الخميس، 29 ديسمبر 2022

محمود حسن إسماعيل الشاعر المحاصر (2ـ 3)



في الجزء الأول من هذا المقال تعرفنا على طفولة وبواكير شباب شاعرنا الكبير محمود حسن إسماعيل وفي هذه الحلقة نقدم المزيد الكاشف عن جوانب عبقرية الرجل.

في النصف الأول من الخمسينيات، تربع إسماعيل على عرش الشعر العربي في مصر، وتعلم على يديه كل الذين أصبحوا الآن أساتذة. 

من بين هؤلاء الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر الذي لم يكن يترك فرصة للإشادة بإسماعيل إلا وفعل، حتى أنه تجرأ مرة ووصف مكانة إسماعيل بالمكانة المقدسة.

 أما الرائد الكبير صلاح عبد الصبور فقال صراحة: "أما فتنتي فكانت بمحمود حسن إسماعيل".

 في حين ذهب أحمد عبد المعطي حجازي إلى ما هو أعمق من الفتنة، فقال عن شاعرنا: "لقد فتنت بشعر محمود حسن إسماعيل منذ أخذت أقرأه في آخر الأربعينيات وأول الخمسينيات، فأدمنت قراءته حتى شكل خياله خيالي، وطبعت لغته لغتي، وبدت قصائدي الأولى وكأنها تنويعات على شعره، وأنا بذلك معتز مغتبط، أتحين فرصة تتيح لي أن ألقاه لأعبر له عن إعجابي وانتمائي لعالمه".

بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وفاروق شوشة وغيرهم من أكابر الشعراء تحدثوا أكثر من مرة عن تأثير محمود حسن إسماعيل على الساحة الشعرية العربية.

إذن فمكانة الرجل محفوظة ومكانه لا يستباح، وقد أحسن ثوار يوليو 1952 عندما أسندوا إليه مهمة مراجعة نصوص كلمات الأغاني، وكان يساعده في ذلك الشاعر الشهير أحمد رامي والشاعر الشاب وقتئذ فاروق شوشة. إلا أن المغالبة التي هي قدر إسماعيل سبقته إلى مبنى الإذاعة.

كان إسماعيل مدققًا وصاحب ذائقة متفردة، ولأنه كان حريصًا كل الحرص على استقامة المعنى وسمو الأغنية، فقد كان يرفض أكثرية ما يعرض عليه، وهنا تحركت نوازع "لقمة العيش" عند مؤلفي الأغاني فشنوا عليه حملة شعواء قادها أحد فرسان الأغنية العربية المعاصرة، وأعني الأستاذ مرسي جميل عزيز الذي كتب مقالًا شديد الحدة ضد إسماعيل ونشرته مجلة "صباح الخير" عام 1956 تحت عنوان لافت جدًا هو "مطلوب بوليس النجدة لإنقاذ الأغاني من هذا الرجل".

قال مرسي في مقاله: "هناك جنايةٌ فعلا.. هناك السيد محمود حسن إسماعيل وبطانته في لجنة النصوص مهمتها تقطيع أوصال الفن الغنائي وحرق أعصاب المؤلفين المساكين، وقتل ثقتهم بأنفسهم.. لجنة تحيي وتميت، وتعدل وتبدل في الأغاني كما يطيب لها الهوى، وتصدر أحكامًا كأحكام الآلهة لا رجعة فيها ولا تفاهم، النجدة، النجدة، أنقذوا الفن الغنائي من مكارثية محمود حسن إسماعيل ولجانه، أما أنا فأقولها صريحة: إنني أكره هذا الرجل.. أكرهه لأني أحب فن الغناء".

لم تتوقف المعركة بمقال مرسي جميل عزيز  بل زاد لهيبها، فقد نشر كثيرون بيانًا جاء فيه: "نحن إزاء هذا الحق الذى كفله لنا القانون وإزاء التعديل والتحوير بل التشويه الذى يتكرر من الأستاذ محمود حسن إسماعيل، والذى يقع كل يوم على أغانينا لا يسعنا بعد اليوم إلا أن نضم صوتنا إلى صوت زميلنا الأستاذ مرسى جميل عزيز"ز

وكان من بين الموقعين الشعراء فتحي قورة وإمام الصفطاوى، وكمال منصور، وصلاح عبد الصبور الذي كان يكتب الأغاني في ذلك الوقت.


وفي ظني أن محمود حسن إسماعيل لم يكن يتجنى على فرسان الأغنية، القصة أن سقف ذائقته كان عاليًا جدًا، فقد كانت المسطرة في زمنه هي أشعار إبراهيم ناجي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ورامي وأبو الوفا ومطران وجبران وأبو ماضي وغيرهم من فحول الشعراء الذين كانوا يبدعون قصائدهم لتثري الغناء العربي.

الأمر إذن لم يكن أمر صلابة أو (عناد) صعيدي أمام هجوم شرس، بل كان أمر ذائقة تحرص على التجويد والإتقان. وبتلك الذائقة نجا إسماعيل من نيران تلك المعركة، وظل يواصل تقديم منجزه الشعري الذي أحصاه الباحث الكبير الدكتور محمد السيد الدغيم فوجده أربعة عشر ديوانًا (نشر بعضها بعد رحيله):

الديوان الأول: أغاني الكوخ 1935

الديوان الثاني: هكذا أغني 1937

الديوان الثالث: المـــلك 1946

الديوان الرابع: أين المفر 1947

الديوان الخامس: نار وأصفاد 1959

الديوان السادس: قاب قوسين 1964

الديوان السابع: لابــــــــد 1966

الديوان الثامن: التائهون 1967

الديوان التاسع: صلاة ورفض 197

الديوان العاشر: هدير البرزخ 1972

الديوان الحادي عشر: نهر الحقيقة 1972

الديوان الثاني عشر: موسيقى من السر 1978

الديوان الثالث عشر: صوت من الله 1980

الديوان الرابع عشر: رياح المغيب نشرته دار سعاد الصباح لأول مرة عام 1993.



غربة ورحيل

ولأننا في مصر، التي أحيانًا ما تتجاهل أولادها البررة بناة حضارتها وصناع قواها الناعمة، فقد وصل إسماعيل إلى سن المعاش، وما أدراك بما يفعله المعاش مع رجل شريف طاهر اليد والجيب والثوب.

كان سن المعاش بالنسبة لإسماعيل يعني الانقطاع عن الدوام الحكومي، والبحث عن فرصة عمل خارج الديار. ليجد نفسه فجأة في الكويت الشقيقة التي أحسنت التعامل معه، فالكويت تعرف من هو محمود حسن إسماعيل، لكن رغم أي تكريم فالخروج من خضرة الحقول التي تربى عليها إسماعيل إلى صفرة الرمال، هو أقسى شيء على نفس شاعر مثله.

كانت الكويت كأنها المنفى الاختياري، لقد نبغ التلاميذ وأصبح عودهم صلبًا، لم يعد أحد يحتاج إلى توجيهات الأستاذ المعلم، ثم أصبحت الإذاعة مرتعًا لزمن الانفتاح الاقتصادي الذي كان شعاره أغنيات الريس بيرة وأحمد عدوية وكتكوت الأمير، ثم جاء طوفان أشرطة الكاسيت التي أصبحت دولة داخل الدولة.

والحال كما نرى فقد تراجع دور إسماعيل وخفت ذكره وشملته الغربة حتى قال القدر كلمته في الخامس والعشرين من أبريل من العام 1977.

عاد جثمانه ليدفن في بلاده كما أوصى، ثم وهذا عجيب، لقد مات إسماعيل حقًا، مات بالفعل، مات كأنه لم يكن الشاعر الفحل، ولكن كما تقسو مصر حينًا فإنها الأم الخالدة المحبة دائمًا، لقد وهبت لإسماعيل عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل، وهما من أبر أولاده به، فنفخا في سيرته الحياة، فهب من قبره كأنه لم يغب ولو لساعة.. أما كيف كان ذلك، فموعدنا الأسبوع المقبل بإذن الله.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات 17 يونيو 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق