الجمعة، 21 يوليو 2023

بيرم التونسي .. لم يكسره عدو ولم يحمه حبيب ( 2ـ 3 )

 


كان بيرم التونسي يدرك بفطرته السوية أن المصريين هم شعب من الجِمّال ، يصبرون على الجوع والظمأ وعلى الأذى وعلى برد الصحراء وقيظها ، صبرًا يجعل الذين لا يعرفون نفسية الشعب  يظنه كومة من الجماد الذي لا يحركه شيء ، ثم فجأة يرد عليهم الشعب منتفضًا ومحطمًا كل سد يحول بينه وبين تحقيق أحلامه .

تفهم بيرم لطبيعة الشعب المصري ، جعله يوقد شرارة ثورة 1919 قبل أن تصبح الشرارة نارًا تحرق الاحتلال ، كل ما كتبه بيرم قبل الثورة كان تمهيدًا وحشدًا لها ، فهو يسخر من الاحتلال وأعوانه ويقلل من شأنهم ويحرض الشعب على الوقوف في وجوههم .

اشتعلت الثورة في كل الوادي من أسوان إلى دمياط ، فكان بيرم أول المساندين ولم يكتف بالقصائد والأزجال ، فقد أصدر جريدته " المسلة " ولكي يهرب من قهر الرقابة كتب في ترويستها :" المسلة لا جريدة ولا مجلة " وقد كتب بمفرده كل موادها ، وإمعانًا في تحدي الاحتلال وعبيده وضع صورته على غلاف الجريدة ، وطبع من عددها الأول خمسة آلاف نسخة ،وقام بتوزيعها بنفسه ، قاصدًا رواد المقاهى وموظفي الحكومة ، وقد أحسن السكندريون استقبال الجريدة فنفد عددها الأول ، وأصبح اسم بيرم وجريدته على كل لسان .

رأي بيرم أن مغادرته للإسكندرية وإقامته في القاهرة سيخدم آمال الثورة ، فسكن القاهرة وفيها ألتقي لأول مرة بالموسيقار سيد درويش ، الذى كان معجبًا ببيرم وبشعره ، متمنيًا أن يساعده بيرم في تطوير فن الغناء العربي .

كان الوقت وقت ثورة ، وكانت الأحلام عظيمة ، كان الموسيقار يحلم بإنشاء أوبريت مصري من الألف للياء ، فطلب من بيرم كتابته وقال له نصًا :" حجة الإنجليز الدائمة لتبرير استعبادنا أننا شعب ضعيف لا يستطيع حكم  نفسه ، عشان كده أنا شايف إن الأوبريت من أوله لآخره يكون تمجيدا للإنسان المصري ".

كتب بيرم الأوبريت تحت عنوان " شهو زاد " في إشارة إلى شهوات أسرة محمد على التي تحكم مصر بتحالفها مع المحتل ، ولكن الرقابة رفضت العنوان ، فجعله بيرم " شهر زاد " ، وعرض الأوبريت وحقق نجاحًا ساحقًا ، وبعد مرور مئة عام على عرضه ، ما نزال نحفظ ونردد بعض أبياته " أنا المصرى كريم العنصرين / بنيت المجد بين الأهرمين /  جدودى أنشأوا العلم العجيب / ومجرى النيل فى الوادى الخصيب ".

وقعت الواقعة

مشكلة بيرم والذين مثلهم أنهم يذهبون إلى رأس الدمل مباشرة ، لا يعرفون التحايل ولا يهاجمون الذيل ويخافون الرأس ، في القاهرة أصدر بيرم العدد الثاني من " المسلة " وفي القاهرة ستقع الواقعة .

المؤرخ المصري العظيم " ابن إياس " قال :" أهل مصر لا يطاقون إذا أطلقوا لسانهم في حق  الناس ".

وقد أطلق المصريون لسانهم في الأميرة " فوقية ابنة الملك فؤاد من زوجته الأولى شويكار ، وملخص القصة الشائكة يقول : إن علاقة خاصة قد ربطت بين  الأميرة  ابنة السلطان فؤاد (الملك فؤاد فيما بعد) وحسين باشا فخرى الذي كان محافظًا للقاهرة .

قالت الشائعات : إن فخري قد رفض طلب السلطان بالزواج من الأميرة ، وعرض أن يتزوجها شقيقه "محمود باشا فخرى" وكان سفيرًا لمصر فى فرنسا.

وبالفعل تم الزواج !.

بيرم الذي راهن على قدرة الثورة على تخليص البلاد من حكم فؤاد تلقف الشائعة وكتب عنها قصيدة الشهيرة " القرع السلطاني " والقرع هو " الكوسة " مع ما تحمله الكلمة من إيحاءات معروفة .

 نشر بيرم قصيدته في جريدته المسلة وكان أبرز أبياتها يقول صراحة :" الوزة من قبل الفرح مدبوحة / والعطفة من قبل النظام مفتوحة "

جن جنون فؤاد عندما وصلته القصيدة التي انتشرت كالنار في الهشيم ، ولكن ماذا يفعل فؤاد مع بيرم ؟.

بيرم تونسي حسب الأوراق الرسمية ، وهو بهذه الصفة من رعايا فرنسا التي كانت تحتل تونس ، وفؤاد لا يستطيع طرد رعية فرنسية من مصر !

هل سكت بيرم وقد مرت القصيدة بغضب مكتوم من فؤاد ؟.

المصريون لم يسكتوا ، فعندما رزق السلطان بابنه فاروق ، قال المصريون : إن نازلي أم فاروق قد حملت به قبل الزفاف بأشهر !

فكتب بيرم قصيدته " البامية الملوكي  " والبامية تعني القرون ، ودلالة القرون معروفة لدي المصريين .

قال بيرم مخاطبًا فؤاد :" ربك يبارك لك في عمر الغلام

يا خسارة بس الشهر كان مش تمام ".

ولم يسكت بيرم فقد كتب قصيدة ثانية قال فيها :

"سلطان بلدنا حرمته جابت

ولد و قال سموه فاروق

يا فاروق فارقنا بلا نيله

دي مصر مش عايزة لها رذيلة " .

تأكد فؤاد من أن بيرم لن يسكت ، وكيف كان سيسكت وهو شاعر الشعب ، والشعب كان يتهم فؤاد بأنه قد أجهض ثورتهم؟ .

واصل بيرم إصدار المسلة ، وفي كل عدد قصيدة تنال من فؤاد وابنه الطفل وعائلته جميعًا ، قرر فؤاد إغلاق المسلة ، فأصدر بيرم جريدة جديدة أطلق عليها اسم " الخازوق " مواصلًا الاشتباك الحاد مع العائلة المالكة .

بيان تكفير

هدأت الثورة قليلًا ، وكان وجهها الأبرز سعد باشا زغلول يستعد مع الوفد المصري للسفر إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح لعرض قضية استقلال مصر عليه .

الشيخ محمد بخيت وكان مفتيًا للديار المصرية ، كان من رافضي سفر الوفد المصري ، وشاع أن الشيخ من المتحالفين مع فؤاد والاحتلال ، فهجم عليه بيرم هجمة شنيعة جاء فيها

" أول ما نبدى نصلى على النبي

نبي وطني يلعن أبوك يا بخيت

ثاني كلامي وفد مصر بلادنا

ولع شموعه والتقى الكبريت ".

لم يكن الشيخ بخيت مغلول اليد مثل فؤاد فقد رد على هجاء بيرم بإصدار بيان أتهم  فيه بيرم بالكفر والإلحاد!

هنا كان يجب أن يخاف بيرم ، ولكنه لم يخف وواصل طريقه في الهجوم على رؤوس الاحتلال والمتحالفين معه .

بداية العذاب

سعى فؤاد بكل قوة لطرد بيرم ، وأخيرًا نجح في إبعاده إلى تونس .

عاد بيرم إلى أرض أجداده يوم 25 أغسطس عام 1920، ومن المفارقات أن اليوم كان يوم عيد الأضحى ، فكأن فؤاد كان يذبح بيرم بنفيه عن مصر .

بعد نفي بيرم إلى تونس بقليل وضعت زوجته ابنته الثانية ، ثم تأكدت الزوجة أن بيرم لن يعد فطلبت الطلاق وحصلت عليه .

في تونس دفع بيرم  ثمن جذور جدته التركية.

يقول بيرم في مذكراته :" اقتصرت علاقتي بعائلتي على المجاملات البسيطة ، لأن العائلة كانت قد أصبحت إقطاعية ذات مناصب ، منطوية على نفسها ، وكانت الدعاية التي تحوطني في تونس ، أنني كنت أحد الثائرين في مصر ضد بريطانيا لصالح تركيا !

فكان مدير الفندق الذي أقيم فيه يقول للخدم :" أعطوا التركي مفتاح غرفته علشان يرقد "!.

الآن بيرم بمفرده تمامًا ، فلا عائلة ولا مال ولا جماهير تحمي وتساند .

لم ينكسر بيرم ، فحاول العمل ، ولكن كل الأبواب أغلقت في وجهه ، حاول مشاركة بعض الكتاب التونسيين لكي يصدروا جريدة ، ولكن السلطات الفرنسية كانت له بالمرصاد .

لقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، فغادر تونس بعد أربعة أشهر فقط إلى فرنسا .

في معمعة برد الشتاء الفتاك وصل بيرم إلى ميناء مارسيليا ، ولكن البرد والغربة وعدم إجادته للفرنسية ، جعلته يغادر مارسيليا بعد ثلاثة أيام فقط ، متجهًا إلى باريس .

في باريس لم يجد سوى البطالة والفقر والغربة والبرد ، لكنه لم يخاصم الشعر الذي جلب له كل هذا العذاب

لقد رأى بيرم بعين الإنصاف إقبال الفرنسيين على العمل فكتب:

"الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين

معمرين الطريق داخلين على خارجين

ومنورين الظلام راكبين على ماشيين

بنات بتجري وياما للبنات أشغال

وعيال تروح المدارس في الحقيقة رجال

ورجال ولكن على كل الرجال أبطال

ولسه حامد وعيشة وإسماعيل نايمين ".

فشل بيرم في أن يجد عملًا في باريس ، فنصحه العرب المغتربين بالسفر إلى مدينة ليون .

قبل أن أنقل من المذكرات ما عناه بيرم في ليون وغيرها من مدن فرنسا تجدر الإشارة إلى أن أوربا الآن غير أوربا عام 1920 ، في تلك الأيام لم تكن هناك حقوق للعمال ولا للغرباء ، بل ولا للمواطنين الفقراء ، كان بيرم وغيره من المغتربين يعملون في مستنقعات هى الموطن الأصلي للبعوض القاتل وللذباب ، إن الحديث عن التأمين الصحي كان من المحرمات وكذا كان من المحرمات الحديث عن تحديد ساعات العمل وأجره .

أنقل من مذكرات بيرم :"  سعيت بنفسي إلى ليون مدينة صناعة الصلب في فرنسا، تلك المدينة التي لأهلها قلوب مثل الصلب لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وهي أيضًا مدينة مشهورة عند الفرنسيين أنفسهم بأنها مدينة معتمة.. وصلت لهذه المدينة في عز الشتاء ولأن جيوبي كانت شبه خاوية فقد أخذت المسألة من أقصر طرقها، وذهبت إلى أفقر أحيائها، واستأجرت فوق سطوح أحد المنازل شيئاً يسمونه حجرة، كانت من الخشب الذي حولته مياه الأمطار إلى مكان له رائحة من نوع خاص، إنها رائحة قريبة من العفن، وداخل تلك الثلاجة كنت أنام الليالي القاسية البرودة، وفي النهار كنت أسعى مع الفجر في البحث عن عمل قبل أن يتبخر آخر مليم في جيبي".    

والتحق بيرم بأحد مصانع الحديد والصلب، ولكنه تركه بعد أن سقطت على فخذه قطعة من الحديد كبيرة!

عاد بيرم للبطالة والغربة والفقر والبرد مضافًا إليهم الجوع ، لقد جاع مرة لثلاثة أيام متصلة ، جاع في مدينة تصل الحرارة فيها إلى ما تحت الصفر ، ولقد وصف جوعه في مذكراته وصفًا مذهلًا ، فقال:"  كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين، كنت في البداية أتصور الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمس، وهذه منجاية مستوية..وهذه يا ربي رائحة بفتيك تنبعث من عند الجيران، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة فهي أفضل من هذا العذاب الأليم..وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن أكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت ".

في نوبة من نوبات الجوع خسر الأدب العربي بل العالمي كنزًا لم يعوضه كنز ، جاع بيرم حتى وصل لمرحلة الهذيان ، فتش غرفته للمرة الألف ، فوجد بصلة ، فراح يستحلب ريقه وهى يتخيلها مشوية ، بحث عن كبريت ليشعل النار ويشوي البصلة فلم يجد الكبريت ، بعد طول تردد طرق باب جاره الذي قدم له متأففًا عودًا واحدًا ، حاول بيرم إشعال العود ففشل ، طرق باب جاره ثانية ولكن الجار رفض إعطائه عودًا جديدًا !.

ظل بيرم واقفًا أمام باب غرفته يرتجف من البرد والجوع ، حتى صعد جار قدم لبيرم علبة كبريت كاملة !

بعد حل مشكلة الكبريت ، تذكر بيرم أنه لا يمتلك أي نوع من المواد الصالحة لأن تكون وقودًا يشوى به البصلة !

بعد طول تفكير جاء بيرم بقواميس اللغة والخطابات التي أرسلها إليه عباس العقاد وسيد درويش ، ومع الخطابات وضع ديوان أبي العتاهية ، وأشعل النار منتظرًا الشواء الجميل ، سرعان ما احترقت الخطابات الغالية وسقطت البصلة بين رمادها ، فخسرنا كنزًا من الخطابات المتبادلة بين العمالقة ولم يربح بيرم بصلة مشوية .

جرح غائر

تنقل بيرم بين شتى المهن ، فعمل في مصنع للكيماويات ، كان سببًا في إصابته بمرض الربو الذي مات به .

هنا نتوقف لنسأل : هل كان شاعرنا هو العربي الوحيد في طول فرنسا وعرضها حتى يجوع كل هذا الجوع ويشقى كل هذا الشقاء؟

الحق أن مدن فرنسا في ذلك الوقت كادت تكون مدنًا عربية من كثرة العرب الموجودين بها ، وكان غالبية العرب يعرفون بيرم جيدًا ، وكان منهم الأثرياء الذين يستطيع الواحد منهم الإنفاق على عشرات مثل بيرم ، القصة كانت قصة نفس بيرم ، إنها نفس عالية شريفة لا تتكسب بشعرها ولا تتنازل عن مبادئها ، تجوع ولا تأكل بثدييها ، لم يكن بيرم يقبل دعوة عربي له على شطيرة ما لم يشاهد الإصرار في عينيه ، الدعوات العابرة لم يكن يتوقف عندها إلا بالشكر ثم يغادر إلى برد غرفته وجوع أمعائه .

 الذي كان يؤلم بيرم الألم كله لم يكن العمل في مهن لا تليق بشاعر مثله ، الذي كان يؤلمه حقًا كان الجحود وعدم حماية أحبابه له ، من هؤلاء الأحباب الذين تخلوا عن بيرم كان سعد باشا زغلول وجه الثورة المصرية الأبرز والذي من أجله عادى بيرم الشيخ بخيت وكل شيخ وقف في وجه سعد .

عرف بيرم أن سعدًا في باريس ، فتوجه لمقابلته لكي يتوسط في إعادته إلى مصر ، فماذا كان موقف سعد ؟.

يقول بيرم «أخذ سعد يرفعني ويخفضني ببصره، ثم أشار الى الباب دون أن يرد على كلامي بنعم أو لا».

لماذا تنكر سعد باشا لبيرم ؟.

بيرم نفسه لا يقدم جوابًا ، هل تنكر الباشا شراءً لخاطر فؤاد؟

أم تراه تنكر لمعرفته بأن بيرم ابن قصيدته  وليس ابنًا لحزب أو لجماعة؟ .

هل تنكر لأن بيرم خاض في أعراض الملوك وهؤلاء كانوا أولياء نعمة حماه مصطفى باشا فهمي والد زوجته صفية زغلول ؟.

لا إجابة يقينية ، ولكن موقف الباشا من بيرم دفعه لأن يقرر العودة إلى مصر وليكون ما يكون ، وقد عاد فعلًا وكان ما سنعرفه في الأسبوع المقبل بإذن الله .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات ، الاثنين 15 يوليو 2019


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق