في عز متابعتي
المحمومة لأخبار حادث سقوط أو إسقاط طائرتنا في المحيط الأمريكي (كل شىء صار
أمريكيًا) توقفت فجأة وسألت نفسي.
لماذا أنا حزين
هكذا؟!
أنا لا أعرف
واحدًا من شهداء الطائرة ( سنلتقي يوم القيامة إن شاء الله) ثم إنني لا أحب من
أمريكا سوى أفلامها السينمائية، بالإضافة إلى أن معرفتي بالطيران والطائرات
والمطارات هي كمعرفة السيد أحمد عدوية بقصائد المتنبي.
إذن لماذا أنا
حزين هكذا؟
بعد التفتيش في
دهاليز نفسي اكتشفت أنني لا حزين ولا حاجة وأن ما أعانيه هو الشعور بالغيظ المحض
الصافي، وأن ما أظنه حزناً هو في حقيقته ليس أكثر من تكشيرة ولدتُ وهي محفورة في
جبهتي.
عدت أسأل نفسي
ثانية لماذا الغيظ ومن الذي أغاظني؟!
نعم قهرني الغيظ
لأن الحكومة حرمتني من الموهبة الوحيدة التي أتمتع بها وهي موهبة الحزن.
كنت أريد أن أحزن
على شىء طازج له قيمة بدلا من تلك الأحزان التي أكدسها في قلبي وكلها أشياء معلبة وتافهة.
أشعلت الحكومة
نيران غيظي لأنها جعلتني منذ ثلاثة أيام وأنا مثل الأطرش في الزفة، وأنا مثل زوج
الخائنة آخر من يعلم ، ثلاثة أيام كنت فيها مشغولا بفداحة اعترافات الكاتبة الشابة
التي جاء فيها أنها طلقت مرتين ولولا مساعدات أصدقائها الرجال المادية لنامت على
الرصيف هكذا قالت:
ثلاثة أيام قضيتها
في مطاردة لقمة العيش الخارجة من طين التفاهة ووحل الاسترخاص.
ثلاثة أيام قضيتها
دون أن أذرف ولو دمعة واحدة حارة ونظيفة على الشهداء وعقاباً لهذه الحكومة التي
تضرب وتحرم البكاء قررت مقاضاتها أمام أعدل الحاكمين الذي لا يغفل ولا ينام الله
جل جلاله ( ليس شكًا في عدالة القضاء المصري النزيه وإنما هروباً من مصاريف
المحاماة).
لماذا لم تخبرني
الحكومة بأن الطائرة كانت مزينة بورود جيشنا فتوفر على نفسها مواجهة قضية ستخسرها
حتمًا؟
لو أخبرتني ما كنت
سأفعل شيئاً غير الحزن وإطلاق دفعة من الشتائم العشوائية أوجهها من فوق المقهى ضد
العيشة واللي عايشينها.
ثم أنصرف إلى بيتي
محتميًا بشعر المتنبي :" بما التعلل
لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن".
لو اختبرتني الحكومة ما كنت سأسعي لمقابلة رئيس
حزب وأطالبه بإصدار بيان يرثي فيه شهداء الطائرة ذاكرًا الاسم والرتبة، كما أنني
لست مجنونًا حتى أطلب من عضو مجلس شعب تقديم طلب إحاطة نعرف من خلاله اسم ومنصب
ذلك "الفتك" الذي وضع كل هذه الورود في طائرة واحدة لماذا لم تخبرني
الحكومة لماذا جعلتني أبعثر ما بقى من كرامتي الصحفية وأسأل سائق التاكسي ماعندكش
أخبار والنبي يا عم عن الطيارة.
إن الحكومة ومع
عراقة تاريخها في الكذب لم تتعلم بعد حبك الأكاذيب فهي لم تذكر في بياناتها الأولى
أن من بين شهداء الطائرة وفداً عسكرياً ، ولكن ما إن فضحتها الـ C.N.N. حتى سارعت
بالقول بأن ثمة عسكريين كانوا على متن الطائرة وزعمت أنهم جميعًا من أصحاب الرتب
الصغيرة أمام وصف الشهداء، بأنهم من الرتب الصغيرة وجدت نفسي مدفوعًا لأن أخرج من
فمي وأنفي صوتًا غريبًا، فعلى افتراض أنهم من أصحاب الرتب الصغيرة فحتمًا هم من
الشباب الواعد بمستقبل مشرق وإلا ما أرسلتهم الحكومة إلى أمريكا ليتدربوا هناك، ثم
ألم تقسم الحكومة بعد موقعة استشهاد البطل الشهيد أحمد بدوي أنها لن تضع وفدًا
عسكريًا في طائرة واحدة؟
هل تخافني الحكومة لدرجة إخفاء خبر استشهاد أهلي؟
كيف تخافني وأنا الذي لا أهش ولا أنش؟
كيف تخافني وأنا الساكت الصامت الأخرس القابع القانع الراضي الحامد لله
دائمًا إذ لا يحمد على حكومة سواه.
يا أيتها الحكومة، لقد بعثرتِ الملايين على زفة المبايعة وسكتُ وحكمتينا
بالطوارئ وسكتُ وزورتِ الانتخابات وسكتُ وخنقتينا بالدخان وسكتُ وسلطتِ علينا
مذيعات التليفزيون وسكتُ وقتلتِ أولادنا تحت أسوار المدارس وسكتُ وأغلقتِ جرائدنا
وسكتُ وبعتِ مصانعنا وسكتُ وأغلقت أبواب الرزق في وجوهنا وسكت إذن احتمالات غضبي
ضعيفة جداً، بل إنها ليست واردة في الحسبان أصلاً.
فلماذا لم تواصلي غطرستك وتأمرين متحدثك الرسمي أن يخرج علينا قائلاً:
"اسمع يا ابني أنت وهو فيه طيارة وقعت في البحر وكل اللي عليها ماتوا وكان من
بينهم حبة ضباط هم فلان وفلان وفلان ولكن مش مشكلة إحنا عندنا غيرهم كتير، عموماً
إحنا هنصرف لأهاليهم تعويضات معتبرة وانتم عارفين إن العمر واحد والرب واحد
والإنسان مهما طال به العمر في الآخر هيموت" لو قال متحدثكم الرسمي هذه
الكلمات لشكرناك ولكن أن تناصبيني العداء لدرجة أن تحرميني من البكاء على الورد
الصابح الذي قصف إهمالك عمره فهذا والله ما لن أسكت عليه أبداً.
إذ إنني بعد أن أقاضيك أمام الذي لا يغفل ولا ينام سأتفرغ لفضح أعمالك
السوداء أمام عمال المقاهي وسائقي الأتوبيسات وباعة الجرائد وزبائن عربات الفول
وحراس المراحيض العامة وباعة المناديل والدبابيس والأمشاط وماسحي الأحذية حتي
العيال الصيع ضريبة البانجو سأجمع كل هؤلاء وسأقول لهم إن الحكومة استغفلتنا
ولبستنا السلطانية ثلاثة أيام كاملة ولم تجعلنا نحزن كما يجب على ورد قطف قبل
أوانه.
_________________________
نشرت بجريدة العربي ــ 11 نوفمبر 1999