الأربعاء، 27 سبتمبر 2023

طيروا لتنهضوا


الوقائع التي تجري على الأرض تقول: إن أيامنا هذه التي نعيشها تشبه حالة الشاعر الذي قال :

" إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه

ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه".

ولكن مَنْ قال إن اليوم يحكم الغد وإن الحاضر يصادر المستقبل؟

إن نظرة سريعة على شعوب ودول لم تكن ثم ها هي كائنة كفيلة بفتح أبواب الأمل ومن ثمّ العمل، بل إن إلقاء نظرة على تاريخنا القريب يكفي لكيلا نقع في شرك الاستغراق في انتظار عطايا ومنح الغد دون أن نعمل يومنا كله، وهذا الاستغراق حذرت منه جريدتنا هذه (جريدة المقال) في كلمة جليلة نقلتها عن الراحل الكريم الشيخ محمد الغزالي الذي قال:" أتدري كيف يُسرق عمر المرء منه؟

يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله، ويده صفر من أي خير ".

في تاريخنا رجال لم يذهلوا عن يومهم، سأقرأ معكم ملخصًا بسيطًا لسيرة أحدهم وهو عباس بن فرناس الذي ظُلم كظلم الحسن والحسين، حتى أنني وقعت على دراسات تبحث في موته وتسأل هل مات شهيدًا أم منتحرًا؟

ولد عباس في العام 810 من الميلاد لأسرة من الأمازيغ، ونحن لم نعرف هل هم من أمازيغ ليبيا أم تونس أم الجزائر أم المغرب، فكل تلك الدول بها جماعات كبيرة من الأمازيغ، ما يهمنا هنا هو أن عباس قد عاش طفولته وشبابه في قرطبة وكانت عاصمة العلوم في ذلك الوقت، ظهرت بواد عبقريته منذ طفولته وقد ساعدته الأجواء المحيطة به على النبوغ، وذلك لأن التعليم في قرطبة كان متاحًا للجميع وكاد يكون فرض عين على كل أولاد وبنات قرطبة.

نبغ عباس في المجالين، الأدبي والعلمي، فهو شاعر وعروضي ونحوي، ومعدود من بين أبرز علماء الأندلس في هذه المجالات الثلاثة، ثم هو طبيب وصيدلي وفيزيائي.

بدأ سلسلة اختراعاته في صدر شبابه فاخترع الساعة المائية والنظارة الطبية، وقام باختراع آلة تقطع الكريستال، ولم تكن هناك بلد تستطيع تقطيع الكريستال سوى مصر، فعمل هو على تيسير ذلك لأهل دولته ومن ثمّ عرفت أوربا المجاورة للأندلس هذه الآلة واستوردتها لتوفر على نفسها مشقة الذهاب إلى مصر.

ثم اختراع عباس القلم الحبر الذي نستخدمه إلى يومنا هذا، كما اخترع آلة اسمها " ذات الحلق " وهي آلةٌ معروفة لدى علماء الفلك وتمثل نموذجاً للقبة السماوية فتتوسطها الأرض في مركزها ومن حولها حلقات تمثل معالم مهمّة في الفلك كمسار الشمس وخطوط الطول ودوائر العرض.

وكان عباس يصنع كل تلك المخترعات في معمله الخاص الذي أقامه بداخل بيته، وكانت العامة والخاصة يأتون إلى بيته لمشاهدة تجاربه وهو يجريها أمامهم، وتلك المشاهدة المجانية ستكون كلمة السر في مأساة حياته، كما سيأتي بعد قليل.

لم يقنع عباس بكل تلك المخترعات وما أعظمها، لقد فكر في شيء كان خارقًا لسقف العقل، فكر في الطيران.

العصافير الضعيفة تطير وكذا تطير النسور القوية فلماذا لا يطير هو، وهو الإنسان المكرم من لدن الرب الخالق؟

بعقله الفذ وهمته العالية راقب عباس حركة الطيور وقام بحساب الارتفاعات والسرعات، يعني الأمر لم يكن مقامرة من مقامر ولا مغامرة من مجنون، لقد كان أمرًا علميًا يقوم به عالم فذ أراد أن يثبت كرامة الإنسان على سائر المخلوقات، وأراد أن يهب للإنسانية تحقيقًا لحلم كان من المستحيلات.

بعد إتمامه للحسابات النظيرة جاء عباس بقطع من الحرير وثبّت بها أجنحة من الريش وصاح في أهل مدينته المعروف لديهم حق المعرفة:" انتظروني يوم كذا أسفل مبني كذا في منطقة الرصافة، فسأطير من أعلى المبني ".

سرت صيحته في المدينة سريان النار في الهشيم، واجتمع الخلق أسفل المبني في اليوم الموعد، وحقًا طار عباس في لحظة تاريخية غير مسبوقة، لحظة سيكون لها ما بعدها، لحظة ستوضع في ميزان حسناته لأنها اللحظة التي ستهدي البشرية إلى مركبات الفضاء.

هل طار عباس حقًا؟

نعم وكرامة عين، لقد فعلها وطار مسافة غير قصيرة، وقد شاهده من أكرمه حظه وحضر الواقعة، لقد شاهدوه طائرًا محلقًا كصقر رشيقًا وهادئًا كفراشة، ثم سقط على ظهره، وما كان سقوطه إلا لأنه لم يلتفت لأهمية وجود ذيل في حركة الطيران.

هل مات فور سقوطه كما يشنعون عليه؟

لا، لقد عالج ظهره وعاش سنوات عديدة بعدها ولم يمت إلا على فراش نومه وقد تجاوز السبعين من عمره.

هل لا تزال تذكر الفرجة المجانية التي كان يتيحها عباس لأهل مدينته؟

العامة منهم والغوغاء من بينهم قالوا: هذا ساحر أفاك.

إنهم يرونه وهو يخلط مادة بمادة فيحصل على مادة ثالثة، وتلك كانت جريمته عندهم وذنبه الذي لا يغتفر.

رموه بالكفر والسحر والزندقة وشكوه إلى قاضي القضاة الذي لحسن الحظ كان رجلًا عاقلًا فدعا إلى محاكمة علانية في المسجد الكبير لعباس الذي سجل حضوره للمحاكمة وليس معه من شهود أو أنصار.

عباس الآن هو عدو الشعب والرب تكالب عليه الجهلاء وكادوا يفتكون به، إلا أن قاضي القضاة حال بينهم وبينه وسألهم عن تفاصيل شكواهم فوجد أن شكواهم هراء في هراء فأتاح لعباس فرصة الدفاع عن نفسه فسأل عباس الحضور:" هل الماء شيء والدقيق شيء آخر؟”.

قالوا:" نعم هما مختلفان ".

قال عباس:" هل لو وضعت الماء فوق الدقيق سأحصل على شيء مختلف؟".

ردوا " نعم، ستحصل على العجين ".

عاد وسألهم:" هل لو وضعت العجين في التنور سأحصل على الخبز ".

ردوا:" نعم، ستكون قد صنعت خبزًا ".

قال:" إذًا أين السحر فيما أفعل وأين الكفر في صناعتي، إنني أضع كل شيء وفق مقدار معين فأحصل على ما يفيدكم ويعينكم على الحياة ".

فسكتوا جميعًا وحصل عباس على براءة من السحر والكفر والزندقة.

هل تفتت يقينه في خدمة شعبه وعلمه؟

هل جلس يبكي جحود أمته؟

هل وقف على أطلال ذاته المجروحة ودينه الملطخ بالشائعات الكذوب؟

لم يحدث شيء من هذا، ظل عباس يعمل حتى لقي ربه غير ذاهل عن يومه وغير منتظر لعطايا ومنح الغد المجانية.

هامش

 هو أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس التاكرتي، طبيب فيزيائي وأديب وفنان اشتهر في القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي. ولد في برارة، ثم انتقل إلى قرطبة ودرس فيها شتى العلوم حتى لقب "بحكيم الأندلس"

ولد في العام 810 وتوفي في العام 887م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة المقال 2016

 

 

 

  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق