الخميس، 5 أكتوبر 2023

حدث في أغسطس (قصة قصيرة)



قال لي صاحبي:

ــ ستعمل في تسعة شارع أحمد العطار بالحي السابع بمدينة نصر.

ـ منذ متى تنطلق مواقع صحفية في مدينة نصر؟

ـ سمعتك كثيرًا تقول: ليس للشحاذين طلب الفطائر.

ـ لله الأمر من قبل ومن بعد.

ـ مديرك سيكون الأستاذ صالح أبو النجا، أظنك تعرفه، عملك هو عملك المعتاد، فرد ديسك.

ضحكت بملء فمي وقلت:

ـ فرد ديسك، أو فرد أمن ، لا فرق بين الفردين.

قال غاضبًا:

ـ لستَ غريبًا لكي أشرح لك خفايا العمل، الذين بيدهم الأمر لا يرحبون بك، ولذا فأنت قابع في قعر البطالة، فاحمد الله الذي ساعدني توفير فرصة عمل لك.

قلت:

ـ الحمد لله الذي لا يحمد على ديسك سواه.

***

أكثرهم يعمل في المهندسين أو الدقي، بعضهم يعمل في الزمالك، قلة تعمل في جاردن سيتي، أنا وحدي الذي سيعمل في مدينة نصر، وأنا فقط الذي سيبدأ عمله يوم السبت العاشر من أغسطس.

 مدينة نصر والصيف وأغسطس ثم أبحث عن سبب لاكتئابي!

العمارة التي بها الموقع مكونة من خمسة طوابق، والطابق من أربع شقق، موقعنا في الشقة التي على يمين السلم في الطابق الأول.

الموقع اسمه" لا" نعم والله اسمه"لا"، يضم أربع غرف وصالة مريحة وحمام طيب جدًا ومطبخ صغير وشرفة يحلم بها عاشق للسهر ومناجاة القمر.

الغرفة الأولى للسيد المحاسب الذي لن يظهر إلا لساعة واحدة في اليوم الأول من الشهر، الثانية للسيد رئيس مجلس إدارة الموقع، وهو لن يظهر أبدًا لأنه يؤمن بأن الحياة ما هى إلا موبايل وأجهزة كمبيوتر متصلة بشبكة الانترنيت.

الغرفة الثالثة للأستاذ صالح بوصفه رئيس تحرير الموقع، الغرفة الرابعة والأخيرة لفرد الديسك الذي هو أنا.

فرحت لأن لي غرفة، ولكنها كانت ككل فرحة فرحتها، فالغراب اللعين أخذها وطار.

قال الأستاذ صالح وهو يضع يده على كتفي:

ــ أنت محترف وتعرف ما في الأمور.

ـ نعم أنا محترف ولكن أقسم بالله لا أعرف ما هى الأمور حتى أعرف ما الذي بداخلها.

أعجبته مقاطعتي السريعة فجلس ودعاني للجلوس في مواجهته وقال بنبرة العالم ببواطن الأمور: سياسة موقعنا التحريرية تقوم على رفض الجمود والدعوة إلى التجديد، ومن هنا اختار السيد رئيس مجلس الإدارة كلمة" لا " لتعبر خير تعبير عن سياسة الموقع.

ـ من الذي سيمول الموقع؟

ـ السيد رئيس مجلس الإدارة طبعًا.

ـ هو إذًا صاحب الموقع وليس هناك مجلس ولا إدارة.

ـ وهل هذا يعني لك شيئًا، اسمح لي، قالوا للهدهد: سيتم تهجيرك.

 فرد عليهم: طرطوري فوق دماغي، أنت هنا ديسك وهناك ديسك، وهو هنا هدهد وهناك هدهد.

ـ هو هدهد بطرطور وأنا فرد ديسك بدون طرطور.

تجاهل تعليقي وواصل قائلًا:

ــ الموقع قائم على العمل أونلاين، وهذا سيريحك من ضجيج ومشاكل المحررين، ولن ترى سواي وعامل البوفيه، بمناسبة البوفيه العامل سيقدم لك الماء المثلج، بدون مقابل، وكوب شاي أو فنجان قهوة، ما فوق ذلك ستدفع ثمنه، وهو ثمن رمزي على كل حال.

ـ كيف سنرفض الجمود وندعو التجديد.

رد بثقة الخبير:

ـ بسيطة، سندعو لتجديد الخطاب الديني.

***

أي تجديد وأي خطاب وأي دين؟

هذا دكان وليس موقعًا صحفيًا، وهذه صفائح ممتلئة بثرثرة وليست نصوصًا سيتحمل كاتبوها عبء رفض الجمود ومعاناة الدعوة للتجديد.

ما علينا، ما أنا إلا فرد ديسك، طرطوره بين أصابعه.

وقف الأستاذ صالح فوقفت وتوجهت إلى جهازي لكي نبدأ العمل.

طعنني الأستاذ صالح في سويداء قلبي عندما قال بهدوء يحسد عليه:

ــ سأكون شريك في غرفتك، لكي لا تشعر بالوحدة، سأطلب من الولد أن يضع جهازي في مواجهتك، الوحدة تضعف عضلة القلب، هذا ما قاله أكابر الأطباء.

حمل الولد الذي هو مسعد عامل البوفيه جهاز الأستاذ صالح ووضعه في مواجهة باب الغرفة وليس في مواجهتي.

واضح أن الأستاذ قد عين نفسه مديرًا لأمن الغرفة، فمن موقعه سيرى النملة التي ستعبر الباب.

ما علينا، فما أنا إلا فرد ديسك، سأعمل ساعات ثم أغادر صحراء مدينة نصر عائدًا إلى صحراء السادس من أكتوبر.

طلبت من الأستاذ صالح البريد الإلكتروني للموقع لكي أبدأ في العمل.

بهدوء حاسم رد:

ـ لا، اسمح لي، هذه أمانة، البريد الإلكتروني لن يفتحه سواي، إنه من أسرار العمل الكبرى، أنا سأقوم بإنزال المادة ووضعها في ملف باسمك على الديسك توب، وبعد أن تعمل أنت عليها ستعيدها لي، فأقوم أنا، وأنا فقط بنشرها على الموقع.

ـ ولكن هذا ليس عمل رئيس التحرير.

ضحك بإحراج وقال:

ـ نحن أخوة، وزملاء، لا رئيس ومرؤس، المهم تنفيذ السياسة التحريرية.

***

لقد ذبحوني فأحسنوا الذبح، الحقيقة ليس هناك ذبح، الحق أن ما يحدث لي هو التدمير، قصفوني بمادة ستفسد أرضي ما حييت، الأمر سيتجاوز تعبير الأرض المحروقة، أرضي أصبحت دنسة نجسة لن تصلح ثانية، المصالحة صفرية، العيش ميتًا في مستنقع البطالة أو العمل تحت رئاسة الأستاذ صالح أبو النجا.

كنت أسمع اسمه كثيرًا مقترنًا بوصف الكاتب الكبير، متى كتب صالح ومتى أصبح كبيرًا؟

لم أقرأ له ـ أنا دودة القراءة ـ شيئًا، ولكنه موجود بل مسيطر ومهيمن، هو في كل الحفلات والجنائز والأفراح والندوات والمؤتمرات ، لا يمر يوم دون الإشارة إلى اسمه ووصفه بالكاتب الكبير.

ما هى الكتابة التي كتبها وأين نشرها؟

أعرف كل فنون تلميع الوجوه وأعرف كيف يبروزون فلانًا أو فلانة ويقدمونه في صدارة المشهد، ولكن الحاصل مع الأستاذ صالح فوق ذلك.

هل الرجل مدرب على تدمير أرض الناس وتدنيسها وتركها كخرقة بالية لا تصلح حتى لتنظيف أسطح المواقد؟

هل هذا دوره وتلك مهمته؟

هل أنا الآن مصاب بهلاوس والرجل أبسط وأتفه مما أظن؟

أين يقيني؟

لا يقين، فكل يوم يباغتني الرجل بجديد لا يمكن أن يكون طارئًا على شخصيته، هو مُدرب ولتذهب شكوكي إلى الجحيم.

لقد كرهت كل موقف وقفته وكل كلمة قلتها ضدهم، لقد تركوني أتكلم ، وها قد جاء وقت الحساب، وما أقسى حسابهم الجالد لظهري بسوط الأستاذ صالح أبو النجا.

***

أصحو مبكرًا، بعد ساعات نوم مضطربة، أتناول بيضة واحدة مسلوقة، مع كوب شاي، ثم  أغادر بيتي في السابعة صباحًا لكي أصل إلى الموقع في التاسعة أو بعدها بقليل.

دائمًا أجد مسعد عامل البوفيه في انتظاري، يقدم لي فنجان قهوة وكوب من الماء المثلج ثم يتركني لينكب هو على فيديوهات اليوتيوب والفيس بوك الساخنة.

أكلمه محذرًا:

ـ يا مسعد، هذه الفيديوهات ستخرّب ركبتيك.

يرد ضاحكًا:

ـ فيكن خراب ركبتي في صالح عمارة مزاجي.

أفتح الجهاز، دائمًا ما أجد ثلاث مواد عابرة للتصنيف، فهذه ليست مقالات ولا تحقيقات ولا أخبار ولا تقارير، إنها لا تنتمي لأي نوع من أنواع الكتابة الصحفية، هى محض ثرثرة، لا أعرف كيف يجرؤ قلب إنسان على اقترافها.

أذكر نفسي بأني فرد ديسك، مهمته صنع قدمين وساقين وذراعين ورأس لهذا الهراء.

أعمل بكل جهدي قبل قدوم الأستاذ صالح.

في وقدة الظهيرة يأتي، فأقول بصوت لا يسمعه: أغسطس ومدينة نصر وصالح أبو النجا، ثم أشكو من اكتئابي!

لم أغلبه سوى في معركة واحدة، ففي يومي الأول معه قال بحسم:

ـ التدخين ممنوع في ساعات العمل.

ـ سأمتنع عن التدخين عندما تضع على المقر لافتة تقول:" هنا مستشفى الجلاء للولادة".

ـ لماذا مستشفى الجلاء على وجه التحديد؟

ـ سبق لي أن وضعت جنيني الأول بها.

قال غاضبًا:

ـ هل تسخر مني؟

ـ معاذ الله، ولكن الذي أوله شرط آخره نور، سأدخن، هذا يرضيك فأهلًا وسهلًا، لا يرضيك، سأغادر الآن، وأنت لم تخسر شيئًا، وأنا سأكون قد خسرت أجرة المواصلات.

رسم بسرعة فائقة ابتسامة على وجهه وقال:

ـ لهذا هم لا يحبونك.

سارعت بمقاطعته:

ـ مَنْ هم الذي لا يحبونني؟

ضحك ضحكة صافية ورد:

ـ أنت تعرفهم، دخن يا سيدي براحتك ودمر قلبك ورئتيك كما تشاء، مع الأخذ في الاعتبار أنك ستتحمل وزر مرضي بالتدخين السلبي.

ـ لديك مكتب فاذهب إليه.

بعد تلك المعركة التي ربحت فيها التدخين وتدمير ما بقي من قلبي ورئتي، لم أربح معركة واحدة، لقد فرض الرجل ثلاث فقرات سيطر بهن على بقية يومنا.

الفقرة الأولى: خصصها للشكوى من السيدة المصون زوجه الكريمة، فهى تهمل فحولته!

عندما سمعت فحولته هذه لأول مرة كدت أنفجر من وطأة العبث الذي أسمعه، رجل في الثانية والسبعين يتحدث عن الفحولة.

طبعًا لهذه الفقرة توابع تدور حول مغامراته التي يتحدث عنها وهو يغمز بعينه اليسرى الكليلة غمزة تثير اشمئزازي.

الحمد لله لا يسترسل في حديث الفقرة الأولى ليدخل سريعًا في وقائع الفقرة الثانية، التي تدور حول أمجاده الصحفية، فهو قد سافر إلى اثنتين وثمانين دولة، وحاور قادة تلك الدول، ومقابلاته هزت الأوساط الإعلامية.

طبعًا لا ينسى الشكوى من وكالات الأنباء العالمية التي كانت تتخاطف حواراته وتبثها ولا تقدم له مقابلًا ماديًا يستحقه.

في أول عهدي به ، ظننت لغفلتي أن التخلص منه ومن فقراته، هو من الأمور البسيطة الهينة، كأن أفتعل الاستغراق في العمل ولا أرد عليه بكلمة.

ولكن هيهات، فهو يقترب بمقعده من مقعدي حتى يكاد أن يلاصقني ثم يشدني من ذراعي لكي أنظر إليه وأتابع الفقرة بوجهي وعيني وأذني، مع ترديدي لكلمات من عينة، يا سلام ، الله أكبر ، هل هذا معقول ، هذا إنجاز خارق.

عندما فشل افتعالي الاستغراق في العمل جربت حيلة ثانية وأخيرة فقد صححت له نطقه لعاصمة أسيوية زعم أنه أقام بها ثلاث سنوات.

لحظتها ندمت أشد الندم، ثم غزاني خوف جبان قاتل، الرجل سيموت الآن، سيموت مختنقًا بالغضب، وسيبلغهم عامل البوفيه بأنني الذي أغضبته، لو ترافع عني أعظم المحامين فستتم محاكمتي بتهمة القتل الخطأ، يعني سأسجن لسنوات، لأني صححت نطق اسم عاصمة.

بدأ موته بذهاب دماء الحياة من وجهه، لقد أصبح وجهه فاقع الصفرة، وراحت شفته السفلى ترتعش، ثم بدأت أصابع يديه ترتعش، ثم ضرب فخذيه بيديه الاثنتين ضربة قوية جدًا، ثم  هب واقفًا كأنه شاب في ريعان شبابه، ثم عاد إلى مقعده، تكلم بلعثمة مخمور، فلم أفهم من كلامه شيئًا، ثم بقدرة عجيبة عاد إلى الحياة فقال:

ـ مَنْ قال لك إن عاصمة تايلاند اسمها بانكوك.

ـــ كل قراء النشرات الأجانب والعرب ينطقونها بانكوك.

ــ حمير، هل تحاكمني من أجل الحمير.

ــ لم أحاكمك، أنا قلت ما أعرف.

ـ هى بانجوج، ولا شأن لي بحمير لا يعرفون صحيح النطق، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لقد قلت لك إنني عشت بها ثلاث سنوات، ثم تأتي لتحاكمني مستندًا إلى نطق الحمير الذين لا يعرفون الألف من كوز الذرة.

ـ أعتذر ولن أكررها.

ــ طبعًا، لن تكررها، لا لشيء ، ولكن حفظًا لعقلك، أرجوك لا تستشهد بنطق الحمير ثانية.

ذهب إلى الحمام فرأيت عامل البوفيه واقفًا على رأسي وهو يقول:

ــ عفوًا، كنت أظنك أعقل من أن تقع في خطأ كهذا.

ـــ أنا لم أخطئ.

ــ بل أخطأت، وكدت تقتله.

ــ هو يكذب، والعاصمة اسمها بانكوك.

ــ هل بانكوك هذه من عائلتك؟ فلتكن بانكوك أو لبان دكر.

ــ هو يتعمد إهانة عقلي.

ـــ يا أستاذي، أنت في نعمة فلا تخرب بيتك بيديك، عقلك في رأسك، ولن يهنه أحد، اترك له أذنيك ، لتمضي الحياة، هو قال لي: إنك ـ عفوًاـ عاطل، وهو قبل بك، فليكن كلامه ضريبة عودتك إلى العمل.

ـ هذا جحيم يا مسعد.

ـ لا جحيم ولا أي شيء، تعمل قليلًا وتسمع حكايات مضحكة وتقبض راتبًا، بالحق أنت في الجنة.

ـ الأكاذيب تعكر دمي.

ـ  أنا لا أعرف هذا الكلام، الذي أعرفه أن لكل شيء مقابل، ضريبة يعني، أنا لم أحصل إلا على دبلوم التجارة، مثلي ليس له عمل، بقدر الله عملت مع الأستاذ صالح، يأخذني معه في كل عمل، وفي فترات البطالة يتولى أمري.

ـ يتولى أمرك لوجه الله!

ـ أستغفر الله، لا تجعلني أكفر ، أنا الذي أمده بـ"سِنة" الأفيون التي يستحلبها قبل مغادرته لبيته، وهى من أردأ أنواع الأفيون، وهو يدفع بسخاء عجيب، ثم أمده بمنشطات العطارين ، وهو يدفع بسخاء لأنه يؤمن بأن المنشطات قادرة على إحياء الذي مات وشبع موتًا.

ـ أنت مجرم يا مسعد.

ـ الجوع هو المجرم يا أستاذ، لقد أحببتك لوجه الله وفتحت لك قلبي، فلا تخن ثقتي بك، والتغافل لم يعد نصف الحياة لقد أصبح شرطًا من شروطها الأساسية، تغافل يا أستاذي لتستمر حياتك.

انتهى الأستاذ من حمامه، ثم جلس على مقعده بغير الوجه الذي ذهب به، كان وجهه هادئًا وفي عينيه علامات الانتقام، قال بصوت واثق:

ـ لا بد من زيادة ساعات العمل.

ـ إذا كنتم ستدفعون لي مقابلًا مجزيًا، فلا مانع.

ـ لن ندفع شيئًا.

ـ لن أعمل إلا من التاسعة صباحًا حتى الخامسة عصرًا.

ـ ستأتي مبكرًا ساعة واحدة وتنصرف متأخرًا ساعة واحدة، صباح الغد سنضع جهاز البصمة.

ـ سيدي الأستاذ ، اختر أمرًا من ثلاثة، تقر لي الزيادة، أو توافق على موصلة العمل كما هو الآن، أو تقبل اعتذاري عن عدم موصلة العمل.

ظل يبحث في جيب بنطلونه عن شيء ما، ثم قام متوجهًا إلى الشرفة  هو يصيح:

ـ قهوتي بسرعة.

مكثت أضرب أخماسَا في أسداس، أفي كل خرابة عفريت، لماذا حياتي أنا التي كلها خرائب، ولماذا عفاريت خرائبي متيقظة دائمًا؟

يعمل الواحد من زملائي، في مكان واحد عمره كله، لا يتجرع من الغيظ في كل عمره المهني ما أتجرعه أنا في يوم واحد، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

أعادني رنين الموبايل إلى واقعي، كان صاحبي عراب الاتفاق، قال:

ـ هاتفني مسعد ونقل لي تفاصيل ما وقع بينك وبين الأستاذ صالح، إنه الآن في الشرفة، يستحلب سِنة أفيونه.

ـ هل تعرف؟

ـ الوسط كله يعرف، أنت فقط الذي يعيش في غيبوبة.

ـ غيبوبة! شكرًا يا سيدي.

ـ لا شكر على تقرير واقع، المهم ، أنا سأتحدث إليه الآن وسأزيل سوء التفاهم الذي حدث.

ـ لم يكن سوء تفاهم، إنه..

ـ يا أخي ، أعرف كل شيء، سأجعله يرجع عن كل كلامه وستستمر بشروطك، كل ما أرجوه أن تسمع له.

ـ يا صديقي إنه يعذبني بأكاذيبه.

ـ انظر إلى نصف الكوب الممتلئ، لقد غادرت البطالة، ثم ها أنت تحصل على راتب منتظم، ليس كثيرًا ولكنه يحقق لك بعض الأمان ، ثم وهذا مهم جدًا ، أنت الآن في قلب تجربة جديدة، أنت عصبي، وأرجوك لا تنكر هذا، وهو يكذب كما يتنفس، أنت الآن في قلب خلطة جهنمية مفرحة، شاهد التجربة من خارجها ولا تعايشها، أتفقنا يا مولانا؟

ـ لله الأمر من قبل ومن بعد.

عاد الأستاذ صالح وكان هادئَا كأن شيئًا لم يحدث ، فعرفت أن صاحبي قد تكلم معه وحصل منه على العفو والغفران، فور جلوسه بدأ في الفقرة الثالثة وهى الفقرة التي أطلقت أنا عليها " فقرة هل تعرف؟".

يقول الأستاذ: هل تعرف أن الجملة العربية هى بالأساس جملة فعلية ، تبدأ بالفعل، وأن الأفعال منها المعرب والمبني، والماضي والمضارع والأمر؟

هل تعرف أن ذا القرنين مذكور في القرآن؟

هل تعرف أن محمود درويش شاعر فلسطيني؟

هل تعرف أن لقب شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر؟

هل تعرف أن نهر النيل ينبع من الحبشة؟

هل تعرف أن ثلث الثلاثة واحد؟

يمكث قرابة الساعة في سرد تلك المعلومات التي يؤمن أنها من كنوز المعرفة، عندما تأتي الساعة الخامسة، أحرك شفتي هامسًا بالشهادة، الحمد لله لقد انتهى اليوم.

لا يتركني الرجل أذهب في أمان الله، يقوم ويضع يده اليمني على كتفي ويبدأ في انتقادي، يصفني بالمكتئب المنعزل الصامت غير المتفاعل ، الكاره لمتع الحياة!

أنظر إليه صامتًا وأنا أهز رأسي بعلامة الموافقة.

يقول بحسم:

ـ لا تترك نفسك بدون علاج.

ـ الشفاء من الله.

ـ ولكن يجب أن تسعى.

ـ سأسعى.

ـ أنت شاب، فتمتع بسنوات شبابك.

ـ لست شابًا، أنا في النصف الثاني من الخمسين.

يضحك ضحكة صاخبة ويضرب كتفي بقبضة يمينه بقوة لكي يؤكد قوته وفحولته، وأخيرًا يفلتني ، فأنطلق مهرولًا خائفًا من أن يستدعيني لكي يقول لي هل تعرف أن ليل الصيف قصير وليل الشتاء طويل.

***

لماذا خياراتي أنا فقط صفرية؟

لماذا أنا فقط الواقع بين أنياب ومخالب ، أكون أولا أكون؟

البطالة أوعذاب الأستاذ صالح، لو قمت بتصفية حسابي معه ، فسيعيدني إلى البطالة ، ولو واصلت الصمت وهز الرأس فقد أجن، حقًا الرجل يعذبني وليس لعصبيتي التي يرميني بها الزملاء دخل، كنت سأشعر بالعذاب حتى لو كانت لي برودة جبل ثلج.

من صحراء مدينة نصر يحملني ميكروباص إلى جنون ميدان رمسيس، ومن جنون ميدان رمسيس يحملني ميكروباص إلى فوضى ميدان الحصري ، ومن فوضى ميدان الحصري يحملني ميكروباص إلى عمق صحراء أكتوبر ، حيث فوقي صحراء وتحتي صحراء وعن يمني صحراء وعن شمالي صحراء ومن أمامي صحراء ومن خلفي صحراء.

في متاهات الميكروباصات، تستحوذ عليّ ليلي السعيد.

تأتي من زماننا الأول، معطرة ناعمة لينة باسمة تقول: أنا السعيد ومن جاور السعيد سيسعد وأنا سأسعدك حتى تحلق في قلب النشوة.

تقول: هون على نفسك، فأنت لست صحفيًا، أنت الكاتب الفنان.

تقول: اترك لي ظهرك وسأتولى حمايته، أما قلبك فهو معي ولن تسترده أبدًا.

تقول: فليقم سيدي ومليكي إلى جولة حب فجنتي عطشى.

بدموع قلبي أدعو الله أن يصرفها عني، لقد ذهبت ولن تعود ما فائدة إعادتها لتشهدني مصلوبًا على صلبان جنون الميكروباصات وزحامها وعرقها وصراخها؟

تغادرني ليلى عندما أكون فوق المحور، ثم سرعان ما تعود نمرة مفترسة شائهة الملامح تصرخ:

ـ أنت أناني، فعندما طلبت منك طلاء جدران الشقة باللون البيج، لم تستجب. سأذهب ولن أعود.

أسألها بصوت أنكرته لما سمعته:

ـ ستذهبين لأني لم أقم بطلاء الجدران باللون البيج؟

تصرخ:

ـ أنت لا تفلح إلا في السخرية، سأذهب ، ويوم القيامة سأطلب من صاحب الأمر، أن يقذف بي إلى الجحيم إن كنت أنت من أصحاب الجنة، لا أريد رؤية وجهك مرة ثانية.

ذهبت في منتصف أغسطس من عشر سنوات مضت، ومن يومها لم أسمع صوتها ولم تقع عيناي عليها، وما حصدت سوى اللوعة والأسئلة الجهنمية التي لا جواب لها.

***

 

صحوت منتعشًا بدون أي مناسبة تدعو للانتعاش، قبل أن أغادر سريري تمتمت بكلمتها الخالدة:" وراء الغيوم مطر كثير".

لماذا صدقت كلمتها؟

لماذا عشت عمرًا أعول على البشرى ، وعلى الإشارات المبهمة الغامضة؟

لقد مضى أغسطس ولكن ساعات الصباح تنذر بيوم حار كله رطوبة ولزوجة وعرق، فلماذا أنا منتعش؟

أعرف قلبي، اليوم سيقع أمر ما يحرك دمه الراكد.

***

خوفًا من الحر ومن ملل العادة، أسلك دائمًا الشوارع الجانبية التي نجت من مذبحة الاشجار التي تعرضت لها أشجار العاصمة، كل الشوارع ستقودني في النهاية إلى شارع  أحمد العطار حيث مقر الموقع.

لم أهتم يومًا بمعرفة أسماء تلك الشوارع أو بمعرفة معالمها، إنها عندي شوارع تقيني قسوة الشمس وتنقذني من مخالب الملل.

في شارع ظليل، رفعت عيني فرأيتها كانت تتقدمني بخطوات.

لقد صدق قلبي ابن الكلب الذي لا يكف عن الحنين.

 منها يبدأ الانتعاش وإليها تعود النكبة، لقد سبقني قلبي بساعتين ونصف الساعة، صحوت منتعشًا في السادسة، والساعة الآن تشير إلى الثامنة والنصف، ما هذا القلب العجيب؟ لماذا سكن صدري أنا تحديدًا؟

إنه قلب يصلح لعالم  فذ أو لقائد منتصر، وليس لفرد ديسك مهزوم.

نعم إنها هى، غابت لسنوات كأنها سقطت في جب العدم، ثم ها هى تعود ثانية، لقد أخبرني قلبي بعودتها ، إنه قلبي الذي يعول على البشرى ويعتمد على الإشارات المبهمة، من حقه أن يبتهج، بل من حقه أن يصدق.

نعم إنها هى، هو بنطلونها الجينز، والحذاء الأسود الأنيق ، والقميص الرجالي الفاتن الذي يخفي كنوز أنوثتها، والطرحة الحمراء التي تغطي شعرها.

إنها هى، ظهرها المستقيم وخطواتها الجادة الواثقة، هى كانت تقول:" أنوثتي ليست على المشاع".

نعم إنها هى بقفازيها الأبيضين اللذين تحمى بهما يديها من قسوة الشمس.

لا أنا أتبعها ولا هى تقودني، روابط خفية تضبط  سرعة وإيقاع خطواتي، فتظل هى أمامي تسبقني بخطوات تتيح لي التمتع بالنظر إليها.

قلبي هادئ وتنفسي منتظم وكل جسدي يرشح حنينًا وشوقًا، لقد تمنيت لسنوات هذه اللحظة ، لحظة أن تقع عيناي عليها، وكنت أظن أنني لحظتها سأجن أو سأقع فريسة غيبوبة كاملة، ولكني الآن في تمام يقظتي وصحوي وانتعاشي!

كيف انتبهت لمتابعتي لها؟

لقد وقفت فجأة واستدارت لتواجهني، سقط قلبي ، لم تكن هى، هذه بيضاء، قاتلتي كانت خمرية، إلى متى سيعذبني هذا القلب البائس؟

تقدمتْ نحوي حتى لم يعد يفصلني عنها إلا خطوة واحدة ابتسمت بكل وجهها وقالت: الحديث عن قرون الاستشعار الأنثوية ليس خرافة، نعم شعرت بمتابعتك لي وأنا راضية عن نظراتك المهذبة لأنك لا تبحث عن شهوة .أنت تجتر ذكري، فلا تجعل شيئًا يفسد عليك أيامك، والآن اذهب إلى شأنك.

قالت جملتها،وسمعتها فذهبتُ.

ـــــــــــــــــــــ

نشرتها مجلة ميريت الثقافية عدد أكتوبر 2023

 


 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق