثيرة راودتني.. وقلت: يبقى همه دول اللي يقصدهم المحامي.. المرة دي ماقالش.. يمكن.. يمكن مرة تانية يبقى يقول؟
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة القاهرة ــ 18 يوليو 2000

هناك تعليقان (2):

  1. بجد أنا باشكر حضرتك على الكتاب الأكثر من رائع ده حقيقي بقالي كتير ما قريتش حاجة بالأصالة دي :))
    دمت في خير وسعادة

    ردحذف
  2. باشا
    الشكر لصاحب الإبداع أخى الكريم

    ردحذف