الأحد، 3 يونيو 2001

كاتبة فرنسية تفضح "مؤامرة" أجهضتها الانتفاضة ( 2 ـ 2)

 



بنظرة ذكية تقول المؤلفة إن التصريح للشباب بارتداء الزي العسكري وحمل السلاح ومنحهم راتباً في صفوف الجيش وإشراكهم في فرض احتكار العنف المشروع يتيح لهم الإبقاء على وهمهم بأنهم أي الشباب محتفظون بقوتهم، والواقع أن الأمر اقتصر ببساطة على تحويل مجرى اندفاعاتهم، فبعد استبعاد هؤلاء الشباب من دوائر اتخاذ القرار أصبحوا وكلاء عهدت إليهم مهمة الحفاظ على النظام السياسي الذي تستدعى قوانينه استخدام القوة ضد الإسلاميين وتكرار استخدامها.
 
وهكذا يجد الشباب أنهم أضحوا يحتلون الخطوط الأولى في الميدان كما كان الحال في زمن الانتفاضة وتكليفهم بتنفيذ القانون أو بالأحرى قرارات السلطة يعطيهم الإحساس بالنفوذ وسط مواطنيهم.
 
ويوضح أحدهم ويدعي جمال في مارس 1995 طبيعة عمله وظروفه قائلاً:
"أنا أعمل بالاستخبارات العسكرية، وأنا ملازم أول وسأصبح نقيباً بعد ستة أشهر وأنا مسئول عن مجموعة مكونة من عشرين ملازماً ثانياً، ويتمثل عملنا حالياً في مكافحة تجارة السلاح والحيلولة دون تنفيذ العمليات العسكرية التي تدبرها حماس، وقد ألقينا القبض منذ أيام على شخص وصادرنا متفجرات كان صاحبها يعد لتنفيذ عملية انتحارية وهو نزيل السجن حاليا، وكان هناك أيضاً شخص آخر من حماس في الحبس وأطلق سراحه بضمان من والده ونحن نراقبه ولكنه يسير الآن في خط مستقيم ولم يعد يتردد على حماس أو الجهاد الإسلامي، والناس راضون، ونحن ندرك ذلك لأن العديد من الأفراد يحضرون عندنا لمقابلتنا وليعرضوا علينا مشاكلهم أو شئونهم كما نستقبل العديد من الزوار ".
 
ويحرص جمال على الكشف عن وضعه في التدرجات الوظيفية وعن صلاحياته المهنية التي يمارسها لخدمة الأمة.
 
وقد تغير مفهومه لمهنته جذرياً فبعد عام، وعشية إعلان الاستقلال الذاتي في مايو 1994، ولم يكن يتخيل أنه سيكلف بإلقاء القبض على أحد مواطنيه  يقول جمال :"إذا نفذت حماس عملية عسكرية في إسرائيل، أكون سعيداً بذلك شخصياً لأننا لا يمكن أن ننسى مذابح مسجد القدس والخليل، ولا شهداءنا، فعندما يقتل يهود فلسطينيين تعلن إسرائيل في جميع أرجاء العالم أنهم مجانين ويتظاهرون بإيداعهم في السجون ثم يطلقون سراحهم، والواقع أن هؤلاء القتلة يحظون بالاحترام في إسرائيل  وإذا  طلب مني رؤسائي أن أقبض على فلسطينيين شاركوا في تدبير عمليات عسكرية، فلا أعرف كيف سأتصرف، ربما سأنفذ ذلك أو أستقيل إذا دفعت إلى عمل أشياء لا أحترمها، ولا أريد أن أقدم عليها ".
 
ثم تلاشت تردداته من الآن فصاعداً بل إنه بات يفخر بالمهام الذي ينجرها وهو راض بالعمل المكلف به ولكن هذا الصقر أصبح يعاني من خيبة أمله بخصوص المبلغ الذي يتقاضاها عن عمله فإحساس جمال بقوته يغذي تطلعاته المالية وهو يذكر بنوع من الحنين اليسر المالى الذي حظى به أثناء الانتفاضة. يقول جمال: "أنا غير راض عن عملي من وجهة نظر مرتبي أنا أحصل على 450 دولاراً فقط بينما أنفق 700 دولار شهرياً، وعندما كنت صقراً كان راتبي 500 دولار كل شهر وكان تحت تصرفي 2000 دولار علاوة على ذلك كمسئول عن مجموعة وذلك لتغطية نفقات النشاطات كان الحال أفضل بكثير من الناحية المالية وكان بوسعي إنفاق مبالغ كبيرة وبالطبع يشعر المرء الآن بالطمأنينة وأعرف أنني لن أقتل عند تقاطع شارعين".
 
وتتحول تطلعات الشباب إلى ميل للتحكم فشهوة القوة تدفع جمال إلى التخلص من القيم السياسية والقومية التي كان يذكرها قبل عام مضى. يقول جمال: "لو كنت في السلطة لتخلصت بسرعة من الإسلاميين وبصراحة سأضع يدي في يد إسرائيل بدلاً من السلطة الفلسطينية وسأحتل البلدان العربية".
 
وهو يضيف علاوة على ذلك فإن الخطأ الرئيسي من جانب قادة السلطة يكمن في افتقاد النظام العام في غزة "من وجهة نظري الأمن الداخلي ليس على ما يرام فعلى سبيل المثال يستطيع أي شخص أن يدخل بسهولة المبنى الذي أعمل بداخله في العهد الإسرائيلي كنا نخاف لماذا لا نتصرف مثل الإسرائيليين؟ يجب أن نحترم وأن يخشانا الناس".
 
وهكذا أصبح جمال يقف إلى جانب القوة أياً كان مصدرها فهو يجوز جزءاً ضئيلاً من العنف الفلسطيني المشروع ويبدي إعجابه بالجيش الإسرائيلي لفاعليته واحترافه فهو يقارن نفسه بضباط جيش إسرائيل بعد أن حل هو محلهم في مدينة غزة.
 
أما سليم البالغ من العمر ستاً وعشرين سنة، والمستخدم في أجهزة الأمن الوقائي فيقول: "في البداية كنت أشعر بالحرج عندما أذهب لاعتقال الناس، كان هؤلاء الشباب من حماس معي في السجن، ولكن بعد الاغتيالات ومقتل أعضاء في السلطة لم أعد أشعر بالحرج لأنني قد أكون القتيل التالي، وعلى أية حال فقد تلقيت تهديدات بالهاتف، وعلاوة علي مسدس الخدمة الذي عهد إلىّ به لدى ستة أسلحة أخرى في غرفتي يمكنني أن أوزعها على إخوتي في حالة وقوع خطر".
 
ومشاركة جميع أجهزة الأمن، بما في ذلك الشرطة الجنائية والبحرية في قمع المعارضة  ليس محض صدفة فهو يتمشى مع إرادة دوائر السلطة في إشراك أكبر عدد من الأفراد في أعمال القمع لتسريع القطيعة بين معسكر السلطة ومعسكر المعارضة.
 
أصبح الشبان المناصرون لفتح والمجندون بعد كل اغتيال يرتكبه الإسلاميون، أصبحوا يشاركون في عملية حماية الدولة العبرية باسم حماية النظام في أراضي الاستقلال الذاتي.
 
فقد توصل القادة تحت ضغوط الحكومة الإسرائيلية إلى إٍقناعهم بأن تدعيم السلطة الفلسطينية دليل على وطنيتهم وتتمثل المهمة الرئيسية لأجهزة الاستخبارات في السهر على احترام الأمن الإسرائيلي، وهكذا أصبحت تلك الأجهزة الدرع الواقي بحرصها على وضع حد للعنف الموجه ضد إسرائيل.

 
 
 
توكل إسرائيل السلطات التنفيذية الفلسطينية في إدارة أمنها جزئياً، ففي المنبع تتكفل الأجهزة العسكرية البوليسية الفلسطينية بالقضاء على العنف الإسلامي الموجه ضد الدولة العبرية وفي المصب يتولى الجيش الإسرائيلي الرقابة على حدود الأراضي المستقلة ذاتياً بالتدفقات الاقتصادية ويتسبب في ركود المناطق الخاضعة للحصار، ويوفر تطبيق قواعد الأمان فرضاً لإثراء وتدعيم نفوذ مجموعة كبيرة من العسكريين المرتبطين بمركز القرار الإسرائيلى فدورهم كوسيط بين الخارج والداخل يمكنهم من جني أرباح طائلة يعيدون ضخها في مجالات أخرى تعزز مراكزهم.
 
ونتيجة لسيطرة بعض المسئولين في القيادة العسكرية علي المبادلات التجارية تستبعد الصفوة التجارية التقليدية ويتفق تهميشها مع عزم التوانسة وزعامات الداخل على إقصاء البرجوازية الكبيرة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاعتماد على الطبقات الشعبية وهكذا يستخدم عدد محدود من شباب الانتفاضة تم دفعهم فجأة في دوئر التوزيع المجزية إلى حد كبير ويؤمن ارتقاء هؤلاء السريع وغير المتوقع ورعايتهم الولاء الأكيد للقادة الكبار من جانب هؤلاء المحاسيب وتستفيد بذلك جمهرة محركي التمرد بقدر متواضع من الصرح العسكري التجاري وتتيح الأرباح المتراكمة تمويل مرتباتهم كرجال شرطة وهنا يبرز دور جهاز الأمن الوقائي الذي تأسس بعد لقاء تم في روما بين محمد دحلان وجبريل الرجوب وقادة عسكريين إسرائيليين في يناير 1994 ولم يكن هذا الجهاز وارد في اتفاقات واشنطن أو القاهرة ولكنه تحقق بتدبير شفوي بين الطرفين صرح بمقتضاه للمندوبين الفلسطينيين بتنظيم فيلق مسلح إضافي للشرطة في قطاع غزة والضفة الغربية ويرجع اختيار دحلان والرجوب إلي ثقة القادة الفلسطينيين فيهما وأيضاً تلك الثقة الصادرة عن الجيش الإسرائيلي وقد صرح داني روتشيلد المنسق العسكري السابق في الأراضي المحتلة بأن تساحال وافق على النظر في التعاون في مجال الأمن لإدراكه بأن المتحدثين معهم رجلان يتمتعان بقاعدة شعبية في قطاع غزة والضفة الغربية ويتميزان بخبرتهما السياسية والعسكرية ولذا فقد راهن على كفاءتهما المهنية وعلى فعاليتهما وأسفرت الاتصالات بين الأجهزة الفلسطينية والإسرائيلية.
 
ما علق في مجال الأمن وتبادل المعلومات بين الطرفين بخصوص القضاء على الشبكات الإسلامية المسلحة وتظل اللقاءات بين قادة أجهزة الاستخبارات الرابطة الأخيرة الباقية عندما يشتد التوتر بين حكومتي السلطة الفلسطينية والدولة العبرية ومنذ انتخاب بنيامين نتنياهو، حافظ العسكريون على تلك العلاقات التي تحد من آثار تدهور عملية السلام.
 
وكانت قضية واكسمان في أكتوبر 1994 حدثاً حاسماً في موقف أجهزة الأمن الفلسطينية فقد مارست حكومة رابين ضغوطاً قوية على السلطة على إثر اختطاف مجموعة مسلحة تابعة للجناح العسكري لحماس الجندي الإسرائيلي ناحوم واكسمان وذلك لتحديد موقع المسئولين عن الاختطاف ويفضل قوات الأمن الفلسطينية وبالأخص في قطاع غزة تم اعتقال واستجواب عدة مئات من الأشخاص المرتبطين بالأوساط الإسلامية واكتشاف مخبأ المختطفين التابعة لكتائب عز الدين القسام وقد أوضحت فترة التوتر الذي ساد بين السلطة الفلسطينية والدولة العبرية ضرورة تشكيل شبكة استخبارات قادرة على مواجهة تحديات المعارضة المسلحة وعليه أعطى ياسر عرفات الضوء الأخضر للتوسع في إمكانات تلك الأجهزة وترمي إقامة الجهاز العسكري البوليسي الفلسطيني إلى ترويض الإسلاميين وتحييد الأجنحة المسلحة فتهديدات هذه الأجنحة لإسرائيل تحمل في طياتها بذور أضعاف الاستقلال الذاتي وقياداته وعليه يصور الخطر الموجه إلى الدولة العبرية كتحد في الوقت نفسه لقدرات الجهاز العسكري السياسي الفلسطيني.
 
ويختص جهاز الأمن الوقائي بالداخل وهو يستخدم 99% من شباب الانتفاضة ويؤكد رشيد أبو شباك الرجل الثاني في الجهاز أن عملية إلحاق العمالة كانت دقيقة للغاية ومتشددة بشكل خاص في جهاز الأمن الوقائي، أما الآخرون فقد أجريت معهم حوارات لتحديد هويتهم واختيار دوافعهم وهو يقول: "كنا يقظين بالأخص في اختيار الشباب ولا توجد لدينا أخطاء فقد اخترنا أولاً الصقور والشباب الذين خرجوا من السجون وكان رشيد أبو شباك من المسئولين عن المجموعات المسلحة الأولى في عام 1990 بغزة وشارك فيما بعد في تنظيم الصقور وهو في تونس، ولذا توفرت له إمكانات تقدير استعدادات المرشحين للعمل في الجهاز ومنها مثلاً الانضباط والخبرة النضالية وأعاد الأمن الوقائي تأهيل مناضلي الانتفاضة بوضعهم في خدمة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية والإسرائيلية، وهناك مصادر مختلفة تشير مع ذلك إلى أن بعض الفلسطينيين الذين كانوا يعملون من قبل لصالح شين بيث التحقوا بالأمن الوقائي وذلك "في مقابل، وكشرط للعفو عنهم ــ أن يفيدوا الجهاز الخاص بمستخدمهم الجديد بالمعلومات التي في حوزتهم".
 
ويحرص رئيس الأمن الوقائي علي تزويد جهازه بأقصى قدر من أسباب النجاح وقد أعلن أنه يلجأ إلى استشارة أجهزة التحليل وتقصى المعلومات عن المجتمع الفلسطيني واتجاهات الرأي العام ويدل الحرص على استخدام التقنيات الحديثة والتغلغل في قلب السياسة على طموحات هذا العقيد حدة بصيرته وتتيح تلك الاستثمارات والتوسعات في النشاط التي يتميز بها جهاز محمد دحلان ذلك الإشراف الاقتصادي الذي يزاوله على قطاع غزة ويستغل رئيس الأمن الوقائي علاقاته الطيبة مع المسئولين الإسرائيليين في تنظيم وتفتيش السلع التي تجتاز الحدود الإسرائيلية الغزاوية.
________________________
نشرت بجريدة العربي ــ 3 يونيو 2001

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق