الجمعة، 21 يوليو 2023

بيرم التونسي .. لم يكسره عدو ولم يحمه حبيب ( 3ـ 3 )


لجأ  بيرم للتلاعب في اسمه ، وتمكن من الحصول على جواز سفر باسمه الجديد ، وصعد بهويته المزورة إلى سطح السفينة المتجهة إلى مصر .

هبط من سفينته في اليوم السابع والعشرين من شهر مارس من العام 1922 .

 خلال العامين الذي قضاهما بيرم في المنفى  كانت مصر قد تغيرت ، لقد أصبحت الثورة التي راهن عليها بيرم تراهن على المفاوضات مع المحتل ،وكان فؤاد عدو بيرم الأول قد أصبح ملكًا ، وكان بيرم قد هجاه قائلًا :

"ولما عدمنا بمصر الملوك

جابوك الانجليز يا فؤاد قعدوك

تمثل على العرش دور الملوك

وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون

بذلنا ولسة بنبذل نفوس   

وقلنا عسى الله يزول الكابوس

ما نابنا إلا عرشك يا تيس التيوس

لا مصر استقلت ولا يحزنون ".

مصر العظيمة عرفت بوجود بيرم وكتمت سره ، فراح رغم الخوف من اكتشاف القصر والاحتلال لوجوده يكتب شعره الحاد الساخن الساخر متناولًا كل أوجه الحياة في مصر ، وكان ينشر أشعاره في جريدة الشباب ولكن بدون توقيع ، ولكن الذين لهم بصر بالشعر كانوا يشمون رائحة بيرم الفواحة بالمقاومة  .

عاش بيرم متخفيًا في حضن مصر أربعة عشر شهرًا ، ولكنه لم يفلت من من هؤلاء الذين لا يقاومون ولا يحبون لغيرهم أن يقاوم .

يقول بيرم في مذكراته :" إذا كان أهل السياسة لم يشعروا بوجودى حينئذ، فقد شعر بى الزملاء من أهل الأدب، فقاموا بإبلاغ السلطات عنى وعن أمكنة وجودى وحركاتى وسكناتى، فرحلونى من جديد خارج مصر".

غاد بيرم إلى منفاه في اليوم الخامس والعشرين من مايو من العام 1923.

هبط بيرم ميناء مارسيليا ليعمل حامل حقائب ، ثم يتفجر شعره قائلًا

الأوله: آه .. والثانية آه .. والثالثة آه

الأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني

والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني

والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني

الأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخير

والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير

والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا موليير

الأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخير وإحساني

والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صافاني

والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زماني

الأوله اشتكيها للي أجرى النيل

والثانية دمعي عليها غرق الباستيل

والثالثة لطشت فيها ممتثل وذليل

الأوله آه .. والثانية آه .. والثالثة آه.

السؤال الآن أين يذهب شعر بيرم الذي كان يؤرخ به لحياة مصر ؟.

قلتُ من البداية أن الأحباب لم يحموا بيرم، فقد قامت جهة يفترض أنها محبة لبيرم وهى الهيئة العامة للكتاب بإصدار الأعمال الكاملة لبيرم ، وقد جمعت أنا منها اثنى عشر جزءًا ثم تركت جمعها غير أسف ، وذلك لأن الموجود بالأعمال هو صمغ وعجين وليس شعر بيرم ، فما أكثر القصائد الغائبة ، ثم القصائد المنشورة لا ترتيب لها يوضح سياقها ومناسبتها ، ثم ترتيب أبيات القصائد نفسه مختل ، وكثيرًا ما تتداخل الأبيات فلا يعرف القارئ أي شعر هذا ؟.

سيكتب بيرم كثيرًا عن مارسيليا ونسائها ، إنه رجل محب للحياة شأن كل مقاوم ، لا يصرفه عن تأمل الجمال شيء.

من النفي سيراسل بيرم الصحف المصرية ويرسل إليها بأشعاره وتنشرها الصحف بدون توقيع ولا تدفع إليه أدنى مقابل مادي ، مع أن أشعاره كانت تجعل الصحف رائجة ، وبعضها حقق من وراء أشعار بيرم ثروات طائلة.

الانقاذ اسمه عزيز

في تلك المتاهة يلتقي بيرم بالمخرج والممثل المسرحي الشهير عزيز عيد ، الذي طلب منه تأليف مسرحية يعرضها في مصر على أن تكون مقتبسة من أصل أجنبي ، فورًا يستجيب بيرم ويقدم لعزيز مسرحية " ليلة من ألف ليلة " فيقدم له عزيز عشرين جنيهًا مقدمة للاتفاق بينهما .

كانت تلك العشرون جنيهًا هى أعظم مبلغ لمسته يد بيرم ، وقد أرسل جزءًا منها لأولاده في مصر !

عرضت المسرحية وحققت نجاحًا كبيرًا أغرى عزيز بأن يطلب من بيرم التفرغ لكتابة المسرحيات على أن يقدم له دفعات تحت الحساب .

كان عزيز قد وعد بأن يبذل قصارى جهده لإعادة بيرم إلى مصر ، وهو الأمر ذاته الذي وعد به الموسيقار زكريا أحمد عندما زار فرنسا وقابله بيرم ، وزاد زكريا بأن تعهد بإرسال نقود لبيرم لكي يعيش عليها .

هذان حبيبان حميا بيرم قبل أن يسطع نجم حبيب ثالث ، سنعرض له في قادم السطور .

جرح جديد

مر مصطفى باشا النحاس بباريس في طريقه إلى لندن لتوقيع اتفاقية 1936 ، وعرف بيرم بوجود النحاس ، فذهب إليه وشرح له قضيته كاملة فوعده النحاس باشا خيرًا ، وطلب منه الحضور إلى مقر السفارة المصرية لكي يسهل له الباشا العودة إلى مصر .

فرح بيرم الفرح كله ، وعندما توجه إلى مقر السفارة وجد الأمن الفرنسي في انتظاره !

يقول بيرم في مذكراته :" قام الأمن بتفتيشي بحثًا عن سلاح معي ، وأخبرني أن هناك بلاغًا من النحاس برغبتي في اغتياله ".

لماذا تخلى النحاس عن بيرم وهو يعرفه حق المعرفة ؟.

سبق لزغلول باشا أن فعلها ، ولكن النحاس أوغل في عداوة بيرم ، ثم النحاس باشا ذاته هو الذي حمى أحمد ماهر والنقراشي وقد كان الاحتلال يتهمهما بقتل قواد إنجليز، فلماذا تخلى عن بيرم بل وشى به في فعل هو خارج سياق النحاس باشا ؟.

كان النحاس يغازل الملك فاروق من خلال التنكيل ببيرم عدو أسرته ، ثم شاء ربك أن يقوم فاروق بإقالة وزارة النحاس ، ليصبح النحاس باشا كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى !

ظل الأمن الفرنسي يضيق على بيرم حتى جاءت الضربة من أعلى ، لقد كانت فرنسا تستعد للحرب العالمية الثانية فرأت التخفف من عبء الأجانب فصدر قرار يطالب الأجانب بالعودة إلى مواطنهم في أسرع وقت ، وهكذا وجد بيرم نفسه في تونس مرة ثانية !

في تونس أنشأ بيرم جريدة الزمان ، فراجت رواجًا شديدًا في كل بلاد المغرب العربي  ، فتأكد الاحتلال الفرنسي الذي كان يحكم تونس أن رجلًا مثل بيرم لم يخلق للصمت ، فقرر الفرنسيون طرده من تونس !

كان الاحتلال الفرنسي رحيمًا هذه المرة ببيرم فقد خيره بين البلاد فوقع اختيار بيرم على سوريا ، فاشترط عليه الاحتلال عدم المشاركة في أي نشاط سياسي !

وافق بيرم على شرط هو خلق أصلًا ضده ، فكل شعر بيرم لا يمكن فصله عن السياسة بمفهومها العام .

   ضاق الفرنسيون الذين كانوا يحتلون سوريا ببيرم فقرروا نفيه إلى بلد من بلدان وسط إفريقيا حيث لا عرب ولا عربية !

صعد بيرم إلى السفينة التي ستنقله إلى وسط أفريقيا ولكن قلبه كان قد قرر قرارًا لا رجعة فيه .

ثمن العودة

صباح يوم الثامن من أبريل من العام 1938 توقفت السفينة في ميناء بور سعيد فقرر بيرم الهبوط منها وكأنه ليس مطاردًا ولا منفيًا .

عاد بيرم بعد رحلة المنافي التي أخذت من عمره ثمانية عشرة سنة كاملة ، وبعد السكرة جاءت الفكرة ، لقد قرر بيرم عدم العودة للمنفى ثانية ، فكتب خطابًا يحمل قصيدة إلى صديقه الشاعر الكبير كامل الشناوي الذي قدم الخطاب والقصيدة لرئيس تحرير الأهرام أنطوان الجميل .

قال الجميل للشناوي : إن محمد محمود رئيس الوزراء ومحمود فهمي النقراشي وزير الداخلية ، وأحمد حسنين باشا الأمين الأول في القصر، من أشد المعجبين ببيرم، وسأتصل بهم وأستأذنهم في نشر زجله .

حصل الجميل على الموافقات اللازمة لنشر قصيدة بيرم وفي الصفحة الأولى من الأهرام ، وكانت تلك سابقة !

بعد نشر القصيدة بساعات جاء الأمر من وزير الداخلية بتجاهل عودة بيرم ،  الحق أن بيرم كان قد قبل بدفع ثمن عودته ، كانت قصيدة عن شوقه وغربته ثم ختمها بكلمتين عن الملك الحالي فاروق الأول .

لا أدافع عن بيرم عندما أقول إن الملك الشاب كان أيامها محبوبًا من المصريين الذين كانوا يراهنون عليه لكي يخلصهم من تركة والده المثقلة بالجراح .

قال بيرم في قصيدته :

" غُلُبْتِ أقْطعْ تذاكرْ

وِشْبِعْتِ يا ربِّ غربةْ

بين الشطوط والبواخرْ

ومنْ بلادنا لأوروبا

وأقول لكمْ بالصراحةْ

إللي فْ زَمَنّا قليلةْ

ما شفت يا قلبي راحةْ

في دي السنين الطويلةْ

إلا لما شفت الطوافي واللبدة والجلابية

يا مصر يا نور الوسامة

ساطع وباين شروقك

لحن السلام والسلامة

الدنيا سامعاه في بوقِك

والجو فوقه ابتسامة

زي ابتسامة فاروقك ".

ورود كلمة فاروق في قصيدة لبيرم في سياق المدح كان هو الثمن الذي دفعه الشاعر الفذ لكي يعود إلى أحضان أمه .

ثم كان هناك ثمن هامشي وقع موقع الرضا من قلب بيرم ، لقد طلبت منه دوائر القصر أن يتكلم في حق النحاس باشا ، لكي يواصلوا غض البصر عن عودته .

وجدتها بيرم فرصة ليشفى صدره من النحاس فهجاه ، أو داعبه حسب وصف بيرم ، ثم سكت عنه عندما أخذ بثأره منه .

حد السيف

ثم كفاك الله شر معيشة الخائف المترقب الذي يحسب كل صيحة عليه ، وكفاك الله شر العيش على حافة الهاوية ، وكفاك الله شر المشي على حد السيف .

كل ما سبق تجرعه بيرم قطرة قطرة ، فهو لم يعد منفيًا ولكنه لم يصبح مواطنًا ينعم بالأمان ، فاروق لم يصدر عفوًا عن بيرم ، فقط غض بصره عن عودته ، هل جربت أن تكون حياتك معلقة بكلمة ينطق بها حاكم في أي ساعة من ساعاته ؟.

بيرم تجرع هذه الحالة حتى الثمالة ، ومع ذلك تدفق شعره ليطوف به كل أرجاء الوطن العربي ، فهو مع المقاومة أينما كانت وهو مع الشعوب المقهورة التي تقاتل من أجل غد أفضل ، وهو مع المرأة بدون قيد أو شرط ، ومناصرته للمرأة ستكون بوابة عبوره إلى الهرم الكلثومي ، كانت أم كلثوم عند بيرم رمزًا للمرأة المتحدية صاحبة الفهم والكبرياء ، فتعرف عليها وقدم لها عصارة فنه بداية من العام 1940 وحتى قبل شهر من رحيله ، نجاحه المدوي مع أم كلثوم جر عليه حربًا كادت تقتلعه .

لقمة العيش

قبل عودة بيرم كان كبار المطربين يعتمدون اعتمادًا شبه كلي على كلمات رامي وفتحي قورة وأبو بثينة وحسين السيد وقصائد شوقي وحافظ ، وبعودة بيرم حصل بمفرده على نصف الكعكة ، وهنا جاءت مواجع لقمة العيش ، فقد شن عليه أبو بثينة وفتحي قورة حربًا صليبية لا تهدف إلا إلى الاستئصال ، نحن أو بيرم !

أصبح الوسط الثقافي والفني موزعًا بين الطرفين فهناك من يدافع عن بيرم مثل زكريا أحمد ، بينما الأغلبية تعاديه وتكاد تقول بنفيه مرة أخرى .

لم تكن المعركة شريفة بأي حال من الأحوال، فقد كتب الشاعر الكبير المهم فتحي قورة مقالًا يتهم فيه بيرم بأنه كتب أغنية " جنسية " لأم كلثوم يعني رائعة بيرم " أنا في انتظارك " هل يمكن لمتذوق الشعر ان يوافق على ما كتبه قورة ؟.

سكت بيرم ولم يرد لأنه يعرف ثمن كلامه ، فقد يعود للمنفى ثالثة ، ولكن شيطانه الشعري لم يصبر ، فعندما منح مهرجان للزجل العربي اقيم في لبنان أبا بثينة إمارة الزجل العربي قال بيرم :

" خراب ما يحتاج لمعاينة

وفن باير وأهى باينة

 أميرى جوز أم بثينة

 وأنا الرعية أنا وعيالها".

هذان البيتان كانا المدفعية الثقيلة التي انهت المعركة فقد عرفوا أن بيرم عندما يهجو فإنه يوجع .

الحبيب الحامي

ثم جاء أبو خالد ، عبد الناصر الذي رفع كل السيوف عن رقبة بيرم ، ومنحه في فجر الثورة الجنسية المصرية ، وفتح أمامه أبواب صحيفة الثورة الجمهورية ، ثم منحه جائزة الدولة التقديرية ، وكانت أرفع الجوائز المصرية ، ثم عندما كتب بيرم ملحمة " الظاهر بيبرس " وكانت الإذاعة تبث حلقاتها ، ثم توقفت بزعم أن الملحمة لا تمثل الحقيقة التاريخية ، تدخل عبد الناصر وأمر باستئناف إذاعة الحلقات .

غني عن الذكر أن بيرم كان من أوائل المؤيدين لثورة يوليو ، وراهن عليها كما راهن على ثورة 1919 ، ولكن الفارق أن عبد الناصر لم يخذله كما فعل زغلول والنحاس ، غفر الله لهما .

الوداع

منذ بدايته وبيرم يعرف نهايته لقد قال في زمن شبابه  :

" قال: إيه مراد ابن آدم؟

قلت له: طقه

قال: إيه يكفي منامه؟

قلت له: شقّه

قال: إيه يعجّل بموته؟

قلت له: زقه

قال: حـد فيها مخلّد؟.

قلت له : لأه ".

نظر والد الشعراء فؤاد حداد حوله ثم قال :

" فين بيرم التونسي اللي علمنا

نلف ونقلوظ عمايمنا  ".

بكى صلاح جاهين على بيرم ثم قال :

" النعـش عـايم في الدموع في عينيا

فـايت فـى قـلب القـاهرة ومـعدى

هـو عـارفها وهـى مـش عـارفاه

عـلى كـل حـاره وكل عطفة يهدى

كـأنـه راجـع لـسـه مـن منـفاه

بيــبوس بعـيـنه اللِـبْـدَة والجلابيه "

وقفت أم كلثوم على مسرحها الشامخ في الليلة الخامسة من شهر يناير من العام 1961لتغنى رائعة بيرم " هو صحيح الهوى غلاب " ولكنها قبل الغناء نظرت للجماهير وقالت :" شاعر الشعب محمود بيرم التونسي مات قبل قليل ".

مصر العظيمة قبلت جبين ابنها بيرم الفرد الفذ الذي لم يخنها قط .

ــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات ، الاثنين 22 يوليو 2019

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق