توقفنا في الجزء الأول من مقالنا عند تلك اللحظة التي أصبح فيها الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني عدوًا لمن كان صديقه، أعني الشاعر الكبير عبد الرحمن شكري.
الذين تناولوا العلاقة بين الرجلين وكيف دمر المازني صديقه لم يذكروا أسبابًا واضحة محددة، فليس بين أيدينا سوى أن نعمل قلوبنا وعقولنا لنحصل على تفسير لذلك الانقلاب الذي سيدفع الأدب العربي ثمنه.
مر بك أن شكري كان المُنظّر الأول لمدرسة الديوان، فكيف قاد هو بقلمه الانقلاب الأول على ضلع المدرسة الثاني، نعنى المازني؟
الكشف عن السرقات
هل كان شكري بريئًا يصدق مبادئ المدرسة وشعاراتها، فرأى أن صديقيه المازني والعقاد يستتران بشعارات المدرسة لكي ينفذا خطة تخصهما هما فقط بعيدًا عن خدمة الأدب وإعلاء شأن المدرسة؟
هل كان شكري قد شعر بسحب البساط من تحت قدميه فرأي هدم المعبد على رؤوس ساكنيه؟
هل وقع بين المازني وشكري شيء خاص جدًا، سكتا عنه ولم يخوضا فيه كان هو السبب الحقيقي الذي فجّر العداوة بين الرجلين؟
لقد صحت القاهرة في يوم من أيام العام 1917 لتقرأ اتهام شكري للمازني بالسرقة.
هز الاتهام أركان دولة الأدب العربي في مشرق الأمة ومغربها، فالجميع يعلم ما بين الرجلين من محبة واحترام، والجميع يعلم أنهما يتمتعان بثقافة عريضة عميقة لا تسمح لهما بأن يسرقا شيئًا من أي أحد، فكيف تجرأ شكري على رمي صديقه الصدوق باقتراف هذه الجريمة البشعة؟
قال شكري في مقدمة ديوانه الخامس:" لقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها "الشاعر المحتضر" البائية التي نشرت في عكاظ واتضح لنا أنها مأخوذة من قصيدة "أودني" للشاعر شيلي، كما لفتني أديب آخر إلى قصيدة المازني التي عنوانها "قبر الشعر" وهي منقولة عن هيني الشاعر الألماني، ولفتني آخر إلى قصيدة المازني "فتى في سباق الموت" وهي للشاعر هود الإنجليزي، ولفتني أيضا أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها "الوردة الرسول" وهي للشاعر ولز الإنجليزي وأشياء أخرى ليس هذا مكان إظهارها، وقرأت له في مجلة البيان مقالة تناسخ الأرواح وهي من أولها إلى آخرها من مجلة السبكتانور لادسون الكاتب الإنجليزي، ومن مقالاته في ابن الرومي التي نشرت في البيان قطع طويلة عن العظماء وهي مأخوذة من كتاب شكسبير والعظماء تأليف فيكتور هيجو ومن مقالات كارليل الأدبية، ولو كنت أعلم أن المازني تعمد أخذها، لقلت: إنه خان أصحاب هذه الأعمال، ولكني لا أصدق أنه تعمد أخذها، ولا أظن أن أحدًا يجهل مدحي المازني وإيثاري إياه وإهدائي الجزء الثالث من ديواني إليه وصداقتي له ولكن كل هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرت، ومعاتبته في عمله لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه حتى يداوي ما فعل ويرد كل شيء إلى أصله، وليس الاطلاع قاصراً على رجل دون رجل حتى يأمن المرء ظهور هذه الأشياء، ولسنا في قرية من النمل حتى تختفي".
انتهى كلام شكري، وهو ليس اتهامًا كغيره، إنه قاصمة الظهر وقد جاءت من صديق قديم عريق.
لماذا فعلها شكري؟
لقد حاولت الإجابة فيما سبق، ولعلني أكون قد هُديت إلى الصواب، وإلا فالمجال مفتوح لكل من لديه رأي أو قول.
كان شكري محتالًا عندما نسب اكتشاف سرقات المازني إلى نفر من الأدباء، الحق أن المكتشف كان هو شكري بنفسه مستعينًا بثقافته الإنجليزية العريضة، فالرجل مكث يتعلم لسنوات في بريطانيا عندما كانت عظمى، وكان كما وصفه بعض الباحثين نافذة العرب الأولى على آداب الإنجليز.
الناقد جهاد فاضل قرأ كتاب أنور الجندي "صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر". ونقل عنه تفاصيل القضية فقال:"واصل شكري اتهاماته للمازني فكتب في مجلة «المقتطف» في يناير 1917:" لو كانت المسألة التي تعرضت لها تافهة لما تعرضت ولكنها تشمل قصائد ومقالات كثيرة تسيء ظن الناس بأهل العلم والابتداع وتبعث على الفوضى في العلوم والآداب. وقد شاعت حتى لم يعد يمكن كتمانها. على أن كل أديب حارس من حراس الأدب ومن واجبه الا يغفل عن حراسته على أن هناك دافعاً آخر دفعني إلى الكتابة واظهار هذه المأساة، وهو الرغبة من الخلاص من مظان الريب. فقد اعتاد بعض الناس ان يقرن اسمي إلى اسم المازني والعقاد للمودة التي بيننا. ولكنها مودة لا تحمّل كل واحد منا عيوب أخيه. فحسب المرء منا أن يحمل عيوب نفسه ولكن الجمهور لا يستخدم المنطق في كل رأي يراه"
هل دافع المازني عن نفسه؟
ليته لم يدافع، لقد كتب: "لم يثقل على نفسي اتهامه لي بالسرقة لأني أعرف من نفسي أني لم أتعمد سطواً ولم أغر على شاعر وإنما علقت المعاني بخاطري في أثناء المطالعة وجرى بها القلم وأنا غافل لأني ضعيف الذاكرة سريع النسيان".
ما هذا يا أستاذ مازني؟ شكري ضبطك متلبسًا بسرقة قصائد من المطولات ولأفكار بنيت عليه بعض كتبك ومقالاتك وأنت تتحدث عن معاني علقت بخاطرك.
ثم ضبط آخرون المازني في جريمة سرقة جديدة (هل هم آخرون أم أنه شكري وقد تخفى خلف هؤلاء الآخرين؟ )
يقول الأستاذ جهاد فاضل نقلا عن الجندي:" ذكر أحد الضابطين أن قصة «إبراهيم الكاتب» للمازني مترجمة بتصرف من رواية «ابن الطبيعة» لميشيل ارتيز بياشيف. وذكر كاتب آخر أن قصة «غريزة المرأة» للمازني مستمدة من قصة «الشاردة» لجالسورزي".
ورد المازني فقال:" إن من اتهموه بالسرقة وجدوا هناك عشرين سطراً متشابهة في روايته والرواية الأجنبية كأن الذي يكتب 96 صفحة يعجز عن كتابة صفحة واحدة ويحتاج أن يترجمها أو ينقلها. فماذا تخسر أية رواية في الدنيا إذا حذف منها عشرون سطراً؟"
وعن اتهامه بسرقة رواية «ابن الطبيعة» رد المازني قائلاً: "إن أربع أو خمس صفحات علقت بذاكرتي من هذه الرواية دون أن أدري وذلك لعمق الأثر الذي تركته في نفسي فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي. حدث ذلك على الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية الأجنبية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضاً ومن شاء أن يصدق فليصدق ومن شاء أن يحسبني مجنوناً فإن له ذلك. ولست أروي هذه الحادثة لأدافع عن نفسي. فما يعنيني هذا وإنما أرويها على أنها مثال لما يمكن ان تؤدي إليه معابثة الذاكرة للإنسان وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة، وإنما هي بحر هائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط تعرفه ومن غير ان يكون لنا على هذا سلطان. فالمرء يذكر وينسى ويغيب عنه الشيء ويحضر".
الانتقام الرهيب
دفاع المازني لم يقنع أحد، لأنه دفاع متهافت لا يقوم على أساس من منطق أو علم، ولكن الوسط الثقافي يبدو أنه قد غفرها للمازني الذي إن كان قد أساء مرة فقد أحسن مرات، ولكن المازني لم يغفرها لشكري، فشكري هو الذي فتح الباب وعبّد الطريق.
أظن أن جلسات قد جمعت العقاد والمازني للاتفاق على الأسماء التي سيتناولانها في كتابهما " الديوان في النقد والأدب".
وأظن أن المازني عندما جاء ذكر شكري قد صاح في وجه العقاد: دعه لي فهو فريستي.
كفاك الله شر صديق أصبح عدوًا، المازني كان صديقًا لشكري لسنوات طالت وكان يعرف عنه ما لا يعرفه غيره، وكان يعرف منابع شعره وهواجس نفسه، وآه من تلك الهواجس فقد تلاعب بها المازني وهو الفصيح صاحب البيان فطعن بها قلب صاحبة طعنة نجلاء لم يبرأ منها حتى لقي ربه.
كان المازني قد نوى الانتقام من شكري فكتب فصلين من فصول الكتاب ضد صاحبه وتحت نفس العنوان " صنم الألاعيب".
قال في مقدمة الفصل الأول:" شكري صنم ولا كالأصنام، ألقت به يد القدر العابثة في ركن خرب على ساحل اليم؛ صنم تتمثل فيه سخرية الله المُرة وتهكم «أرستفانيز السماء» مبدع الكائنات المضحكة ورازقها القدرة على جعل مصابها فكاهة الناس وسلوانهم.
ولمَ لا يخلق الله المضحكات وقد آتى النفوس الإحساس بها وأشعرها الحاجة إليها، ولم يلتزم في الإنسان ما لا يتوخى في سواه من وزن واحد وقافية مطردة؟
شكري لا أسلوب له؛ إذ كان يقلد كل شاعر ويقتاس بكل كاتب وينسج على كل منوال، وحسب المرء أن يجيل نظره في كلامه ليدرك ذلك إذا كان على شيء من الاطلاع، فإذا لم يكن فهو لا يعيبه أن يرى أنه يستعمل اللغة جزافًا ويكيل «توافيق وتباديل» — كما يقول الرياضيون — من الكلام غير واضحة ولا مؤدية معنًى بعينه، ويسطر على الطِّرْس أصداء متقطعة لأصوات مألوفة لا رموزًا منتقاة لتمثيل المعنى وإحضاره".
بربك أين النقد في هذا الكلام؟
إنها شهوة الانتقام يا صاحبي وقد تمكنت من قلب المازني فجعلته ينسى أنه هو بنفسه الذي قال: إن بيتًا واحدًا من شعر شكري يفضل كل ما قاله حافظ إبراهيم وأمثاله.
كان الأستاذ عبد الرحمن شكري قد نشر كتابه الشهير" الاعتراف" وكان المازني قد قرأ الكتاب حرفًا حرفًا، فجعل الفصل الثاني الذي تناول فيه شكري قائمًا على اتهامه لشكري بالجنون!
شكري كتب عن هواجس نفسه وتقلب مزاجه وعن عاداته ومجمل أفكاره، فجاء المازني وعجن كل ذلك ليصنع فطيرة من جنون رمى شكري به!
يقول المازني عن شكري:"مسكين هذا الصنم! لا يعرف لبكمه ماذا يقول، ويتطوع المشفقون عليه للدفاع عنه، فيجيء دفاعهم أقتل له من نقدنا، وينقمون منا أنا جعلناه صنم الألاعيب، وهم يسخرون منه ويتضاحكون به، وماذا يجدي ذودهم عنه؟".
ثم يقول المازني:" ولقد قلنا إن شكري بدأ يجرب ما يسمونه هذيان الحواس، وأوردنا شاهدًا على ذلك، وفي النبذة التي اقتطفناها من «الاعترافات» شاهد آخر؛ فإنه فيها يقول بأصرح لفظ: «ومن العجيب أن هذه الشياطين لا تخفي قبحها، بل تظهر قبحها في «حركات وجهها وجسمها».
وليس هذا من المجاز في شيء؛ فإن صاحبنا شكري لم يدع سبيلًا إلى هذا الفرض والتأويل، فقد سد بابه بإعلان دهشته والجهر بعجبه واستغرابه حدوث ذلك.
وهو القائل أيضًا في اعترافاته ص١٠:
"ويسمع المحب أنغامًا وألحانًا (غريبة) لا يسمعها غيره وليس لها وجود، ويرى أشكالًا هندسية بديعة لا تسمع عنها في كتب الهندسة، ويرى أزهارًا خيالية لا يعرفها الباحثون في علم النبات".
فهو يسمع ويرى ما يعلم أن لا وجود له، وفي هذا تأييد لقوله في وصف جنونه ولا أعني جنون من لا يحس جنونه، بل أعني جنون من يحس جنونه ويفكر فيه ويعرف أسبابه ونتائجه.
وشكري قديم العهد بالشياطين والعفاريت وليس ذلك في صغره فقط، بل هو الآن بعد أن كبر وبلغ أشده كما كان في حداثته.
الاعتزال
كان شكري رقيقًا حالمًا لا أظافر ولا أنياب له، فوقع عليه كلام المازني وقوع الصاعقة، ففر من كل شيء معتزلًا الناس وأنشطة الأدب حتى لقي ربه في العام 1958!
ماذا كان موقف العقاد من تلك المعركة؟
لقد ناصر صاحبه المازني متخليًا عن صاحبه القديم شكري، إلا أن المازني الذي يمثل بحق حالة متفردة في الأدب العربي، كان قد رأى أنه رد الصاع صاعين فلا بأس أن يعود إلى الصواب.
القصة من البداية لم تكن قصة نقد أو مدرسة جديدة لقد كانت قصة صراع وسعي نحو شهرة ولو على أشلاء الصداقة والصحبة.
هل تصدق أن المازني قد قدم أحر اعتذار لشكري؟
نعم فعلها! أنقل عن الاستاذ رجائي عطية: كتب المازني يقول في مقال نشره بجريدة السياسة في الخامس من أبريل سنة 1930: «وقل من يذكر الآن شكري حين يذكر الأدب ويعد الأدباء، ولكنه على هذا رجل لا تخالجني ذرة من الشك، في أن الزمن لابد منصفه، وإن كان عصر قد أخمله. ولقد تغير زمن كان فيه شكري هو محور النزاع بين القديم والجديد. ذلك أنه كان في طليعة المجددين إذا لم يكن هو الطليعة والسابق إلى هذا الفضل؛ فقد ظهر الجزء الأول من ديوانه سنة 1907 إذا كانت الذاكرة لم تخنى (والصحيح أنه نشر عام 1909)، وكنا يومئذ طالبين في مدرسة المعلمين العليا، ولكنى لم أكن يومئذ إلاَّ مبتدئًا، على حين كان هو قد انتهى إلى مذهب معين في الأدب، ورأىٍ حاسمٍ فيما ينبغي أن يكون عليه. ومن اللؤم الذي أتجافى بنفسي عنه أن أنكر أنه أول من أخذ بيدي وسدَّد خطاي، ودلني على المحجة الواضحة، وأنى لولا عونه المستمر لكان الأرجح أن أظل أتخبط أعوامًا أخرى ولكان من المحتمل جدًّا أن أضل طريق الهدى".
ولم يكتف المازني بإبداء ذلك الندم والإقرار لشكري بالريادة والفضل عليه، فعاد يكتب بجريدة السياسة ذاتها بعدد 12 أبريل سنة 1930، إقرارًا ثانياً بالغ الوضوح. قال فيه: «وقد احتمل شكري وحده في أول الأمر وعكة المعركة بين القديم والجديد، (يقصد معركة الديوان ذاتها)، ثم استأنف يقول: «وشكري رجل حساس رقيق الشعور سريع التأثر، وهو بطبعه أمْيل إلى اليأس، فشق عليه أن يظل يدأب وليس من يعنى به، وأن يقضى خير عمره ويرفع صوته بأعمق ما تضطرب به النفس الملهمة الحساسة، وليس من يستمع إليه أو يعيره لفتة".
هل لم يكن الأستاذ المازني يعلم سجايا ومناقب صاحبه عندما وصفه بالصنم ووصمه بالجنون؟
كان يعلم يقينًا ولكن ماذا تفعل مع هوى النفوس وشهوة الانتقام التي تجعل الحق باطلًا والنور ظلامًا والعدل ظلمًا؟
لقد أفلح المازني في جعل نار شكري رمادًا فلا بأس بقليل من الإنصاف، وهذا من عجيب طبع البعض.
أما الاستاذ العقاد فقد سكت حتى مات شكري ثم كتب عنه مقالة نشرها بمجلة الهلال -فبراير 1959 -: «عرفت عبد الرحمن شكري قبل خمس وأربعين سنة، فلم أعرف قبله ولا بعده أحدًا من شعرائنا وكتابنا أوسع منه اطلاعًا على أدب اللغة العربية وأدب اللغة الإنجليزية، وما يترجم إليها من اللغات الأخرى، ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته إلا وجدت منه علمًا به وإحاطة بخير ما فيه. وكان يحدثنا أحيانًا عن كتب لم نقرأها ولم نلتفت إليها ولا سيما كتب القصة والتاريخ. وقد كان مع سعة اطلاعه صادق الملاحظة نافذ الفطنة حسن التخيل سريع التمييز بين ألوان الكلام. فلا جرم أن تهيأت له ملكة النقد على أوفاها؛ لأنه يطلع على الكثير ويميز منه ما يستحسنه وما يأباه، فلا يكلفه نقد الأدب غير نظرة في الصفحة والصفحات يلقى بعدها الكتاب وقد وزنه وزنًا لا يتأتى لغيره في الجلسات الطوال".
ثم طوى الموت سجلات الجميع فمات شكري في العام 1958ولحق به المازني في العام 1949 ثم لحق بهما العقاد في العام 1964 وبرحيلهم سكتت مدافع مدرسة الديوان بعد أن نفدت ذخيرتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بموقع "أصوات" 25 يناير 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق