كنا جماعة من شباب الصحفيين نعمل فى جريدة، لا هى مغمورة ولا هى ذائعة الصيت، وكان رئيس تحرير جريدتنا لا يأمر بنفاقه ولا ينهى عنه..
«حالة البين بين» المائعة هذه استغلها جماعة من الزملاء فأسرفوا- تحت ستار من الحب اللزج- فى نفاق سعادة رئيس التحرير، حتى إنهم شكّلوا تحالفًا نفاقيًّا واخترعوا ميداليات تزينها صورة معاليه، ولكن هذا التحالف لم يستمر طويلًا، فسرعان ما دب بينهم صراع التنافس على قلب الرجل فانقسموا إلى ثلاث فرق، فرقة «نفاقها متواضع» تُخصص أحد وجهَى الميدالية لصورة رئيس التحرير، والوجه الآخر تجعله لأولادها أو لأى منظر طبيعى.
الفرقة الثانية «يبدو نفاقها عريقًا» تزين وجهَى الميدالية بصورة رئيس التحرير.
الفرقة الثالثة وكان يمثلها صحفى واحد، فاز بالمركز الأول من أول يوم لبدء منافسات النفاق، زميلنا صنع ميدالية ثمانية الشكل، واختار صورًا فى أوضاع شتى لسيادة رئيس التحرير، فربح منافسيه بالضربة القاضية الفنية.
ثم راحت أيام وجاءت أخرى وقام مجلس إدارة الجريدة بطرد رئيس التحرير، وهنا كان لا بد لى من متابعة مصائر الميداليات، لقد اختفت جميعها بقدرة قادر أو بسحر ساحر، ولم يعد أحد من الزملاء يجرؤ على أن يُظهر الميدالية التى طالما تباهى بها متدليةً من جيب بنطلونه أو متلاعبًا بها بين أصابعه. لم يدهشنى اختفاء الميداليات، فالأمر متوقع ويبدو سلوكًا طبيعيًّا يسلكه المنافقون عادة، الذى أغضبنى أيامها كان إجابة وقحة متغطرسة قالها صاحب الميدالية الثمانية الشكل عندما سألناه: «لماذا اختفت ميداليتك المتميزة؟».
راح يلقى علينا خطبة مطولة عن الفرق بين حب الشرعية والدفاع عنها والتمسك بها وبين حب الفرد، لأن حب الشرعية يقتضى أن يخفى الميدالية، ولكن حبه لرئيس التحرير السابق يجعله يداوم على التواصل معه، حتى إنه يزوره فى مسكنه ثلاث مرات كل أسبوع!!!
مر يومان على سماعنا لهذه الخطبة العبثية، وفى اليوم الثالث ظهرت ميدالية جديدة بين أصابع الزميل تعلن عن حبه وتمسكه ودفاعه عن الشرعية، متمثلة فى رئيس التحرير الجديد الذى رأى أن يكسب الرأى العام بالجريدة، فأبعد عنه صاحب الميدالية لفترة لم تستمر طويلًا، ثم بدعوى الاستفادة من كل الكفاءات بدأ رئيس التحرير الجديد يستعين بالزميل صاحب الميدالية ويقربه حتى أصبح ذراعه اليمنى، الانفراجة التى حدثت للزميل، جعلت الاطمئنان يعرف طريقه إلى نفوس باقى فرق المنافقين فصنعوا ميداليات جديدة مزينة بصور رئيس التحرير الجديد.
قصة الميدالية هذه تبدو كأنها من قوانين الحياة السياسية المصرية، لا يخرج عنها إلا مَن رحم ربى، فنحن نشاهد الآن حلقة من حلقاتها، يتم ارتكابها تحت شمس الظهيرة وبدون أدنى ذرة من حياء أو خجل أو تأنيب ضمير، فالذين تباهوا بميداليات مبارك هم هم الذين افتخروا بميداليات الثورة، ثم وضعوا ميداليات طنطاوى فوق صدورهم، ثم حفروا ميداليات الإخوان فوق جباههم، ثم ها هم الآن يكررون الأمر ذاته مع المشير السيسى الذى لم يعلن حتى اللحظة بشكل رسمى قاطع أنه سيرشح نفسه على منصب الرئاسة، ومع ذلك فإن صانعى الميداليات يسعون ليل نهار لإفساده، ينسبون إليه كل أمر معجز ويختصرون فى شخصه كل الوطن، ويتبرعون بسباب وتشويه كل من يجرؤ على إعلان أنه سيخوض الانتخابات الرئاسية، ويؤكدون ليل نهار أن السيسى وحده هو الذى من حقه أن يترشح!!
كل هذا التدنى والترخص والانتقال بخفة القرود من خندق إلى آخر لن يصنع دولة، ولن يبنى وطنًا، بل سيقودنا جميعًا إلى هاوية تماثل تمامًا حال جريدتى القديمة التى بفضل النفاق أصبحت تعيش حالة برزخية عجيبة، فلا هى متوقفة عن الصدور ولا هى منتظمة، إنها تعيش فى غرفة إنعاش من الإعلانات، وهو الحال ذاته الذى يعيشه رئيسا التحرير اللذان اعتمدا على المنافقين، فأولهما أصبحت سمعته تحت الأقدام من كثرة ما جاهَر بنفاقه لكل سلطة، وثانيهما قنع من الغنيمة بجلوسه فى صالون بيته لا يغادره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير 19 فبراير 2014
لينك المقال بموقع التحرير:
http://tahrirnews.com/columns/view.aspx?cdate=19022014&id=0c71fc0d-9b62-42d7-a13d-dd1513cb669e
رائعه
ردحذفشكرا لك استاذة هدى
حذف