سيارات الإسعاف لا تكف عن نقل الجرحى، مظاهرات حاشدة تطوف الشوارع بنعوش
الشهداء، تلاميذ الثانوي يواجهون الدبابات بالأحجار والقنابل اليدوية، أبطال حماس
والجهاد تقتحم روائح الجنة أنوفهم فيفجرون أنفسهم في مواقف الباصات، أمهات يحرضن
أولادهن على اللحاق بركب الشهداء، أب اشتعل رأسه شيبًا يوزع الحلوى فرحاً باستشهاد
ابنه، أم تقول للقناة الثانية الإسرائيلية "حسناً لقد ذبحتم ابني، بعد تسعة
أشهر سأضع ولداً غيره".
بعد كل هؤلاء الشهداء من حقي ومن حقك أن نصرخ "ثم لماذا لم تتحرر
فلسطين؟".
أعلم مقدماً أن الإجابة صعبة جداً، بل ومؤلمة جداً، ولكن الإجابة هي اليقين
الذي نبحث عنه والذي بسكينه سنقطع كل حبال الشك.
هل تريد إجابة موجزة وجامعة ومانعة؟
إنها مقولة صلاح عبدالصبور الخالدة "الدودة في أصل الشجرة".
تسأل: أية دودة وأية شجرة؟
اقرأ معي كتاب "عنف السلام في غزة" لتعرف الإجابة.
الكتاب في الأصل هو رسالة تقدمت بها الكاتبة الفرنسية لوتيسيا بوكاي لنيل
شهادة الدكتوراة من معهد الدراسات السياسية بباريس، وذلك بعد أن أتقنت اللغة
العربية وعاشت في "بيت ساحور" مع الفلسطينيين ثلاث سنوات كاملة.
وقد ترجم كتابها إلى العربية حليم طوسون وأصدرته دار العالم الثالث
بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون العلمي بالقاهرة.
إن كانت هناك "أمنية" واحدة يحلم بها كل الصهاينة فسيكون
"أن تنشق الأرض وتبلع غزة" وغزة هذه ليست أكثر من محافظة لا تزيد مساحاتها
على الـ 370 كليو متراً مربعاً، بينها وبين القدس ما لا يزيد على الـ 100 كيلو
متر، ومع ذلك قد ينقض عمر الغزاوي دون أن يزور القدس، على حيطان بيوت غزة توجد
عبارة واحدة تقول للصهاينة "لقد رأيتم بيروت وسترون غزة" تهديد واضح
وحاسم والغزاوية يؤمنون أنهم قادرون علي تنفيذه، ولما لا والانتفاضة الأولى
1987ــ1993 بدأت من غزة ودفع أهلها معظم ثمنها من شهداء ومعاقين وجرحى، وغزة لا
تحارب الصهاينة وحدهم بل تقابل أيضاً ضد فقرها وتخلفها عن باقي الأرض الفلسطينية،
ولذا لم يكن مستغرباً أن يرفع شبابها شعارًا يقول: "اليهود أولاً ثم الرمال
بعده" والرمال ما هو إلا "حي التجار" هذا الشعار يلخص مأساة غزة
التي ترى نفسها تستحق الكثير من العناية والرعاية ثم لا تجد بين يديها إلا الفتات،
ومع ذلك لا تكف عن تقديم الشهداء الواحد تلو الآخر، عندما كانت الانتفاضة الأولى
تتصاعد كانت معه أحلام غزة نحو غد بدون صهاينة وبدون فقر، و لكن التوانسة كان لهم
رأي آخر.
بعد الخروج من بيروت توجه عرفات وجماعته إلى تونس وهناك أدار سياسيًا
وإعلاميًا معارك الأمة الفلسطينية وهناك أيضاً وجه الصهاينة نيرانهم إلى صدر
المقاومة الفلسطينية من خلال عمليات كبرى مثل "حمام الشط" أو عمليات
صغيرة استهدفت شخصيات كبرى مثل اغتيالهم لأبي جهاد، الذي كان العدو ينظر إليه
بوصفه العقل المدبر للانتفاضة، من تونس راح عرفات يراقب الانتفاضة التي أشعلها
الغزاويون وعندما رأى أن الثمرة قد استوت ذهب ليقطفها من خلال مؤتمر مدريد ثم
الدخول في نفق مظلم من المفاوضات السرية في أوسلو، قطف عرفات الثمرة وعاد ومعه 10
آلاف فلسطيني إلى الأرض المحتلة، وأصبح رئيسًا لما يعرف باسم "السلطة
الفلسطينية" قدوم عرفات ورجاله زاد الأمر تعقيداً، فرجال عرفات محميون
بالثروة والسلطة ولذا راحت أسعار العقارات والمواد الغذائية ترتفع إلى عنان السماء
فمن ذا الذي يستطيع الوقوف أمام رغباتهم المحمومة في شراء أي شيء وكل شيء، من
ناحيتهم تأمل فلسطينيو الداخل الوضع وأطلقوا تعبيرهم الساخر الذي سيلخص المسألة إذ
قالوا "لقد جاء التوانسة" وهو اللقب الذي سيطلقونه على كل فلسطيني كان
يتمتع ببرد "تهامة" عندما كان فلسطينيو الداخل يشكون من قيظ
"نجد" إذن جاء عرفات واستراح قليلاً وفرح كثيراً ثم نظر إلى الأرض
فوجدها ملغومة بتيارات نضجت على نار الانتفاضة المقدسة فهناك الشباب الفقير
المحافظ الذي تصدر الساحة في الانتفاضة وهناك حماس والجهاد المنظمتان اللتان لا
تؤمنان إلا بالرصاص والرصاص وحده "مفتاحاً لباب فلسطين" وهناك نخب
فلسطينية تري أن الخلاص في الاندماج في المجتمع الصهيوني بدلاً من التعلق بأحلام
مستحيلة وهناك معارضون تقليديون لسلطته من ناصريين وماركسيين وقوميين. كل هؤلاء
كانت هناك خطط جاهزة وسهلة التنفيذ لاستيعابهم أو لتطويعهم المشكلة الحقيقية تكمن
في الشباب الفقير المحافظ وفي الجهاد وحماس. فكيف يتم التعامل معهم؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجدر بنا أن نطرح شكلاً من أشكال تعامل عرفات
مع القوى الداخلية وسنضرب مثالاً بحالة "سامي أبو سمهدانة" هذا
الفلسطيني المناضل الجسور المندفع الأنوف الذي لا يحد أبداً بمعايير الشرف عند
المقاتل ويحترم دائماً خصمه وهو رومانسي ثوري بمنظمة فتح يجد مشقة في تحديد موقعه
على رقعة الشطرنج السياسي، فقد حصل على مركز من مراكز السلطة ولكنه دائماً ما يعلن
أنه يحمل بين جنباته روح المعارض، ولد سامي في العام 1961، وتلقى تعليمه في
الجامعة الإسلامية وانضم إلى الشبيبة وشارك في تنظيم نشاطات الانتفاضة وقضى ست
سنوات في الاعتقال الإداري من 1981 إلى 1992، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وقد
أصبح سامي شخصية شعبية لشجاعته والتزامه السياسي، وبعد التوقيع على الاتفاقيات
الفلسطينية الإسرائيلية كلفه التوانسة باحتواء الصقور العدوانية أي بعبارة أوضح
دفع المعارضين لأوسلو إلى قبولها!! وقد عين سامي رئيسًا لفتح في غزة ثم فجأة أقاله
عرفات في عام 1994، وهكذا تم استخدامه كقاطع تيار فبعد أن أنجز مهمة شاقة قد تنسف
مصداقيته تم التخلص منه.
يقول سامي أبو سمهدانة: "عندما وصل عرفات إلى غزة في يوليو 1994،
ذهبنا أنا وفريقي لمقابلته وقد قبلني عرفات ثلاث عشر مرة، وقد أدركت فوراً أن مثل
هذا التعبير عن الصداقة فأل مشئوم، وقلت له ما كان يجول بخاطري، أي أن لنا نحن
أيضاً ما نقوله، وقد ثارت أعصابه وأودعني في زنزانة.
وجاءوا بعد ذلك بساعتين لإحضاري، وقال لي ياسر عرفات إنه أساء فهم ما قلته
له، وأن كل شيء بات على ما يرام، وقد فهمت رسالته "لا يوجد هنا سوى رئيس
واحد"، ولا داعي لأن أطلب أي شرعية، فهمت الرسالة وعدت إلى بيتي في رفح ولم
أتحرك منه طوال أربعة أشهر".
هكذا كانت خطة التوانسة بزعامة عرفات يقربون من لهم مصداقية لدى رجل الشارع
الفلسطيني وعندما يحصلون منه على ما يريدون يطرحونه أرضاً، بعد التخلص من مشاغيين
كثيرين، بدأت الطريقة، كان ولابد من إقامة الديكور الديمقراطي فكانت انتخابات
يناير 1996 التي أفرزت مجلساً تشريعياً موالياً في أغلبه لعرفات ومحروماً في الوقت
ذاته من التدخل في أعمال السلطة، لدرجة أنه أصدر مرة تقريراً رسمياً أدان فيه فساد
ثلاثة من وزراء عرفات وهم ياسر عبدربه وزير الثقافة ونبيل شعث وزير التخطيط
والتعاون الدوليين وسليم الطرفي وزير الشئون الاجتماعية وقال التقرير ما نصه:
"تؤكد اللجنة وجود صندوق أسود تنتقل إليه الأموال الوطنية إلى وزارة التخطيط وهذا الصندوق
الأسود يخضع مباشرة لإشراف الوزير والمدير العام بالوزارة". وعلى أثر نشر
التقرير قدم مجلس الوزراء استقالته الجماعية إلى ياسر عرفات الذي علقها فترة من
الوقت ثم رفض قبولها في النهاية ليظل الوضع على ما هو عليه.
إذن تم ترويض المشاغبين وإقامة الديكور الديمقراطي وحان الآن موعد مواجهة
المشكلة "الأم" نعني الشباب الفقير المحافظ إضافة إلى حماس والجهاد.
صعب جداً أن تقنع الثوري بالتنازل عن بندقيته أما المستحيل فهو إقناعه
بتوجيه بندقيته إلى صدر رفيقه هذا الصعب وذلك المستحيل استطاعهما ياسر عرفات بخطة
جهنمية ربما لم ترد على خاطر إبليس شخصياً.
والموضوع من بدايته أن الشباب الذين فجروا انتفاضة 1987 وجدوا أنفسهم خارج
الساحة لأن المفاوضات مع الصهاينة وكذا إقامة السلطة الفلسطينية لم تترك لهم
مكاناً في صدارة الأحداث، من ناحيتهم فإن التوانسة يريدون الانفراد بالسلطة ولضمان
ذلك سعوا بكل طريقة إلى كبح تطلعات الشباب لأنها في الحقيقة تتجاوز إلي حد كبير
مضمون اتفاقيات التوانسة مع الصهاينة.
رأى التوانسة أن إشراكهم للشباب في ممارسة احتكار القوة الشرعية هو الوسيلة
الفعالة لتحييدهم، فإقامة جهاز أمني متشعب يضم حوالي خمسين ألف فرد يضمن إعادة
تأهيل جزء من شباب الانتفاضة لصهرهم في بوتقة السلطة، وقد وضح أن إلحاق الشباب
بقوات النظام يشكل عاملاً للرقابة أكثر فعالية من النضال السياسي أثناء الانتفاضة،
وهو امتداد لظاهرة تغيير مجرى الطاقات، فالمجندون يتقمصون مصالح السلطة حتى وإن
كانوا في مراتبها الأدنى، وقد اجتذبت مختلف أجهزة الشرطة الشباب التي تشرب منطق
الحفاظ على النظام وشارك في قمع الإسلاميين، وهكذا دفع التوانسة شباب الانتفاضة
لكي يلعبوا دور الساهر على رعاية أمن إسرائيل!!
________________________
نشرت
بجريدة العربى – 3 يونيو 2001
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق