الخميس، 19 مارس 2015

مشكلتهم مع الأبنودي











قبل خمسين سنة من أيامنا هذه جاء شاعرنا الكبير عبد الرحمن الأبنودي من أقصي الصعيد إلي العاصمة ، جاء فردًا لا يمتلك سوي قصيدته ، كان يحق له  أيامها أن ينشد شعر جده المتنبي :" بما التعلل لا أهل ولا وطن / ولا نديم ولا كأس ولا سكن ".

لكنه لم يفعلها لقد سكن قصيدته التي ستسكنه قلوب ملايين ملايين العرب ، قال لي مرة :" يوم دعاني الشاعر محمود حسن إسماعيل إلي كوب شاي ، كان يوم عيدي الأكبر ، كان كوب الشاي صك اعتراف من الشاعر الخطير بأغنيتي وقصيدتي ".

في أمسية من أمسيات معرض الكتاب وقبل أن ينشد واحدة من درر تاجه ، قصيدته ( الإمام عن فؤاد حداد ) واجه عيوننا المبهورة به ثم ابتسم ابتسامة تقطر خجلًا ثم قال :" كل الرجال والنساء يتحدثون عن وسامة آلن ديلون وعن غني أوناسيس ، أنا أوسم وأجمل وأحلي وأغني وأثري عندما تكون أوراق قصيدتي في جيب قميصي ، ثم أنا لا شيء عندما لا تكون لدي قصيدة ".

هذا الاعتراف أظنه مفتاح باب الأبنودي ، قصيدته هي  دمه الذي يسري في شرايينه وبدونها لا حياة ولا معاش .

كُبر معني القصيدة وعُظم وتعملق بداخل الأبنودي ، فأصبحت أهله وناسه وعزوته وسنده وحامية ظهره ودرعه الحامي وسيفه الذي يواجه به ، ومن هنا ستنبت مشكلة  بعضهم مع الأبنودي ، هم لا يفقهون سر العلاقة بين الأبنودي وقصيدته ، إنهم يريدونه وفق مشيئتهم هم ، وهو قد أسلم وجهه وقلبه ووعيه لقصيدته ، تأتي قاصمة الظهر في صباح الخامس من يونيو فيبحثون عن ندابة ، ويظنون أن الأبنودي سيؤدي دورها ، يباغتهم هو بقصيدة ترفض الهزيمة وتغني لنصر قادم لا محالة ، تغيظهم مقاومته  فيسخفون مطلع درته :" وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها / جانا نهار مقدرش يدفع مهرها " يقول قائلهم :" الأبنودي سيصيب شعر البلد بالبلهارسيا !!!"
ما أسخفهم ، علي قلوبهم أقفالها ، لا يستوقفهم قوله في ذات الأغنية :" أبدًا بلدنا للنهار / بتحب موال النهار ".

ينشد الأبنودي لركام السويس ، يري بعين بصيرته أو ببصيرة قصيدته جمال السويس ومقاومتها ونصرها الكامن تحت أنقاضها ، هم لا يعرفون أن الرجل تقوده قصيدته ، تفرض إيقاعها ومعناها علي نهاره وليلة ، تزاحم دمه في عروقه ، فيلقيها علينا لكي لا يموت مختنقًا بعبيرها ، الرجل مفارق لرغباتهم ، انتصر السادات وعلا نجمه وساد العرب فانتظروا الأبنودي علي شاطئ المديح ، فجاءهم ولكن في يمينه مديحًا لسيناء :" وصباح الخير يا سيناء ".

ثم جاء مليكهم بحلم قال إنه إنساني نبيل ورحيم اسمه السلام ،اتبعت طائفة منهم بريق الحلم وانتظروا قصيدة الأبنودي ،  ولكن قصيدة الأبنودي 

كانت ترى دم " حساني "
: " يلكزني حساني شهيد أكتوبر
بيد غرقانة  دم
وعيون طايلها الهم
يسألني عن موته
ويهزني صوته
يقول لي:
لما أنت ما بتكرهش أمريكا
أنا مت ليه .. ؟
واللي قتلني قولي مين بالظبط ؟".

الرجل لا يزيف قصيدته ، هي أساسًا حرة كطير البراري ، لا تقبل الأقفاص والقيود ولا تخضع سوي لمعناها الخاص .

لم يبحث الأبنودي عن لقب شاعر الشعب وهو يستحقه عن جدارة ، بحث دائمًا وعمل دائمًا علي أن يكون شاعر الذي يشبهون قصيدته من الشعب ، لم يلتفت يومًا أو حتي لحظة لضبع من ضباعهم يكتب متمنيًا موته  وإهانة شيخوخته ، ليس لأن الأبنودي  نخلة لا يؤذيها وقوف ذبابة عليها ولكن لأنه يؤمن بأن  هذا الضبع ليس من شعبه الذي يغنيه ويخلده .

نحن شعب الأبنودي ندعو له بأن يغادر أزمته الصحية نقيًا وصافيًا لكي ننعم بدفء حضوره ونستظل بقصيدته ، عليك سلام الله يا خال من شعبك ، مادامت السموات والأرض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير بتاريخ 18 مارس 2015
الصورة للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي والكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم، والشاعر الكبير محمود درويش في زيارة له للقاهرة

هناك تعليقان (2):

  1. زمن ما لا يجب الأبنودى
    شفاه وعافاع
    تسمعه تشعر وكأن مصر عى اللى بتتكلم
    احتراماتى

    ردحذف