قبل خمسين سنة من أيامنا هذه جاء شاعرنا الكبير عبد الرحمن الأبنودي من أقصي
الصعيد إلي العاصمة ، جاء فردًا لا يمتلك سوي قصيدته ، كان يحق له أيامها أن ينشد شعر جده المتنبي :" بما التعلل
لا أهل ولا وطن / ولا نديم ولا كأس ولا سكن ".
لكنه لم يفعلها لقد سكن قصيدته التي ستسكنه قلوب ملايين ملايين العرب ، قال
لي مرة :" يوم دعاني الشاعر محمود حسن إسماعيل إلي كوب شاي ، كان يوم عيدي الأكبر
، كان كوب الشاي صك اعتراف من الشاعر الخطير بأغنيتي وقصيدتي ".
في أمسية من أمسيات معرض الكتاب وقبل أن ينشد واحدة من درر تاجه ، قصيدته (
الإمام عن فؤاد حداد ) واجه عيوننا المبهورة به ثم ابتسم ابتسامة تقطر خجلًا ثم قال
:" كل الرجال والنساء يتحدثون عن وسامة آلن ديلون وعن غني أوناسيس ، أنا أوسم
وأجمل وأحلي وأغني وأثري عندما تكون أوراق قصيدتي في جيب قميصي ، ثم أنا لا شيء عندما
لا تكون لدي قصيدة ".
هذا الاعتراف أظنه مفتاح باب الأبنودي ، قصيدته هي دمه الذي يسري في شرايينه وبدونها لا حياة ولا معاش
.
كُبر معني القصيدة وعُظم وتعملق بداخل الأبنودي ، فأصبحت أهله وناسه وعزوته
وسنده وحامية ظهره ودرعه الحامي وسيفه الذي يواجه به ، ومن هنا ستنبت مشكلة بعضهم مع الأبنودي ، هم لا يفقهون سر العلاقة بين
الأبنودي وقصيدته ، إنهم يريدونه وفق مشيئتهم هم ، وهو قد أسلم وجهه وقلبه ووعيه لقصيدته
، تأتي قاصمة الظهر في صباح الخامس من يونيو فيبحثون عن ندابة ، ويظنون أن الأبنودي
سيؤدي دورها ، يباغتهم هو بقصيدة ترفض الهزيمة وتغني لنصر قادم لا محالة ، تغيظهم مقاومته فيسخفون مطلع درته :" وبلدنا ع الترعة بتغسل
شعرها / جانا نهار مقدرش يدفع مهرها " يقول قائلهم :" الأبنودي سيصيب شعر
البلد بالبلهارسيا !!!"
ما أسخفهم ، علي قلوبهم أقفالها ، لا يستوقفهم قوله في ذات الأغنية :"
أبدًا بلدنا للنهار / بتحب موال النهار ".
ينشد الأبنودي لركام السويس ، يري بعين بصيرته أو ببصيرة قصيدته جمال السويس
ومقاومتها ونصرها الكامن تحت أنقاضها ، هم لا يعرفون أن الرجل تقوده قصيدته ، تفرض
إيقاعها ومعناها علي نهاره وليلة ، تزاحم دمه في عروقه ، فيلقيها علينا لكي لا يموت
مختنقًا بعبيرها ، الرجل مفارق لرغباتهم ، انتصر السادات وعلا نجمه وساد العرب فانتظروا
الأبنودي علي شاطئ المديح ، فجاءهم ولكن في يمينه مديحًا لسيناء :" وصباح الخير
يا سيناء ".
ثم جاء مليكهم بحلم قال إنه إنساني نبيل ورحيم اسمه السلام ،اتبعت طائفة منهم
بريق الحلم وانتظروا قصيدة الأبنودي ، ولكن
قصيدة الأبنودي
كانت ترى دم " حساني "
: " يلكزني حساني شهيد أكتوبر
بيد غرقانة دم
وعيون طايلها الهم
يسألني عن موته
ويهزني صوته
يقول لي:
لما أنت ما بتكرهش أمريكا
أنا مت ليه .. ؟
واللي قتلني قولي مين بالظبط ؟".
الرجل لا يزيف قصيدته ، هي أساسًا حرة كطير البراري ، لا تقبل الأقفاص والقيود
ولا تخضع سوي لمعناها الخاص .
لم يبحث الأبنودي عن لقب شاعر الشعب وهو يستحقه عن جدارة ، بحث دائمًا وعمل
دائمًا علي أن يكون شاعر الذي يشبهون قصيدته من الشعب ، لم يلتفت يومًا أو حتي لحظة
لضبع من ضباعهم يكتب متمنيًا موته وإهانة شيخوخته
، ليس لأن الأبنودي نخلة لا يؤذيها وقوف ذبابة
عليها ولكن لأنه يؤمن بأن هذا الضبع ليس من
شعبه الذي يغنيه ويخلده .
نحن شعب الأبنودي ندعو له بأن يغادر أزمته الصحية نقيًا وصافيًا لكي ننعم بدفء
حضوره ونستظل بقصيدته ، عليك سلام الله يا خال من شعبك ، مادامت السموات والأرض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير بتاريخ 18 مارس 2015
الصورة للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي والكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم، والشاعر الكبير محمود درويش في زيارة له للقاهرة
الصورة للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي والكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم، والشاعر الكبير محمود درويش في زيارة له للقاهرة
زمن ما لا يجب الأبنودى
ردحذفشفاه وعافاع
تسمعه تشعر وكأن مصر عى اللى بتتكلم
احتراماتى
شكرا استاذ حمدى
ردحذف