الأربعاء، 26 يناير 2000

من الكشح لأم كلثوم.. "يا قلبى لا تحزن"







العقلية التى نعالج بها الكوارث.. هى عقلية "كلنا أخوة".. و"كله تمام".. و"إحنا أحسن ناس ومافيش بعد كده".. و"اللى يحبنا ما يضربش فى فرحنا نار".. و"كل أبناء الأمة سمن على عسل".. وهكذا تبقى العوامل التى تسبب الكارثة.

عن أمى رضى الله عنها أنها قالت: "على ما تتكحل الرعنة يكون السوق انفض"، ومعنى المثل لسادتنا من أبناء البنادر أن على المرأة التى تريد اللحاق بالسوق تجهيز نفسها بأقصى سرعة، أما الرعناء الكسول فعليها بالمكوث فى بيتها لأن السوق لن تنتظر حتى تتزين الغندورة.

وقالت أمى أيضاً: "ذات يوم اجتمع جماعة من المسلمين على رجل نصرانى وأجبروه على اعتناق الإسلام، فتظاهر المسكين بالإسلام، ولكنه كان مع كل طلعة شمس يمر على الكنيسة ويلتفت متحسراً وهو يقول: "السلام عليك يا كنيسة الرب واللى فى القلب فى القلب".

ذكرني بحديث أمى ما شاهدته فى برنامج "أخبار الناس" الذى أذاعته القناة الأولى لتليفزيوننا مساء الخميس 13 يناير الحالى.. فمقدمة ومعدة البرنامج "رولا مصطفى الخرسا" مذيعة جميلة ولبقة ذهبت إلى "الكشح" وقابلت مسلمين ومسيحيين، شيوخًا وقساوسة، مثقفين وأميين، حاورت الجميع بفهم واستمعت إليهم بأدب، نقلت الأحداث كما رواها من شاهدها ولكن المشكلة أن مجهودها ومجهود فريقها ذهب أدراج الرياح لأنه جاء متأخراً، بل جاء متأخراً جداً فى موعد إذاعته.

فلو أن التليفزيون تخلي قليلاً عن أساطير ريادته وسمح لرولا وفريقها بالسفر إلى موقع الحدث فور وقوع الكارثة لما وصلت الأحوال إلى ما وصلت إليه، فالذين خرجوا من بيوتهم ثائرين.. وأطلقوا الرصاص بشكل عشوائى.. هم الذين سرت بينهم شائعة خبيثة تقول: إن المسيحيين أحرقوا مسجد القرية ومعهدها الأزهرى، لو فعلها التليفزيون العملاق وسمح للقناة الثامنة بأن تبث للناس صورة حقيقية للأحداث فور وقوعها.. لما وصل عدد القتلى إلى عشرين قتيلاً والمصابين إلى السبعين مصاباً.

وهكذا أثبت التليفزيون صدق حديث أمى.. وانفض السوق، بل "وخربت مالطة" وقبرص والكشح، قبل أن تكتحل الرعناء فى ماسبيرو، هذا عن زمن إذاعة البرنامج، أما عن مضمونه.. فقد أكد لى بوصفى صعيدياً "إن اللى فى القلب فى القلب" فقد أجمع كل من حاورتهم المذيعة على أن "المسلمين والمسيحيين سمن على عسل وأن ما حدث سحابة صيف، ثم إن مصارين البطن "ببتخانق".. و"كلنا أخوة، وموسى نبى وعيسى نبى ومحمد نبى وكل من له نبى يصلى عليه". و"اللى يحبنا ما يضربش فى فرحنا نار".

هذا ما صرح به ضيوف البرنامج، وهو عندى كارثة حقيقية فمعنى قولهم كلنا أخوة.. هو تصديق للنكتة السخيفة اللى تقال عنا: "مرة عشرة صعايدة هزروا مع بعض خمسة منهم راحوا القبر والخمسة التانيين راحوا المشرحة".

يا أيها المسئولون اقرأوا جيداً "نفسية" الصعايدة، فعندما ينكر الصعيدى وقوع جريمة قد وقعت بالفعل، فهو يضمر الثأر ويبيت العداوة ويرسم الاستكانة وفجأة ينقض لينتقم، واعلموا أن ما حدث فى الكُشح هو كارثة بدون تهويل أو تهوين.. هو كارثة وطنية بكل ما تعنى الكلمة.

والذين تسببوا فى هذه الكارثة معروفون لا يخفى أمرهم على أحد وسأحصرهم فى أربع فئات:

(1) عشوائيون كفروا بالدنيا والآخرة يشربون ويأكلون ويتنفسون يأساً وضياعاً وفقراً وجهلاً.. إذا وجدوا جنازة سارعوا إليها لكى يشبعوا لطماً وإن لم يجدوها اختلقوها.

(2) المخبرون والعساكر والضباط الذين إذا ذهب إليهم مواطن مسيحى شاكياً من اعتداء بسيط وقع عليه من مواطن مسلم.. سارعوا فجيشوا الجيوش وألقوا القبض على المواطن المسلم "وفين يوجعك".. صفع ولطم بل ونفخ وصعق، فيخرج من تحت أيديهم إرهابيًا لا يُشق له غبار. مؤمناً بأن المسيحيين وراء المهانة التى لحقت به، وأنه لن يسترد كرامته التى أهدرت فى "الحجز" إلا إذا ثقب صدر مسيحى بدفعة رشاش!!

(3) أصحاب حقوق الإنسان والحيوان والنبات والجماد، الذين يجعلون من الحبة قبة، ويطالبون بتدخل الأمم المتحدة إن عطس مسلم فى وجه مسيحى، وبإعلان الجهاد المقدس إن لم يقل المسيحى للمسلم "يرحمكم الله"!

(4) أما الضالعون فعلاً وقولاً فى كارثة "الكُشح" فهم أولئك الذين يرون الجرائم رؤى العين ثم يبتسمون ويتصافحون ويتعانقون أمام الكاميرات والتليفزيون.. وهم ينشدون "عاش الهلال مع الصليب، عاشت الوحدة الوطنية، الدين لله والوطن للجميع، كلنا إيد واحدة يا مرقص كلنا إيد واحد يا أحمد". ويقسمون أن "المسلمين والمسيحيين أخوة منذ اليوم الذى وحد فيه "مينا القطرين" ونادى فيه "إخناتون" بالتوحيد.





هل أم كلثوم من الكُشح؟

العقلية التى عالجنا بها كارثة الكُشح هى ذاتها التى فرضت على "محفوظ عبدالرحمن وإنعام محمد على" أن يقدما مسلسلاً عن حياة "أم كلثوم".. أقصد عقلية "كلنا أخوة، كله تمام، ربنا حليم ستار، إحنا أحسن ناس مافيش بعد كده".

"أم كلثوم" كما ظهرت ملاك هبط من السما، امرأة مخلوقة من بياض الثلج ونعومة الحرير وصلابة الجرانيت، امرأة كونية لا تسب ولا تلعن ولا تتآمر ولا تكذب.

وكأن كل الذى قرأناه وسمعناه من أفواه معاصرة أم كلثوم.. عن معاركها كان كذباً فى كذب وشائعات روجها عميل المخابرات الأسمهانية أو جاسوس للموساد الفيروزى.

نعم ومليار نعم كانت أم كلثوم موهبة خارقة، غيرت بتفردها وعبقريتها خريطة الغناء العربى، صنعت لنفسها هرمًا من المجد، ولكنها كانت مثل غيرها من "بنى البشر" امرأة من لحم ودم وخطايا وحسنات وهزائم وانتصارات وتسامح وأحقاد، أما الصورة التى قدمها المسلسل فلم تخرج عن كونها محاكاة لما كان يفعله المخرج القديم "محمد كريم"، الذى كان يصر على كنس تراب الشوارع الريفية التى يصور فيها أفلامه، بل وصل به الأمر إلى غسل الجاموسة أو البقرة التى ترعى فى حقل "بطلة الفيلم"، ويقال والعهدة على الراوى أنه سكب عطرًا على أجساد فلاحات أفلامه.

ومع ذلك أرى أن العيب ليس عيب الموهوب محفوظ عبدالرحمن أو الموهوبة إنعام محمد على، وذلك لأنهما إذا قدما الصورة الحقيقية لأم كلثوم لحدث الآتى:

لن يوافق التليفزيون على السيناريو، ولا على التصوير، وإن صور ستلجأ أسرة أم كلثوم للقضاء، وإلى أن يحكم القضاء سيصب بعض من "أرزقية الصحافة" "قار" غضبهم على محفوظ وإنعام، وقد يستجيب أحد من زعماء "سيد قراره" لغضب الصحافة ويقدم استجواباً لوزير الإعلام يندد فيه بالتليفزيون الذى يهدم رموز مصر، ولكى يلم الدور يعلن وزير الإعلام وقف عرض المسلسل، وينظم محفوظ وإنعام مؤتمراً صحفياً عالمياً يعلنان فيه هجرتهما إلى بوركينا فاسو، وتعلن جماعة أنصار "أم كلثوم" مسئوليتها عن اغتيال المارق محفوظ عبدالرحمن والمرتدة إنعام محمد على.

وعلى الذى يتشكك فى صدق ملامح السيناريو الذى رسمته أن يرجع إلى العدد الأول من يناير من مجلة "روزاليوسف"، ليقرأ تصريحاً لابن شقيقة "أم كلثوم" المواطن "محمد الدسوقى" الذى قال: "إنه طلب قراءة سيناريو المسلسل قبل التصوير.. إلا أن محفوظ وإنعام لم يستجيبا لطلبه، وأنه يترقب نهاية الحلقات ليصدر حكمه النهائى"!!

هل قرأتم كلمتي "ليترقب ويصدر"؟ لقد أصبح من حق سيادته أن يترقب.. ومن حق فخامته أن يصدر حكمه النهائى.. وكأن "أم كلثوم" من ممتلكات "سموه الخاصة"، إضافة إلى تصريح السيد "الدسوقى" نشرت المجلة وفى ذات العدد والصفحة تصريحاً لعائلة الموسيقار "القصبجى" أعلنت فيه العائلة غضبها من أحداث المسلسل، وأكد حفيد القصبجى أن أم كلثوم هى التى طلبت الزواج من القصبجى وليس العكس!!

وهكذا نجد أن مسلسل محفوظ وإنعام هو الاستجابة الطبيعية لضغوط مجتمع لا يؤمن إلا بالقرار الواحد والرأى الواحد.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الأهالى - 26 يناير 2000

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق