الخميس، 2 يونيو 2022

عن حسام فخر ووردته الغائبة

 


لا ينشر القاص الكبير الأستاذ حسام فخر، إلا إذا فاضت كأسه، ولم يعد بها متسع لقطرة إضافية، وظني أنه يدرك - وإن لم يصرح أو حتى يلمح - أن كتاباته مثل عصا موسى، عندما تنزل إلى ساحة التحدي ستلقف مَا يَأْفِكُونَ.

حسام ليس مشغولًا بتهليل ناقد، أو بالسعي المحموم خلف جائزة، هو مشغول دائمًا بالقبض على جملة واحدة صادقة، ومنها ينطلق ليحكي ويقص نبأ الأحياء والراحلين.

حسام مؤمن جدا بتلك النصيحة الخالدة «اكتب عما تعرف»، وهو يعرف الكثير، ولذا لا ترى عرقه وهو يحفر الصخر بأظافره بحثًا عن فكرة.

لكلٍ وجهة هو موليها، ووجهة «حسام» هي الصرامة، هو يحدد -بدقة-  زمان ومكان قصته، ويشحن هواء القصة بعبق معانيها العميقة البعيدة، ثم لا ينسى الظل والنور، ولا يغفل عن الربى والقيعان، تقرأ القصة من قصصه فتقبض - بيديك الاثنتين-  على معنى الكتابة الخالصة لوجه الفن، وتعرف الفارق بينها وبين الشعوذة التي يحتال بها بعضهم على جماهير القراء تساندهم فى شعوذتهم طائفة من النقاد الذين لا يرقبون فى قارئ إِلّا وَلَا ذِمَّة.

فى مجموعته الجديدة «بالصدفة والمواعيد» الصادرة عن دار العين، يؤكد حسام خلود بيت المتنبي" لِكُلِّ اِمرِئٍ مِن دَهرِهِ ما تَعَوَّدا".

 فعادات حسام لم تتبدل ولم تتحول، إنه يكتب عما يعرف، ولذا فهو يكتب عن عالمه الخاص، ولكنه بقدرة الفن الحقيقي يورط قارئه في دهاليز هذا العالم، فلا يتأفف القارئ من كاتب يكتب عن عالمه الخاص، بل يجد لذة المشاركة في الوجع الإنساني، وفى حرقة الفقد ومرارة الهجران، فنصبح كلنا حسام فخر، أو كأنه صوتنا الصارخ فى البرية.

منذ ضربة البداية، يعلن الكاتب الكبير هوية مجموعته، مستعينًا بكلمة للكاتب الأمريكي بول أوستر "القصص لا تحدث إلا لمن يعرف كيف يحكيها".

هل الأمر كما قال السيد أوستر؟

كلنا تحدث لنا القصص، وكلنا تقع القصص على قلوبنا، ولكن لسنا فى الحكاية سواء، فليت السيد أوستر قال: "الذين يعرفون كيف يحكون هم فقط الذين تحدث لهم القصص".

قصص حسام مرت علينا جميعا، فلماذا لم نكتبها؟

لأننا ببساطة لا نعرف كيف نحكى الحكاية.




حسام يعرف كيف يحكى الحكاية، ولذا يجعل من حادثة عابرة قصة تهز أعماقك وتنبهك إلى حقيقة الحياة التي هى  «الوعد والمكتوب» و«المقدر والنصيب»، أو «بالصدفة والمواعيد»، ففي قصة» عربية التين الشوكي»، مفتاح سحري نلج - بفضله - إلى أعماق المجموعة ومعناها البعيد.

فى قصة التين الشوكي، نعيش لحظات مع أسرة، من أب وأم وولدين، لا يشترون الخبز الفينو، إلا من مخبز بعينه، يقع فى ضاحية مصر الجديدة، هنا تبز موهبة حسام فى تقديم تفاصيل جد صغيرة، لكنها مؤثرة، فلا يفوته وصف رائحة الفينو الخارج توا من نيران الفرن، وكيف كان بطل القصة وشقيقه يسارعان بالتهام أكبر عدد ممكن من أصابع الفينو، وذات ليلة، لم يذهب إلى المخبز سوى بطل القصة ووالده، فرح بطل القصة لأنه سيلتهم بمفرده نصيبه ونصيب شقيقه من أرغفة الفينو، فجأة وقعت عين الأب على بائع تين شوكي يقف مع طفله ليبيعا ثمار التين للعابرين، أوقف الأب سيارته وتوجه نحو بائع التين، وعندما عاد كانت أنفاسه متهدجة وصوته مختنقا، ثم بنبرة أسى قال لولده: الليلة لن نذهب إلى المخبز.

كانت مفاجأة تعيسة للصبى، وعندما سأل أباه عن السبب، قال الأب: لقد قدمت لبائع التين كل ما معي من نقود، زكاة عن الصدفة وضربة الحظ.

كان من الوارد أن أكون أنا مكان البائع وتكون أنت مكان ولده، ولكنها الصدفة.

من باب الصدفة يمكننا الدخول إلى المجموعة ومعايشة كل قصصها، فتلك الصدفة وتلك المواعيد هى الخيط الذى يربط حبات المجموعة، ويلملم أجزاءها فتصبح كيانا واحدا وإن تعددت وجوهه.

الصدفة نفسها ستلعب دورا محوريا فى قصة "مع الضوء المشع"

كان بطل القصة - الذى هو الكاتب نفسه - مع والده والأسرة يعيشون فى الاتحاد السوفيتي، ولأن الوالد هو اللواء أحمد فخر، أسطورة سلاح المدفعية المصري، والأم هى شقيقة شاعر الشعب صلاح جاهين، فقد تعامل السوفييت مع الأسرة تعاملا متميزا.

زار الأسرة شاعر روسيا الأكبر ،يفجينى يوفتيشنكو، أنشد الشاعر - تلبية لطلب الأب - شيئا من شعره، وكان بطل القصة يعامل الضيف الكبير معاملة رسمية، إلا أن الشاعر طلب منه أن يناديه بـ«دياديا يفجينى»، أي  عمى يفجينى.

ثم مرت السنون، ومات الأب والأم، وتفرقت الأسرة، ومات شاعر السوفييت فى مستشفى أمريكي!

وعرف البطل بموت الشاعر من جريدة أمريكية، فتذكر ما كان بينه وبين الشاعر، فقرر إرسال ورد، تعبيرا عن مواساته، ولكنه اصطدم بتقليد روسي راسخ، يقضى بأن يكون عدد الأزهار المقدمة فى المناسبات السعيدة فرديا وعدد أزهار الحزن زوجيا.

قال البطل: «اخترت أن أبعث بأربع وردات حمراء قضيت وقتا طويلا ومُضنيا أملى على عاملة تلقّى الطلبات رسالة مطولة تكتب على البطاقة المرفقة دياديا يفجيني، إليك فى رحلتك الأخيرة أربع وردات.

 واحدة لذكرى لقائنا الوحيد.

 وواحدة لتربيتك الحنون على كتفي.

 وواحدة للنور الساطع المٌشع منم وجهك الوسيم.

 والأخيرة للشعر الجميل الذى كان يمكنك أن تكتب".

وللحق فقد خان «حسام» منهجه فى تلك القصة، فقد كان يجب عليه كسر التقليد الروسي بأن يرسل خمس أزهار، ولتكون الخامسة هدية زكاة عن الصدفة والمواعيد التي جمعته بشاعر كبير، كما فعلها أبوه من قبل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة صوت الأمة / السبت 28 مايو 2022

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق