لماذا وقفت إنجلترا قلعة الحريات وأم الديمقراطيات ضد رواية، مجرد رواية تحمل عنوان "عشيق الليدي تشاترلي"؟
أغلب ما وصلنا من أراء القراء والقضاة والنقاد يؤكد لنا بوضوح أن الغالبية الكاسحة من الشعب الإنجليزي المتمرس منذ قرون علي الممارسات الديمقراطية كان يرفض نشر الرواية، بل لا يسمح بوجود نسخها على أرفف مكتباته العامة.
تري لماذا كل هذا العداء؟
الطبعة السرية
قبل الغوص في عالم الرواية نقول إن مؤلفها هو الروائي البريطاني ديفيد هربرت لورانس، ولد في العام 1885 ومات في العام 1930، رحلة حياة تعد قصيرة، أنجز خلالها حوالي خمسمائة قصيدة وعشر روايات، ترجم معظمها إلي العربية، وسنعتمد في تناولنا لرواية "عشيق الليدي تشاترلي" على الترجمة التي قام بها الدكتور "أمين العيوطي" وصدرت عن روايات الهلال في العام 1989.
كتب لورانس روايته الأشهر في العام 1926، وقد كتبها أربع مرات حتى استقر على المخطوطة الجديرة بالنشر من وجهة نظره، ولأنه كان يعلم من تجارب سابقة أن بريطانيا العظمى لن تسمح له بنشر روايته من أراضيها فقد نشر الرواية لأول مرة لأول مرة في عام 1928، إذ تم طبع الطبعة الأولى في سرية تامة بمدينة فلورنسا الإيطالية، وذلك بفضل شجاعة الناشر الإيطالي "بينو أوريولي".
ما الذي تحمله الرواية حتى تقابل بكل هذا العنف؟
هل تصدقني لو قلت لك: لا شيء!
ثم هل تصدقني لو قلت لك: إنها إحدى أخطر روايات القرن الماضي وقد مثلت للإنجليز تحديدًا ما يمثله برميل بارود وضع بجوار نار مشتعلة.
أحداث الرواية
ضربة البداية تقول: "إن عصرنا عصر مأساوي في جوهره، ولكننا نرفض أن نجعل منه مأساة".
كان هذا هو حال كونستانس تشاترلي، زوجة كليفورد تشاترلي، الذي تزوجته في العام 1917، وبعد إجازة شهر العسل عاد ليشارك في الحرب العالمية الأولي، وفي الحرب أصيب إصابة جعلته عاجز الجسد والروح والقلب.
عجز الروح والقلب لا شفاء منه حتى لو أكثر كليفورد ـ وهو القارئ النهم المثقفـ من قراءة أمهات كتب الشعر خاصة والأدب عامة، واستغرق في الاستماع إلى روائع الموسيقي الكلاسيكية، وأحاط قصره بغابة مترامية الأطراف.
زوجته الشابة التي لم تسعد جسديًا معه سوي في شهر العسل، كانت تداوي عجز قلبه وروحه بأن تشاركه في كل شيء، من الموسيقي وحتى النقاش حول محاورات أفلاطون.
أما عجز جسد الزوج فقد وجدت له حلًا بعلاقة جسدية مع "باركين" حارس الغابة، وقد أثمرت علاقتها بالحارس جنينًا يرقد في بطنها.
كليفورد كان يؤمن تمام الإيمان أن زوجته كونستانس لن تظل راهبة حتى مماتها، ولذا فقد أنتهز جلسة مصارحة من جلساتهما وألقى بكرة اللهب في حجرها، عندما قال لها: إن رغبتها في الأمومة حق لا يساويه حق، ولكن بشرط ألا يعلم شخصية الأب وأن ينسب الولد إليه هو لكي يكون وريث آل كليفورد.
هذا العرض الجارح لم يباغت كونستانس التي لم تكن قد أقامت علاقتها بعد مع حارس الغابة، تلك العلاقة التي لن تكون استجابة لعرض الزوج ولكن لسبب آخر تماما، سنعرف بعد قليل إنه وأسباب دفينة أخري وقفت في حلق الإنجليز فناصبوا الرواية عداءً تاريخيًا.
الرواية في المحكمة
في العام 1960 وبمناسبة مرور ثلاثين عامًا علي وفاة مؤلف الرواية لورانس غامرت بل قامرت دار "دار بنجوين" وقامت بالنشر العلني للرواية، مستغلة تغييرات جدت على قانون المطبوعات البريطاني .
ما إن ظهرت الرواية في السوق الأدبي البريطاني حتى هبت النيابة البريطانية وقامت برفع دعوى قضائية لمصادرة الرواية!
برجاء ملاحظة أن هذا حدث في بريطانيا ولندن وليس في أحراش أفريقيا.
عريضة الاتهام التي قدمها ممثل الادعاء "جرفث جونس".
تضمنت التهم التالية.
1ـ الرواية منافية للذوق العام.
2 ـ تحض على الفسق والفجور.
3ـ ألفاظها عارية وتخدش الحياء العام.
أظنك سمعت هذه التهم موجهة لأكثر من كتاب في وطننا العزيز!
دار نشر بنجوين التي غامرت بنشر الرواية لم تكف مكتوفة الدين فقد أسندت إلي فريق دفاع مكوّن من ثلاثة محامين مهمة الدفاع عن الرواية.
ذهب الجميع (النيابة والدفاع) إلي قاعة المحكمة، تأكد المحامون من أن القضاة يقفون ضد الرواية فما وجدوا أمامهم سوى الذهاب إلى رأس الدمل لكي ينفتح الجرح كاملًا ويكف الجميع عن التحايل والتلاعب تحت ستار الدفاع عن الفضيلة.
الضرب تحت الحزام
نحن الآن أمام قضية رأي عام، وسيربحها الذي يربح الرأي العام، جلس أعداء الرواية مع بعضهم البعض واتفقوا علي فضح الروائي لا الرواية، ومتى فضحت الروائي كسدت روايته وانصرف الناس عنها.
فتشوا تاريخ دافيد هربرت لورانس وقالوا: إنه يكتب نفسه ويؤرخ لقصته ولا علاقة تربط بين روايته والمجتمع الإنجليزي الشريف العفيف!
الروائية البريطانية "دوريس ليسينغ" الحائزة على جائزة نوبل في الآداب، عاصرت الأمر كله وكتبت تقول: "إن لورانس كان زوجًا لسيدة ألمانية تدعى "فريدا" والزوجة كانت على علاقة مع إيطالي وكان لورنس على علم بهذه العلاقة ولم تكن هي باللباقة الكافية لتخفي أمرا كهذا كما لم تكن تراعي مشاعره في أي شيء وكانت تخبر أصدقائهما بأن لورنس كان يعاني من العجز الجنسي منذ عام 1926 وذلك نتيجة لإصابته بمرض "التدرن الرئوي".
ذلك المرض الذي ينجم عنه أمران متناقضان، الأول هو تصعيد الرغبة الجنسية والتخيلات المرتبطة بها، والآخر العجز عن ممارسة الجنس!
العلاقة بين لورنس وزوجته كانت موضع منازعات علنية ولم تكن هناك أسرار، فجميع الأصدقاء والمعجبين والزوار كان يتم إخبارهم بكل مراحل قصة الحب بينهما وتفاصيل ممارساتهما الخاصة، وكان لورنس يكتب عن كافة التفاصيل سواء عن طريق الشعر أو النثر، وكانت فريدا تشتكي لدى أخواتها وأصدقائها من عجزه الجنسي.
أولاد بلد
أصبح الموقف ملتهبًا جدًا بعد تسليط الضوء علي الحياة الشخصية للروائي بهدف صرف الأنظار عن حقيقة الموقف البريطاني من رواية بريطانية.
المحامون تأكدوا أن الاعتماد علي الأسانيد القانونية لن يفدهم بشيء، بل ربما خسروا القضية في جلستها الأولى.
بطريقة أولاد البلد الذين يمدون الخيط لمنتهاه، بنى فريق المحامين خطتهم على أساس الفصل التام بين حياة الروائي وروايته، ثم سألوا الحضور عن موقفهم من أعشاب حدائق لندن التي تشهد المطارحات الغرامية العارية والكاملة والمكشوفة؟
ثم تحدوهم أن يستخرجوا لهم من كلمات الرواية الألفاظ العارية المكشوفة التي يزعمون أنها تملأ صفحات الرواية.
ثم تحدوهم أن يجدوا الخط الفاصل والحاسم بين ما هو خادش للحياء العام وبين ما هو جرئ وحقيقي.
هذه الأسئلة وغيرها لم تقابل سوى بالصمت من جانب الحضور، فهم يعادون الرواية لأسباب آخري غير التي يستترون خلفها، وتلك الأسباب لا يستطيعون البوح بها لأنها ستدمر معبد الزجاج كله.
لجنة الخبراء
بعد مرافعات الدفاع أصبحت الرواية قاب قوسين أو أدنى من الحصول علي شرعية الظهور العلني في مكتبات لندن، هنا رأت المحكمة أن تحيل الأمر برمته إلي لجنة خبراء.
ضمّت لجنة الخبراء علماء وكتّاباً ومثقفين، وبعد الفحص والتدقيق قالت اللجنة إن: "الرواية ذات مستوى فني رفيع ولا يمكن اعتبارها إباحية بأي حال من الأحوال".
هل حصحص الحق؟.. هل ستكتفي المحكمة برأي الخبراء؟.. أم أن المحكمة لا يزال في نفسها شيء تجاه الرواية؟
لقد أحالت الرواية مجددًا إلي رئيس الأساقفة "فير وولويج" لاستطلاع رأي قداسته .
الرجل كان عادلًا وقالها صريحة مدوية: "رواية عشيق الليدي تشاترلي ليست مخلّة بالآداب".
العجيب في الأمر أن سيدة من أعضاء لجنة الخبراء قالت في شهادتها: "الرواية رفعت العلاقات الجنسية إلى مستوى التقديس"
وعندها ضجت قاعة المحكمة بتصفيق حاد.
المسكوت عنه
بشهادة السيدة عضو لجنة الخبراء تم الإفراج عن الرواية التي عرفت طريقها إلى كافة الأسواق العالمية، محققًا لكاتبها ولأدب بلاده مجدًا لا يزال يناطح الزمان.
والآن ما الذي أغضب الإنجليز من رواية ابنهم حتى طاردوها على مدار ثلاثين سنة؟
دعك من حجج الأخلاق، فالرواية وإن أرخت لخيانة زوجة فهي رواية أخلاقية بامتياز (العبرة دائمًا في التناول والمعالجة وما خلف السطور يا صاحبي).
الحرب العالمية الأولي (أو قل الحرب التي فرضتها أوروبا على العالم) هي السبب الأول في مطاردة رواية عشيق الليدي تشاترلي.
بريطانيا العظمي تعرف الجرائم التي ارتكبتها في تلك الحرب، كليفورد، أحد ضحايا تلك الحرب، لقد فقد ذكورته وقلبه وروحه، بل ورجولته بالمعني العام والنبيل للرجولة في تلك الحرب المجنونة، قذيفة واحدة حولته إلى حطام يخفي أحزانه تحت قناع من الغطرسة البغيضة.
بريطانيا لا تريد من يذكرها بـ "الأجساد المشوهة، المذابح التي جرت في الخنادق والفقر والبؤس والفراغ الذي خلفته الحرب".
بريطانيا لا تريد أن يتحدث أحد عن الذين "عبروا" والذين "هبروا" الجنود الذين عادوا إلى الوطن عادوا محطمين، بينما الغنائم حصدها الذين لم يمس أحذيتهم غبار المعارك.
الرواية تدين كل ذلك، وتفضح بأدق وصف وأنصع بيان جنون الحرب وخبل قادتها الذين لا يروي عطشهم سوي الدم، ما دام الدم هو دم الآخرين وليس دم أولادهم أو حتى أبناء طبقتهم.
بريطانيا راعية الديمقراطية وناشرة التحضر تريد دفن عورتها تحت تراب النسيان ولذا لا تريد أن يكشف سترها أحد حتى لو كان هذا الأحد من أبنائها وحتى لو كانت آلة الكشف رواية.
أبناء الزبالين الإنجليز
قبل أسبوعين تجرأ وزير العدل المصري السابق وتكلم في المسكوت عنه، عندما أكد في مقابلة تليفزيونية، أن أولاد الزبالين لن يصبحوا قضاة، هاجت الدنيا وتقدم الوزير باستقالته.
أبناء الزبالين في بريطانيا كانوا هم أولاد المناجم، يا لجنون وقسوة وعتمة وظلم مناجم الفحم الانجليزي.
منهم عشيق الليدي شخصيًا، حارس الغابة والأب الحقيقي لوريث آل كليفورد.
الرواية في عمقها تتحدث عن هؤلاء، عن نظرة السادة لهم، عن اختفاء الطبقة الوسطى بعد الحرب، هناك طبقتان فقط، السادة المالكون وعمال المناجم.
القصة أعقد وأشد مرارة من نظيرتها المصرية، في مصر تطفو العنصرية والتمييز فوق السطح أحيانًا، ولكن في عمق الشخصية المصرية لن تعثر بسهولة علي برجوازي مصري يقسم بالمصحف أو الإنجيل على أن السائل الذي يجري في عروق أولاد الزبالين اسمه المازوت، هذا النموذج ليس موجودًا في مصر، لكنه في بريطانيا لورانس كان مكدسًا علي الطرقات، المالكون كانوا في دخيلة أنفسهم يؤمنون بأنهم إن جرحوا واحدًا من عمال المناجم فلن يسيل منه الدم، سيسيل منه شيء ما لكنه حتمًا ليس الدم المعروف، وذلك لأنهم يؤمنون بأن عمال المناجم كائنات من مخلوقات الله مثل الفئران والصراصير وباقي الهوام والزواحف، ولكنهم ليسوا بشرًا حتى ولو كانت لهم أسماء البشر وملامح البشر.
كانت كونستانس ترى كل ذلك وتخافه، وكانت تسأل زوجها كليفورد، وهو من ملاك المناجم: إلي متى؟
كان في كل مرة يراوغها ولا يقدم إجابة شافية.
لكنها ذات ليلة نقلت إليه خوفها من انتفاضة عمالية تهدم بريطانيا من أدناها إلى أقصاها، خاصة والزمن كان زمن الثورة البلشفية، فما كان منه إلا أن صرخ في وجهها وهو الهادئ دائمًا: هذا سيستمر ويتواصل إلي نهايات الحياة، هؤلاء لن يتقدموا ولن يترقوا حتى ولو تعلموا، هؤلاء خلقوا لكي يعيشوا الحياة التي يعيشونها، هكذا عاش أجدادهم وهكذا سيعيش أحفادهم.
تترك كونستانس كليفورد وتحاول مع باركين عشيقها وأبو جنينها، تغريه بأن يهربا معًا إلي عالم جديد وإلي بداية جديدة، لكنه يرفض بإصرار ويضحك بمرارة شارحًا أصل القضية.
هو لا يحس معها بأنه رجلها إلا في اللحظات الخاصة، بعدها تعود الأمور إلي طبيعتها، هي المالكة وهو ابن المناجم، الموضوع ليس موضوع ثراء وفقر، إنه أعقد من ذلك، طبقة كونستانس سحقت بل محقت على مدار أجيال طبقة باركين، تحولت طبقة باركين إلي نوع من الصراصير التي لها ملامح بشرية، لكن الصرصار يدرك أنه صرصار وليس له الخروج من كومة النفايات التي يعيش بداخلها.
هذان هما السببان الذي جعلا بريطانيا العظمي تطارد رواية على مدار ثلاثين سنة، ولكن بفضل نضال ومقاومة عمال المناجم أصبحت بريطانيا ما هي عليه اليوم، نحن هنا نشكل لجان خبراء مثلهم لقتل الكتب، وقد تشرق شمسنا ذات صباح فنجد ابن زبال على مقعد وزير العدل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة التحرير 17 مايو 2015