الخميس، 19 يناير 2023

محمود حسن إسماعيل.. الشاعر المحاصر (3-3)



سقط شاعرنا محمود حسن إسماعيل في زوايا النسيان منذ أن مات في العام 197، إلى أن عاد بقوة إلى الحياة بعد أن كتب أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي قصيدتين عنه. الاثنان من حيث العمر كانا بمثابة ولدين للوالد الكريم إسماعيل.

فقد وُلد أمل دنقل في العام 1940 يعني تفصله ثلاثون سنة كاملة عن ميلاد إسماعيل، أما الأبنودي قد ولد في العام 1938، أي أن بينه وبين إسماعيل المولود في العام 1910 ثماني وعشرين سنة.

فمتى بدأت معرفة الاثنين بوالدهما الكريم؟

تحكي الأستاذة عبلة الرويني عن زوجها الراحل أمل دنقل في كتابها العلامة "الجنوبي" إن "أمل" عشق إسماعيل منذ عرف القراءة والكتابة، وكان يجمع صوره التي تنشرها الجرائد ويحتفظ بها، وعندما جاء إلى القاهرة من الصعيد كان أول شيء حرص عليه، هو زيارة منطقة الجزيرة لمشاهدة الأرض والنخيل الذي كتب عنه إسماعيل في قصائده. 

كان أمل يجاهر بمحبته لإسماعيل في وجه زمن كان شعر أدونيس هو المسيطر عليه، أمل المتمرد صاحب القافية الحادة والموسيقى العربية الواضحة كان مشغولًا ببناء أسطورته هو القائمة على مصارحة قارئه بمكونات الشاعر الثقافية، وقد كان إسماعيل جزءًا لا يتجزأ من ثقافة أمل دنقل.

تحكي الرويني: رأت الدولة الاحتفال بمرور أربع سنوات على رحيل إسماعيل ودعت دنقل لإنشاد قصيدة في ذلك الحفل.

 جاء يوم الحفل ولم يكن دنقل قد كتب شيئاً، فغادر بيت الزوجية إلى مكان لم تعرفه الرويني، وعندما عاد كانت قصيدته الفذة "إلى محمود حسن إسماعيل في ذكراه" تنام في جيب قميصه.

في تلك القصيدة يقدم دنقل درساً ليس في الوفاء لوالده الشعري فحسب ولكن في الوفاء لثقافة دنقل.

 كان دنقل عربياً، وكان يفاخر بنسبه الممتد إلى البيت الأموي عامة وإلى بني مروان خاصة، وكان يقول غير متلعثم ولا متردد: "إن بطلي القومي هو خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وليس أحمس، وبطلي الروحي هو الحسين بن علي وليس غيره".

وهذا ليس معناه العداوة للمكون الفرعوني في الثقافة المصرية ولكنها ذائقة دنقل واختياره ووعيه الشديد بضروريات اللحظة، فلا عرب بدون مصر ولا مصر بدون العرب.




ضربة البداية في القصيدة غاية في التوفيق، لقد هدَّف دنقل من أول بيت

واحد من جنودك يا سيدي

قطعوا يوم مؤتة مني اليدين

فاحتضنت لواءك بالمرفقين

واحتسبت لوجهك مستشهدي

إنه يذكر غزوة مؤتة التي وقعت في زمن دولة الرسول، ثم يذكر فارسها الشهيد جعفر الطيار ابن أبي طالب الذي حمل راية المسلمين بمرفقيه بعد أن قطع العدو يديه الاثنتين وظل يقاتل إلى أن نال الشهادة، فأي وفاء يحمله الشاعر لثقافته وأصل منبته؟

وينتقل دنقل من معنى إلى آخر حتى يصل إلى إسماعيل فيبكيه قائلًا:

وألف بيت وبيت

واحتوتك الكويت

فعرفت بموتك أين غدي

ذهب أمل إلى الاحتفال وأنشد قصيدته فصفق له الجميع، ولكن، وكما تقول الرويني: "أخذ فاروق جويدة الذي كان مسئولًا عن القسم الثقافي بالأهرام القصيدة من أمل لكي ينشرها، ولكن الأهرام رفضت نشرها للمحاذير الرقابية". 

ثم أذاع فاروق شوشة قصائد الحفل في برنامجه الشهير أمسية ثقافية ولكن التليفزيون حذف من قصيدة أمل هذا الجزء:

للخفافيش أسماؤها

التي تتسمى بها، فلمن تتسمى إذا انتسب النور

والنور لا ينتمي الآن للشمس

فالشمس هالاتها تحلق فوق العقالات

هل طلع البدر من يثرب أم من الأحمدي؟

وبانت سعاد

تراها تبين من البردة النبوية

أم من قلنسوة الكاهنين الخرز

 قالت رقابة التليفزيون إن هذا الجزء من القصيدة ضد توجهات الدولة العامة.

لكن ورغم محاصرة قصيدة دنقل فإنها سرت بين الناس سريان النار في الهشيم، ولا أعرف قارئاً للشعر إلا ويعرف هذه القصيدة وينشد بعض أبياتها، ولا تكاد تمر مناسبة عربية إلا وحضرت تلك القصيدة مع شقيقتها "لا تصالح".



هذا ما كان من أمر دنقل مع والده الشعري، فكيف كان حال الأبنودي؟

كنت قد ذهبت لزيارة الخال في مرض موته، وحدثني عن علاقته ودنقل بمحمود حسن إسماعيل، ونشرت ما قاله لي في جريدة التحرير، وعندما بدأت جمع مادة مقالي هذا أردت العودة إلى ما نشرته ولكني وجدت الخال قد كتب بيمينه مقالًا مطولًا نشره بالأهرام قبل سنوات يتضمن معلومات أكبر وأهم من تلك التي ذكرها لي.

عن بداية معرفته بعالم إسماعيل يقول الأبنودي: "كنا نمشي على ضفة النيل وضفتي ترعة (الشنهورية) في ليالي مدينة قنا القمرية، نطلق العقيرة منشدين أشعاره، وخاصة قصائد ديوانه الصغير الرقيق (أين المفر؟).

 كان صوت أمل دنقل بحشرجته الموحية يطغى على صوتي، فأصمت فهُما في النهاية (لبعض)، فهذا شاعر فصحى، وشاعرنا المهول (محمود حسن إسماعيل) الذي كنا ننشد أشعاره شاعر فصحى أيضا، وأنا ضيف عليهما.. كانت هذه الفكرة بالذات تعطى (أمل) شرعيته في الصياح الذي طالما أعتقد أنه شدو فأصمت".

ثم جاء الأبنودي إلى القاهرة فسعى لمعرفة شاعره بطريقة شخصية، فوجد التحذير والتوبيخ من جماعة من الذين لا يعرفون لإسماعيل قدره، يقول الأبنودي: "حين قدمت إلى القاهرة مغرما به، نهرنى الأصدقاء ولطخوا لي الصورة وكأنه كان يجب أن ألغى ميراث الرجل وتجديده الشعرى، وعظمة أن يكتب ديوانا للكوخ في بلادنا في زمن كان شعراؤه يكتبون عن القصر".

ثم بدأ الأبنودي في كتابة الأغاني فتعرف على إسماعيل الذي كان رئيسًا للجنة اختيار الأغاني الإذاعية، ثم حدث اللقاء التاريخي بين الرجلين، يقول الأبنودي: "يوم تحويل مجرى النيل بعد ازاحة السد الترابي، كنت في أسوان أستكمل تجربتي مع السد وحراجي القط، عرفت أنه سوف يلقى قصيدة ليلا أمام عبد الناصر سألت حتى عرفت أنه يقيم بغرفة بسفينة راسية على شاطئ أسوان".

 ويضيف الأبنودي: اكتريت قاربا وتحت السفينة رحت أهتف باسمه حتى أطل علىّ بجلباب أبيض مندهشا: (مين؟)، قلت: (أنا فلان، انزل)، قال: (كيف أنزل يا مجنون؟).

قلت بوقاحة: (انزل شوف النهر الذي كتبت عنه دون أن تعرفه).. انطلق بنا القارب في نيل أسوان الخرافي، في طريق العودة عاتبني: (كيف لم يعرف النهر؟).. قلت: (إن نيل "النخيلة وأبنودي" الذي كتب عنه ليس له سحر نهر أسوان العالمي، على الرغم من أن تحفته "النهر الخالد" تظل تناطح كل ما كتب عن النيل في الفصحى، ولكن له الفضل في أنه أول من عبر عن الضفاف والكوخ وأكثر الشعراء إحساسا بالنهر ومعرفة به).

ظلت محبة الأبنودي لوالده الشعري مقيمة، حتى رحل الوالد الكريم، ولا شك عندي أن الخال قد حاول كتابة قصيده عن والده وأستاذه وصاحبه، ولكن الشعر ليس على هوى الشاعر فللقصيدة ميعادها الخاص.



تفاحة آدم

بعد رحيل الوالد وفي اليوم السابع من شهر يوليو من العام 1994 كتب الأبنودي قصيدته عن محمود حسن إسماعيل متأخرًا بسبع عشرة سنة كاملة.

في مقال الأبنودي لفتة خطيرة عن كيفية ولادة القصيدة، حيث يقول: "قصيدتي (تفاحة آدم) عن محمود حسن إسماعيل كتبتها وزوجتي في المستشفى انتظارا لمولد ابنتنا نور (8/7/1994)، كانت في غرفة العمليات، وأنا قابض على قصيدتي خوفا من فرار اللحظة، غضبت الممرضات من ذلك الذي يكتب متجاهلا زوجته مع د. محمد فياض في غرفة العمليات، وربما كان الصديق جمال الغيطانى شاهدا على المشهد، حين مر بالمستشفى ليلتقط القصيدة وكان يعلم أن زوجتي بغرفة العمليات".

الأبنودي العربي العارف بحضارة الإسلام بدأ قصيدته باستعادة ذكرى الأب الأول آدم عليه الصلاة والسلام، ليشير إلى أن إسماعيل هو آدم الشعر، الشاعر الأول:

آدم.. نزل للدنيا صيف أو شتا؟

من جنة زاهية مزهزهة مُلْفِتة

لدنيا صامتة.. مُصمتة.. مُنصتة

آدم.. نزل للدنيا عاري البدن

صرخ في وش الحياة

صرخة طويلة.. رفيعة.. متلتة

التلت كان احتجاج..

والتلْت كان خوف من ولوج الزمن

وتالت الأتلات كإنَّه.. آه

وبعد صحبته لأبى البشر تخلص بعبقرية فريدة من قصص بدء الخلق ووصل إلى آدم الشعر، إسماعيل الخالد فقال:

حيثِ النخيل بيميل بقوس الضهر

ـ وكإنه راكع في صلاة العصر ـ

والنيل..

شق أغمَقّ طمي ودم

كان الغُنا بالضد

والذكريات بتشد..

صعدت "أغان الكوخ"

من صمتك المشروخ

والريح بتعوى فى الفضا المقصوص

والنهر فايت من هنا مخصوص

وإنت.. شارد فى السَّموم والبرد

الريح بتعوى وماشي مش مهتم

ـ وسط المديح والذم ـ

إلا بتحقيق لانفصال بالوجد

حافي القدم.. زاهد

عربيد عنيد بيوحد الواحد

عصرت خمرك من ظلال الشجر

ومن نسيم السحَر

ومن شبوب الأرض نحو القمر

فى نشيدك الصاعد

مداح وعاشق صبّ أدمن صبر

عاشق ظلال الليل وصوت النهر

والنهر كان له صوت

قبل الزمن ما يموت

قبل الأسامى ما تكتسي ألوان

قبل الأسامى ما تترسم بالنيون

وتهج م الإعلان

ويواصل الأبنودي قصيدته عن محمود حسن إسماعيل قائلا:

يا عاصر الخمر تحت النهر والضفة

للشعر دَابِحْ ورايح حامل القربان

فى عِزّم الدنيا ليل والموجودات خايفة

والعشق مغلول ومحروم حتى م الحرمان

كان الطريق واعر

ياعمنا الشاعر

دخلتها حافى بلا متاع

وتركتها واضح بلا قناع

الرحلة فى النار لا تتأجر ولا تتباع

قصيدة الأبنودي كانت أسعد حظًا من قصيدة دنقل، فقد تمكن من نشرها مرات ومرات وأنشدها في محافل عديدة، لتصبح مع قصيدة دنقل اليد الحانية الرقيقة التي مسحت الغبار عن ذكرى شاعر فحل.

رحم الله محمود حسن إسماعيل والخال ودنقل وحفظ مصرنا العظيمة.. فهي ولود ودود.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات 24 يونيو 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق