المعجزة لغة: هي الأمر النادر الذي يعجز البشر أن يأتوا بمثله، والتاء في معجزة ليست للتأنيث، وإنما هي للمبالغة.
والمعجزة اصطلاحًا: أمر خارق للعادة يظهره الله على يد مدعى النبوة تصديقا له فى دعواه مقرونة بالتحدي مع عدم المعارضة.
فهل ـ وفق هذين التعريفين اللغوي والاصطلاحي ـ تعد النهضة التي نهضتها كوريا الجنوبية معجزة؟
ولكي نجيب لابد أولًا أن نذكر شيئًا عن ماضي كوريا.
كانت كوريا الجنوبية قد خرجت من قبضة الاحتلال الياباني لتدخل في حرب شعواء مع شقيقتها كوريا الشمالية، بلغ عدد ضحايا تلك الحرب المجنونة ما يزيد على الأربعة ملايين ضحية، غير ملايين المصابين بعاهات مقعدة.
بلد بهذه الحالة لا يمكن أن تأمل في اقتصادها أدنى درجات الأمل، ففي مطلع الستينيات وبعد سنوات من انتهاء الحرب كان الدخل السنوي للكوري الجنوبي ليس أكثر من 82 دولارا.
لك أن تعلم أن الجنيه المصري في تلك الأيام كان يساوي دولارين ونصف الدولار !!
وهذا يعني أن دخل الكوري الشهري كان أقل من جنيهين مصريين!
هذا التردي جعل عباقرة الاقتصاد خاصة الأمريكان منهم يقسمون على أن: " كوريا هوة بلا قرار".
يعني لا يمكن إصلاح أحوالها.
الأمة الكورية الجنوبية كان لها رأي آخر، وهذا ما يقصه بالتفصيل كتاب "السامريون الأشرار" لمؤلفه الكوري "هاـ جوون تشانج"، وقد ترجمه إلى العربية المترجم الأستاذ أحمد الشافعي ونشرته دار نشر "الكتب خان.
العنوان مأخوذ من قصة إنجيلية يقول ملخصها: إن يهوديًا كان مسافرًا على طريق موحش، وقع في يد قطاع الطرق الذين سلبوه ما يملك وضربوه حتى تركوه بين الحياة والموت.
بالصدفة مر كاهن فخاف من تقديم المساعدة للمضروب الذي ينزف، ثم مر رجل دين من شريعة النازف، فتركه لنزيفه، ثم مر سامري، وكان بين السامريين واليهود ما صنع الحداد، لكن السامري الصالح داوى جراح اليهودي، وأخذه إلى فندق وأسكنه في مكان مريح.
وفي صباح اليوم التالي أخرج قطعتين من الفضة وأعطاهما لصاحب الفندق وقال له: "اعتني به وإذا صرفت عليه أكثر فأضفها على حسابي وعندما أعود سأدفع لك المبلغ".
السامريون الذين في الكتاب هم الأشرار الذين يقنعون النازف أنهم يقدمون له العلاج بينما هم يقطعون ما بقي له من شرايين.
السامريون هم رباعي مخرّب مكوّن من الدول الكبري بقيادة أمريكا ومعها بريطانيا ثم صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.
هذا الرباعي القاتل وقف يتلمظ منتظرًا افتراس ما بقي من كوريا ولكن حاكم كوريا "بارك" كان لهم بالمرصاد.
بارك كان جنرالًا يراهن على أن الجذر الكوري ما يزال سليمًا عفيًا رغم آيات الفقر المدقع والخراب الذي عم كل شيء.
أيامها في العام 1961 كانت شركة سامسونج الكورية لا تعمل إلا في مجال تصدير السمك والفواكه، وكان الحديث عن أي تقدم تكنولوجي ضربًا من الخرافات أو المستحيل، ولكن الجنرال بارك فعلها وقرر.
1ـ عدم استيراد أي شيء إلا المكونات الصناعية.
2ـ غلق البلد فى وجوه المستثمرين أو إجبارهم على الاستثمار وفق خريطة الاستثمار الكوري.
3ـ الفضح الاجتماعي الذي يقترب من حدود النبذ بل والتخوين لكل من يضبط مستوردًا أو مهربًا لأي بضاعة أجنبية، خاصة البضائع المترفة مثل السجائر.
4ـ فرض جمارك وضرائب جنونية بل تعجيزية على أي سلعة لا تستوردها الدولة.
5ـ غض الطرف عن القرصنة الكورية تجاه الآلات الحديثة التي بدأ الكوريون في فكها ثم إعادة تصنيعها ولو بطريقة بدائية.
6ـ غلق الأذان تمامًا في وجه نصائح الرباعي المخرّب، الذين كانوا يرون حتمية فتح الأسواق أمام التجارة الحرة وهو يعلمون يقنيًا أن أي سلعة كورية لن تصمد أمام سلعهم وستنهار ولن تقوى على تطوير نفسها ومن ثمّ دخول حلبة المنافسة.
إياك أخي القارئ الكريم أن تظن أن رجلًا مثل حسني مبارك عندما باع مصانعنا ومؤسساتنا كان يبيعها من تلقاء نفسه أو لأنه رجل شرير، لقد باعها تنفيذًا لنصائح الرباعي القاتل الذي وسوس له بأن لا نهضة لمصر سوى بالتخلي عن قطاعها العام وفتح أسواقها للتجارة الحرة.
وها قد باعت مصر مصانعها وفتحت أسواقها فأين اقتصادها؟
خطة الجنرال بارك لا تقدرها حق قدرها إلا بقراءة الكتاب من الغلاف إلى الغلاف، وذلك لأن مؤلفه وهو اقتصادي كوري كبير سرد وقائع النهضة الكورية من خلال سيرته الذاتية، كأنه جلال أمين في سفره الرائع "ماذا حدث للمصريين؟".
مؤلفنا يقول: إن الأمريكان والانجليز وصلوا إلى ما وصلوا إليه من خلال حماية صناعتهم وغلق أسواقهم، ولكن عندما وصلوا إلى القمة كسروا السلم لكي لا يصعد خلفهم أحد وراحوا يزينون للدول الفقيرة شريعة الاقتصاد الحر بوصفها الدين الجديد للإنسانية !!
مؤلفنا من واقع كونه رجل اقتصاد عالمي تصله أحدث التقارير وأخطرها يؤكد أن جيوشًا من الاقتصاديين والصحفيين والكُتّاب والإعلاميين، ليس لهم من شاغل سوى الترويج لدين الإنسانية الجديد!
وقف بارك أمام شعبه وتعهد لهم بأنه في العام 1981 سيصبح دخل الفرد ألف دولار.
هل تذكر أننا بدأنا الكلام بـ 82 دولارًا ؟
لقد فعلها بارك ووصل الدخل إلى 1647 دولارًا قبل الميعاد بثلاث سنوات.
أين المعجزة في ذلك؟
ليس ثمة معجزات، قل هو الإنجاز وليس الإعجاز.
أراد بارك أن يحكم إلى الأبد خاصة بعد النجاح الأسطوري الذي حققه ولكن رئيس مخابراته تولى اغتياله، لتدخل البلاد في دوامة من الصراعات حول الديمقراطية دفع تكاليفها طلاب الجامعة الذين كانوا يتظاهرون بيد ويعملون بالثانية.
سامسونج تركت زفارة السمك ودخلت عالم الالكترونيات، وكان هذا من ضروب الخيال، فحتى العام 1977 لم تكن سامسونج قد قامت بتصنيع تليفزيون ملون واحد، لكن بعدها بأقل من عشر سنوات أصبحت سامسونج أيقونة الالكترونيات على مستوى العالم.
يقول مؤلف الكتاب وهو من مواليد العام 1963 إنه عاش في حياته طفرة اقتصادية حققها البريطاني بعد مائتي عام من العمل وحققها الأمريكي بعد مائة وخمسين عامًا من العمل !!
وفي متن الكتاب وليس في هامشه يذكر المؤلف قصة شديدة الدلالة، عن دولة خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي أشلاء دولة أو "أشباه دولة" كما وصف أحدهم دولته، الدولة المقصودة بدأت في تصنيع سيارة، وهي التي لا تستطيع ضمان قوت شعبها ولو لشهر واحد، الشعب والحكومة دعما صناعة السيارة الوطنية على مدار سنوات ثم في العام 1959 قررت تلك الدولة أن تغزو الأسواق الأمريكية بسيارتها، طبعًا كانت السيارة فضيحة وأقرب إلى العربة الكارو المصرية، الأمريكان أوسعوا السيارة سخرية وأعادوها إلى بلد منشأها.
بلد المنشأ حزن الحزن كله وانقسم الشعب إلى فريقين، الأغلبية تقول: مالنا والصناعة ولنوقف فورًا هذا الخيال المترف.
وأقلية بقيادة الحكومة تصمم على المضي في تصنيع السيارات وتطويرها.
برشاقة سيناريست مخضرم يكشف المؤلف عن أن الدولة المنهارة هي اليابان وأن السيارة هي تويوتا التي أصبحت منذ منتصف السبعينيات رمزًا للجودة والإبهار.
يسأل المؤلف كيف حققت اليابان إنجازها ؟
يجيب: بحماية صناعتها الوطنية وبالصبر على تطويرها وتحديثها وبطرد غيلان وضباع السوق، لقد طردت اليابان شركة جينرال موتورز لكي تحمى سيارتها التويوتا وتفسح لها مجالًا في السوق المحلي.
وبالعودة إلى كوريا نجد أن متوسط دخل الكوري حسب إحصائيات 2013 يبلغ 24000 دولار.
وبالنظر إلى مصرنا التي كانت تتفوق على كوريا بمئات الدرجات في كل شيء، نجدها قد ظلت تستمع لترهات الحكام ولتعليمات الرباعي المخرّب حتى قال جهازها المركزي للتعبئة والإحصاء في العام الماضي إن متوسط الدخل السنوي للفرد على مستوى الجمهورية 7 آلاف جنيه، ويرتفع متوسط الدخل في الحضر إلى 8 آلاف جنيه، وفي المقابل ينخفض في الريف إلى 5.8 ألف جنيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة المقال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق