الخميس، 16 أكتوبر 2014

خالد السرجانى




فى مطلع التسعينيات عرفت قدماى الطريق إلى مقهى «الندوة الثقافية» بوسط البلد، أتوجه إليه عصر كل يوم، أيامها كنت أشعر بسعادة غامرة لو توفر كوب شاى ورواية جيدة. على مقربة منى كان يجلس شاب يميل إلى الشقرة، يمضغ علكة، ويتحدث عن الجزائر، كنت أتركه يتحدث، وأتفرغ لالتهام الرواية التى تقع بين يدى، عصر أحد الأيام مر بنا بائع كتب قديمة، كان يحمل نسخة فريدة من كتاب «البداية والنهاية» للإمام ابن كثير، حاولت شراء الكتاب منه، لكنه غالَى كثيرا فى ثمنه، جلست متحسرا على فرصة ضاعت، وعدت لإكمال قراءة الرواية، عصر اليوم الثانى جاءنى الجرسون بشنطة بلاستيكية، وقال إن الأستاذ خالد السرجانى تركها لى، فتحت الشنطة فوجدت أربعة مجلدات هى النص الكامل لكتاب «البداية والنهاية»، سألت الجرسون: «من يكون خالد السرجانى؟».


راح الجرسون يصفه لى حتى تأكدت أنه نفس الشاب الأميل إلى الشقرة، الذى لا يتحدث سوى عن الجزائر.

تعجبت من الهدية وصاحبها، الذى يهدى كتابا نفيسا لواحد لا يعرف اسمه.


ظللت أنتظر مجىء خالد، وعندما جاء شكرته، فضحك قائلا: «إنك لم ترَ علامات الحسرة على وجهك بعد أن غالَى البائع فى ثمن الكتاب».

تواصل بيننا الحديث الذى سيستمر ويتواصل على مدار أكثر من عشرين سنة، وستكون الكتب هى العلامة الأكيدة على تقاربنا ومتانة علاقتنا.


رغم دلالة العطاء فى ما سبق، فإن علاقتنا ظلت محصورة فى تبادل الكتب والكلام العام، الذى لا يكشف خبايا الشخصية، حتى جاء يوم ألقى فيه شويعر على أسماعنا قصيدة غاية فى الركاكة والبذاءة معا فى هجاء الإمام الحسين بن على، يومها كنا جماعة من الذين يعرفون الشويعر جيدا، ويحبذون الاشتباك به بالأيدى تجنبا لضياع الوقت فى مناقشته، بسرعة قرأ خالد السرجانى -وكان يجلس معنا- ما يجول فى خاطرنا، فوبخ الشويعر بأقسى لفظ ممكن، وقام بطرده من المجلس، مما حال بيننا وبين الاشتباك معه، وعندما هدأنا أظهر بعضنا اندهاشه من سلوك خالد، الذى ظننا أن الأمر لا يعنيه، يومها قال خالد كلاما سيكشف به عن أعماق شخصيته، وذلك عندما تحدث طويلا عن كون الإسلام وتفرعاته من أحداث أو شخصيات ليس دين غالبية الأمة فحسب، بل هو فى جوهره يمثل ثقافة الأمة، وعلى كل أفراد الأمة أيا كانت توجهاتهم الاشتباك مع ثقافتهم، لكن من خندق وموقع الاحترام، وليس السب والشتم والتطاول دون مبرر.


لحظتها عدت أرى خالد بعين جديدة، وتأكدت أن رطانة ومراهقة اليساريين لم تصب قلبه بأى اعوجاج أو عمى بصيرة، وقد تصادف أن العالم الجليل الراحل عبد العظيم أنيس، وهو من هو بين اليساريين، قد خصص بضعة مقالات مطولة لشرح وترويج المعنى ذاته، الذى قصده خالد فى شأن احترام ثقافة الأمة ومفرداتها.

هاتان الخصلتان، أعنى القدرة على العطاء، واحترام الآخر أيا كان معتقده ستجعلان من خالد السرجانى شخصية فريدة بين جموع الصحفيين والكتاب، تلك الفرادة التى ستتواصل معه، وتكون عنوانا عليه حتى مفارقة رحيله المفاجئ بعد ساعات من زفافه، إن تلك المفارقة قد دعتنى إلى أن أتأمل حكمة الرحيل فى هذا التوقيت على وجه التحديد.



لعلنى لا أتجاوز حدودى، عندما أقول إن رحيل السرجانى بالطريقة التى رحل بها رققت قلوب حتى الذين لا يعرفونه شخصيا، والذين جعلوا من مواقع التواصل الاجتماعى مساحة للدعاء له بالرحمة والمغفرة، وهو الأمر الذى يثبت أن النظفاء والودعاء وأصحاب العطاء سيجدون دائما من يحفظ لهم قدرهم فى حياتهم أو بعد مماتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحريرفي 10 سبتمبر 2014
لينك المقال:
htp://tahrirnews.com/%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AC%D8%A7%D9%86%D9%89-2/t

هناك تعليق واحد:

  1. اتمنى ان تكون انت من النظفاء والودعاء وأصحاب العطاء الذين سيجدون من يحفظ لهم قدرهم فى حياتهم او بعد مماتهم...........حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا

    ردحذف