الأربعاء، 19 يوليو 1995

بهاء طاهر: مـــا أخبــــارهــا ضـــــحى؟!







قبل عشر سنوات من الآن أفرج بهاء طاهر عن دمه فتدفق علينا صافياً، أخضر كدماء الشهداء وكعادة الأدباء راوغنا وأسمى دمه "رواية" وأسمى روايته "قالت ضحى" ،والأسبوع الماضي اتم بهاء عامه الستين وماتزال ضحى تشغله وتشغلنا فمن ضحى؟! 

"ولكل وجهة هو موليها" ولكل ضحى هو ذبيحها نعيش قبلها موتى يلفنا صقيع الوحدة نبعثر ليالينا على مقاعد المقاهي الفاسدة الهواء، يمتصنا وجع الغربة، نحاول الرجوع لأرحام أمهاتنا نحتمي بها من وقدات نهارتنا الجهنمية.. يصبح العدم غولاً يفترسنا.. 

وساعتها وفي تمام اليأس ينظرنا كبير ملائكة الرحمة تأخذه الشفقة بنا فيعقد لأجلنا إتفاقاً غير مسبوق مع كبير أبالسة الشر فيرمينا "بالبنية" ضحى ..

فجأة تنتصب أمامنا نخلة مغسولة ولامعة وطازجة "كأن الله فرغ لتوه من خلقها" "نحسب الحسبة" ندرك أنها البنت "الصح" في الزمان الغلط ومع ذلك نندفع نحوها وليذهب كل شىء إلى الجحيم، تلتقي عيوننا بعيني ضحى، يتجلى ومض إلهي يحذرنا: ستحرقون، نضع أصابعنا في آذاننا، ما ضحى إلا محرقة لقلوبكم، نستغشى ثيابنا .. انها ضحى البنت الصح فكيف نتركها؟؟ 

تهز ضحى كتفيها بدلال لقد رضينا بالصفقة نحبها، وتحرقنا، تنظرنا ضحى تبدل ملامحنا، تغير ايقاعات اصواتنا، تخلقنا ثانية، ونعترف بين يديها .. كان العالم قبلك بلونين اثنين "أبيض وأسود" معك نرى قوس قزح للمرة الأولى.. 

وتعطينا ضحى الفرح النادر "لن يتكرر ثانية؟!"، وتهبنا الأمان دائماً، ضحى بطعم الأمان ترمي حضورها على أشيائنا فنعيد معها البحث عن معنى جديد "لأوف" التي تطلقها فيروز فتكهرب الكون وتقنعنا ضحى أن نجاة غنت من أجلنا "الحب معاك يا روح قلبي خلقني من تاني والحب معاك بجناح وردي ع السما مشاني"، نشمخ بضحى نشكر الله كثيراً أن جعلها لنا، تنام كف ضحى العصفورية في يدنا ويرتفع نشيدنا 

سامحت بيك أيامي 

صالحت بيك الزمن 

ونسيت معاك آلامي .. ونسيت معاك الشجن 

اللي شفته قبل ما تشوفك عينيا 

عمر ضايع يحسبوه ازاى عليّ 

يصبح اسمها وردنا الليلي، نردده فيسكننا حزن نبيل وكأننا نقرأ سورة مريم، نفتح لضحى بوابتنا كلها نهبها القلب كله .. العمر كله.. والعشق حتى منتهاه.. 

ننتمي لمزاج صباحها ومسائها، نقدس تراب قدميها نحدد بها جهات الصواب والخطأ وخانات الأشقاء والأعداء، تصبح ضحى آباءنا الذين ذهبوا مبكراً وأمهاتنا اللاتي طردنا من هناءه أحضانهن، تصبح سماؤنا وأرضنا ونيلنا وعشبنا.. ولما لا؟ وقد أنفقنا العمر كله بانتظارها.. ولما لا؟ وقد حاربنا لكى نظل أبكاراً فتخشنا ضحى.. ومثلما انتصبت أمامنا فجأة نخلة من حنان وقسوة ..

 فجأة تنفض يديها منا وكأننا تراب الشوارع رخيص ومهان، نصرخ.. نبكي.. ننزف.. نأخذ في العواء لماذا يا ضحى، يا مقدسة، يا هبة الرب من أين جاءتك روح "ست" ؟! 

الم تعدينا أن تكوني "إيزيس" وتلملمي أشلاءنا؟! لماذا يا ضحى.. وقد وهبناك العمر كله وأوقفنا عليك دماءنا وكان فيك قيامنا وركعونا وسجودنا، لماذا تغادرينا فتعمى أبصارنا وبصائرنا، ترتدي ضحى الصمت.. ويطن السكوت كأنه ذباب المقابر.. يهرع لنا الأصدقاء من بقى لنا منهم، الم تأخذنا ضحى إلى عالمها هي؟! يشيرون علينا بالنسيان، هل يجدي مع العشق النصح؟! 

نصرخ في وجوههم.. كيف ننسى من اتخذت من ضلوعنا سريراً؟! 

نحاول العودة إلى مقاهينا فاسدة الهواء، تشجب ضحى.. نتزوج.. ننجب أولاداً، بين الحين والآخر تشاغبنا ذكراها فننادي زوجاتنا باسمها، ثم نعتذر، تخرج علينا من بيت شعر، أنين ناى.. مشهد سينمائي.. فنوبخ قلوبنا التي ترتجف أن ذكرت ضحى بخير أو بشر. 

الست واعدتني يا قلب أني 

إذا تبت عن ليلى تتوب 

فها أنا تائب عن حب ليلى 

فمالك كلما ذكرت تذوب 



ونصرخ لماذا تظل ضحى في أصفى قطرة من دمنا مقيمة؟! وكلما حرقنا بعادها هرعنا إلى جنات خطاباتها وخصلة من شعرها كانت أهدتها لنا وبقايا وردة محنطة في قلب كتاب نضعها فوق قلوبنا لتسكن.. وعندما تهاجمنا ذكرياتها دفعة واحدة نصنع ما صنعت يا عم بهاء ننزف ونسمى نزفنا رواية ونسمي روايتنا "قالت ضحى" عم بهاء ولقلبك المجد ان عشق ضحى، ولقلمك العافية أن خلدها ولنا نحن قتلاها الصبر فقد رضينا "بالصفقة" أن نحبها وتحرقنا. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة الأحرار في 18 يوليو 1995

هناك 4 تعليقات:

  1. وكأنك تلخص حكاية العاشقين الحزينة في مقالك عن بهائك البهي دوماً، فمثلما أبدع بهائنا في روايته الجميلة أبدع كاتبنا في قراءته وتأويله ، لتجسد لنا تلك العلاقة الجدلية بين الشيخ والمريد، فلا شيخ بلا مريدين ولا مريدين بدون شيخ طريقة..

    ان كنت قد استمتعت بقراءتي للرواية الا ان استمتاعي بكتابتك عنها لا يقل ابداً وان كان يزيد، فلغة المقال الفريدة التحمت بعمق احساس كاتبها لتصهر لنا كتابة بنكهة الصدق الخالص والجمال البهى.

    واخيراً سلاماً لك ولبهاء البهي دوماً

    ردحذف
  2. الشكر يجب توجيهه للعم بهاء فهو صاحب ضحى التى فرض محبيتها على كل أبناء جيلى .. والشكر لك لتفاعلك مع ما كتبته منذ زمن مضى

    ردحذف
  3. حولتَ كتاب الأستاذ بهاء طاهر من رواية الى رحلة صوفية في عشق ضحى
    وكأني اقرأ غزلاً .. لا نقداً أو تعليقاً أو تلخيصاً لكتاب
    أعترف أني حتى ابدأ بكتابة تلك السطور استغرقت في قراءة المقال لأكثر من مرة
    فكل سطر هي حالة بحد ذاتها
    وكل كلمة تحمل بين طياتها قصيدة
    لم اقرأ رواية (قالت ضحى ) من قبل ..وأصدقك القول إن قلت أني لن اقرأها أبداً
    لأني الآن أخشى من تأثير إبداعك عليها.
    تحياتي أستاذ حمدي

    ردحذف
  4. العزيزة شيري

    انصحك بقراءة الرواية فهي من روائع الأديب الكبير بهاء طاهر، وأشكر لك رأيك الكريم.

    ردحذف