الاثنين، 30 أكتوبر 2017

إمبراطورية النّصابين





يعرف المصريون الفروق الدقيقة بين "الفشر" و"الكذب" و"النّصب".
يتسامحون مع "الفشر" بل تراهم يحتفون بالفشار ويجالسونه ويمازحونه بل يشاكسونه لكي يسترسل في فشره، لكي يروا عنه  وقائع "فشره" بوصفها من الطرائف التي تضحكهم، وما شخصية "أبو العربي" التي اخترعها المصريون عنا ببعيد.

ولكن موقفهم المتسامح مع "الفشار" يتحول إلى رفض مؤلم وجارح مع الكذاب، فالمصريون ـ حتى وإن لم يظهورا ذلك ـ يحتقرون في قرارة أنفسهم الكذب والكذابين، ويستهينون بالكذاب ولا يعدونه عندما يعدون الرجال، لأن الكذاب عندهم فاقد للأهلية، ولا أحد يأخذه على محمل الجد، كما يخشى المصريون الكذاب لأنه يتعمد تشويه الحقائق وقلّب صورتها، في محاولة متعمدة منه لجلب الأذى لمن يوقعه حظه العاثر بين مخالبه، أما النّصاب فذلك بمفرده كوم قائم بذاته.

النّصاب لا يتمتع بخفة ظل الفشار ولا يتمتع بخياله الواسع الذي يمكنه من صنع بطولات خارقة لن يصدقها أحد ولكنها قادرة على إضحاك الجميع، ثم النّصاب ليس مخترع أكاذيب ليهرب من موقف محرج، إنه ذلك الذي يعتمد الكذب أسلوب حياة ومنهج معيشة، ثم هو يصعد إلى حيث القمم العالية ولو على جثث أقرب الأقارب، وفي زماننا يصعد النّصاب ولو بتوريط وطنه في معارك لا ناقة  للوطن فيها ولا جمل.

وقد صحت مصر ذات يوم في التسعينيات على استفحال ظاهرة نّصاب زعم ككل نّصاب مزاعم لا تسندها قشة من الحقيقة، النّصاب الذي أعنيه قال إنه سكرتير للبابا شنودة شخصيا، قال جملته ومضى ليجمع أرباحها.

جملة النصاب أزعجت الكنيسة لأن سكرتير البابا لابد وأن يكون شخصية كنّسية وليس من حق العلمانيين أن يتقلدوا هذا المنصب الحساس، ولكن النصاب واصل نصبه باسم البابا والكنيسة، فراح يحضر الحفلات التي يشاء، حتى لو كانت رسمية، بل بدأ هو يقيم الحفلات والمآدب على شرف منصبه المزعوم، حتى أن جرائد تلك الفترة لم تكن تخلو من متابعة نشاطه اليومي فهو اليوم يحتفي بفلانة الممثلة التي حازت جائزة وغدًا يحتفل بعيد ميلاد علانة، وفي اليوم الثالث ستراه مع محافظ المحافظة المهمة وفي اليوم الرابع سيظهر مع كابتن فريق كرة القدم الشهير وهكذا، إنه نصاب مدني في المناسبات المدنية وما أكثرها، وهو نصاب ديني عندما تأتي مناسبة دينية تخص المسلمين أو المسيحيين، ولم تستطع الكنيسة منعه لأنه كان شديد الحرص على أن يقدم نفسه بوصفه رجل أعمال، وذلك بعد أن صنع أساس شهرته بالنصب والاحتيال، ثم هو ما يزال يسعى بين الناس بوصفه الرجل المهم الصديق الصدوق لعلية القوم، ولم يمسه سوء ولم يدفع قط ثمن نصبه.

ثم مع تطور تقنيات النصب رأينا الكثيرين الذين يختصرون الطريق فيقدمون أنفسهم بوصفهم من أكابر "الأجهزة السيادية" يعني نصاب من جهة أمنية، وكان أحدثهم نصاب تجاوز بقدرة مرعبة كل الخطوط الحمراء وقدم نفسه بوصفه مستشارا أمنيًا برئاسة الجمهورية، وتحت تلك اللافتة الخطيرة راح يحضر المناسبات والأفراح والليالي الملاح، حتى ساقه نصبه إلى خطوة غير محسوبة كانت بها نهايته، فقد  سارع بحضور جنازة عمر عبد الرحمن، الأب الروحى للجماعة الإسلامية، مرتديًا أفخم ما لديهم من ملابس، مستقلًا سيارة يزينها علم البلاد، جالسًا في سرادق العزاء واضعا ساق على ساق بوصفه رجل الأمن الخطير ومندوب السيد رئيس، هنا تيقظت له أجهزة الأمن فتم القبض عليه بعد نفي الرئاسة وجود مندوب عنها يحمل تلك الصفات، ليكتشف الأمن أن الرجل مسجل خطر في قضايا نصب واحتيال.

مثل تلك القضية تكررت كثيرًا وفي كل مرة يزعم النّصاب أنه من جهة أمنية سيادية، وفي كل مرة يكون زعمه سببًا في وقوعه بين أيدي رجال الأمن وفي كل مرة لا يتعظ نصاب بمصير سابقه، فكأنه النصاب فأر تغريه قطعة الجبن ذاتها فيدخل بقدمه إلى مصيدة هلاكه، ويبدو أن الانتساب لجهة أمنية مهمة يمثل إغراء لا يقاوم لدى النصابين، فهناك أحدهم الذي استولى على  100 ألف جنيه هى تحويشة عمر مواطنة مسكينة زاعما لها أنه من الجهاز الأمني الخطير القادر على تعيين وحيدها في وظيفة مرموقة، ثم كسابقه سقط في يد الأمن الذي أكد أن ذلك النصاب مدان في عشر قضايا نصب واحتيال وكان هاربًا من تنفيذ الأحكام.

أما أعجب نصاب فكان "ف . ع"  الهارب من تنفيذ أحكام في 23 قضية تبديد ونصب وشيكات، الذي قاده شيطانه لكي يستغل دعوة الرئيس السيسي للتبرع لصندوق تحيا مصر، فصنع من نفسه مندوبا لتلقي التبرعات، ثم عندما لم يجد الإقبال المرجو، صنع من نفسه مالكًا لأراضي الدولة وراح يبيعها للراغبين القادرين، فحصد أكثر من خمسين مليون جنيه، وبعدها سقط كالعادة في يد الأمن لتتم مصادرة الأموال الحرام وجره إلى السجن لتنفيذ الأحكام السابقة.

أما أعجب الحالات فهى لذلك الذي ظهر أخيرًا في اجتماع دولي حاشد هاتفا: "تسقط قطر .. تحيا فرنسا"
ذلك الرجل تجاوز الخطوط كلها حتى اضطر الخارجية المصرية لأن تصدر بيان تنفي فيه أدنى علاقة تربط الرجل بها.

"ص.ح" حالة مستعصية فهو مصري يحمل الجنسية الهولندية.. عمل في بداية حياته في مطعم في هولندا وتزوج صاحبة المطعم - مغربية الجنسية - وبفضل تلك الزيجة حصل على  الجنسية الهولندية فكان الطلاق مكأفاة الزواج، ثم قفز قفزة كبيرة  واستولى على المطعم، ثم رأى تغيير محل إقامته فصنع لنفسه وجودا مريبا في مدينة انفرس البلجيكية، وبفضل الإقامة المريبة حصل على منحة إعانة المتعطلين عن العمل التي تقررها الحكومة البلجكية وقدرها ألفي يورو شهريًا، يعني قرابة الأربعين ألف جنيه مصري، الذي يدهش في الأمر أن الرجل مقيم بمصر الآن ويحصل على أموال البلجيك!

 ولأن الزمن زمن مواقع التواصل الاجتماعي فقد صنع الرجل لنفسه حسابا على الفيس بوك  وسمى نفسه المستشار،  مدعيا عمله في الاتحاد الأوروبي كمستشار سياسي واقتصادي، ولحبّك الكذبة، أمطر فضاء الفيس بوك بصوره أمام البرلمان الأوروبي، وأثناء رحلة صعوده لم يترك شخصية ذات حيثية إلا والتقط صورة معها من رئيس الإخوان محمد مرسي ونهاية بنقيب الصحفيين السابق ضياء رشوان، فكل مشهور عنده هو مخلب قط يصطاد به ضحاياه الجدد، حتى وصل إلى أن تستضيفه قنوات فضائية لها شأنها متحدثًا في كل شيء وأي شيء بوصفه الخبير العارف بكل شيء!
 
حتى كتابة تلك السطور لم يقع الرجل ربما لأن حرصه يحفظ له أمنه، فهو يوحي للآخرين بأنه مسئول بالخارجية المصرية، لكنه لا يورط نفسه في التصريح بذلك، فعندما فعل فعلته الأخيرة لم يدخل إلى قاعة التصويت بل كان يقف وسط الصحفيين والقنوات الأجنبية التي تتابع الانتخابات من مقر اليونسكو خارج القاعة، مما قد يوحي بأنه يحمل صفة إعلامية وليس دبلوماسية.  
وعندما هاج الجميع ضده نشر تدوينة على حسابه بالفيس بوك قال فيها: إنه مواطن مصري غيور على بلاده ويدافع عنها!
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة "صوت الأمة" السبت 21 أكتوبر 2017


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق