الخميس، 10 ديسمبر 2020

هل أتاك حديث العفاريت؟

 


قبل سنوات بعيدة ظهر الفنان العربي الكبير محمد عبده على الناس بأغنيته الشهيرة "الأماكن"، كانت الأغنية رغم حزن لحنها وكلماتها تُغنى من المحيط إلى الخليج في كل المناسبات، حتى لو كانت المناسبة مناسبة زفاف!

وكان عبده على شهرته الفائقة نادر الظهور في اللقاءات التلفزيونية، وذات مساء صرح الإعلامي الكبير محمود سعد بأن عبده سيكون ضيفه في حلقة خاصة، للحديث عن مجمل أعماله عامة وعن أغنية الأماكن بصفة خاصة.

أنتظر محبو عبده الحلقة على أحر من الجمر، وعند بثها تحلق المحبون حولها، للحق كان محمد عبده متألقًا وهو يسرد ذكريات طفولته القاسية وأول شبابه، وتذكر كيف أنه كان يعيش مع السيدة والدته في بيت من غرفة واحدة لا وجود فيها للكهرباء أو للمياه النقية، ليلتها كسب محمد عبده محبين جددًا، ثم فجأة وبدون أي مناسبة قال:" رأيت العفريت يقفز أمامي و....".

قاطعه محمود سعد لكي يغير مجرى الحديث، ولكن الرجل أصر على سرد قصته مع العفاريت!

كان الإحراج باديًا على وجه الإعلامي الكبير وهو يحاول لملمة الموضوع وستر القصة التي يورط فيها الفنان نفسه لوجه العفاريت!

فشل سعد في إسكات عبده الذي حكي كثيرًا عن العفريت الذي كان يظهر في ظلام الصحراء!

أظن أن تلك الحلقة من البرنامج الخاص، كانت تدشينًا قاسيًا لظاهرة العفاريت في الإعلام العربي، بعدها أصبح المتحدث عن العفاريت لا يعاني من أدنى درجات الحرج أو غياب المصداقية عن كلامه فيروح الواحد منهم يفسر حياته بل وحياتنا بتفسير، إما تدخل العفاريت وإما عيون الحساد!

أذكر أن فنانة شابة كانت تعد بالكثير في مجال التمثيل، أساءت اختيار أدوراها فبدأ نجمها يرتعش تلك الرعشة التي تنذر بظلام قادم، أيامها قالت النجمة الشابة: إن فلانة النجمة الكبيرة قد سلطت عليها عفريتًا يجعل دورتها الشهرية متى بدأت لا تتوقف إلا بعد تدخل طبي!

كانت الشابة تبث هذا التفسير في كل مكان تذهب إليه، فوسوس لها بعض أولاد الحلال، بأن تحرر محضرًا ضد النجمة الكبيرة، وكادت الشابة تفعل لولا تدخل منتج كبير محترم، كشف للشابة عن الأسباب الحقيقة لتراجع مستواها وحذرها من هذا الكلام الذي يشبه الفضيحة، لم تذهب النجمة الشابة إلى قسم البوليس ولكن ظلت تدور في فلك ذلك التفسير المضلل حتى كادت تتوارى عن الأنظار!

هذا العبث تواصل وتوغل وسيطر وهيمن على عقول وقلوب كثيرين، وأنت وأنا نعرف ذلك الرجل الذي لا يتورع عن حشر العفاريت في كل جملة يقولها، فإن ربح فلأنه جاء بمن يبطل سحر العفاريت، وإن خسر فإن خصمه قد جاء بمن فعّل سحر العفاريت بحيث لم يتمكن من إبطالها!

وقبل أيام ظهرت نجمة شابة محبوبة ولطيفة لتحكي عن العفاريت التي كانت تقيم معها في مسكنها، فهي أي العفاريت تفتح خزينة الملابس وتشعل التلفزيون، والحمد لله أنها لم تنسب للعفاريت تقشير البطاطس وغسل أطباق الطعام.

كانت النجمة تحكي وبيسر وسهولة ويقين، وكان النجم الذي يستضيفها يصغي بأدب جم، وكأن كلامها حقيقة لا تقبل الشك ولا المراجعة.

كل ما سبق يؤكد أن السكوت عن مواجهة هذا الكلام خطير جدًا، لأن السكوت يعني الرضا والقبول أو على الأقل ترك الباب مفتوحًا لمحاولة التصديق، إن شيوع هذا التفسير سيؤدي إلى ضرب قيم عظمى في مقتل، مثل قيمة العمل والجد والنشاط والسعي المخلص لبناء مجتمع يعرف التعقل في تناول أمور حياته.

قبل عام وقف النائب طارق متولي، نائب السويس وعضو لجنة الصناعة بالبرلمان تحت قبة البرلمان وقال كلامًا في غاية الخطورة ولكن لم يلتفت إليه أحد، قال النائب: إن المركز القومي للبحوث قد أشار في دراسة من دراساته إلى أن عدد الذين يقمون بأعمال ما يسمى السحر والشعوذة يتجاوز الخمسمائة ألف نصاب، وأن المصريين ينفقون سنويًا فوق الخمسة وعشرين مليار جنيه على هذه الخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

وختم النائب كلامه بقوله: إن القانون المصري لا يجرم أعمال السحر والشعوذة إلا بضمها لجرائم النصب والاحتيال، وأن أقسى عقوبة توقع على المشعوذ النصاب هي حبسه لثلاث سنوات فقط.

أعلم علم اليقين أن هذه الأمراض موجودة في أي تجمع بشري، ولكن الحديث يجب ان يكون عن النسبة والتناسب وعن حال المجتمعات، فهناك مترفون لا يشغلهم كثيرًا إهدار كل هذه المليارات على صناعة الخرافة، ولكن نحن بلد يحتاج لكل جنيه لكي يبدأ في النهوض، فكيف نسمح لصناعة الخرافة بالسيادة وباستنزاف الموارد المالية الشحيحة أصلًا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق