السبت، 12 أكتوبر 2019


وما آفة الأخبار إلا رواتها
فى العام 359 من هجرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، ولد محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم، ونحن نعرفه باسم شهرته «الشريف  الرضي » وقد عرفناه لأن سجلات الشعر العربى قد حفظت قصائده التى يعد بعضها من عيون الشعر العربى.
يفصلنا عن زمن هذا الشاعر ما يزيد على الألف عام ، ولكنه ببصيرة الشعر المضيئة قال بيتًا، سار بين الناس كسريان النار فى الهشيم.
قال الشريف : «وهمْ نَقَلُوا عَنّى الذى لمْ أفُهْ بهِ / و ما آفة الأخبار إلا رواتها».
نحن الآن وفى زماننا هذا، وفى أيامنا تلك قد سقطنا جميعا فى قبضة هذا البيت.
أنت لم تقل شيئا عن أمر من الأمور ، ثم يأتى أحدهم ويقول على لسانك الذى لم تفه به، ثم بعد فلان يأتى فلان وعلان وزيد وعبيد فيروى كل واحد منهم الكلام كما يشاء هو وبصياغته هو وبالمعنى الذى يريده هو، فيصبح كلامًا من الكلام الذى يملأ الدنيا ويشغل الناس، فيضيع جسد الجريمة الحقيقية، ألا وهى أنك لم تتحدث أساسًا، بل ولم تفتح فمك.
ما سبق هو جزء الكارثة الظاهر، ولكن لأن الأمر أمر كارثة أخلاقية وشرعية واجتماعية، فهى مدفونة فى الأعماق السحيقة، ومواجهتها تحتاج إلى شجاعة ندر الذين يتحلون بها، وتحتاج إلى عزيمة من حديد.
القصة تبدأ على وجهين، الوجه الأول أن أكون صامتا لم أتحدث، فتأتى أنت وتقول على لسانى كلامًا، ثم ينتشر هذا الكلام ويسود بين الناس، وقد أدفع أنا الصامت، ثمنًا باهظًا يعرقل حياتى ويفسد حساباتى.
هذا الوجه على قبحه أهون من الوجه الثانى، وفيه أكون أنا قد كذبتُ، وتكون الطرق أمامك أنت ممهدة ومتعددة لتكذيبى وكشف حقيقتى أمام الناس، ولكنك لغرض فى نفسك ـ والغرض مرض ـ تترك كل الطرق وكل السبل وتختار أسوأها وأقبحها.
أنت الآن أمسكت بى وقبضت عليّ وأنا أكذب، وبين يديك كل الأدلة التى تستطيع بأبسطها وأهونها نسف كل أكاذيبى وفضحى أمام الناس والتشهير بى ومحو مصداقيتى، فتركل أنت هذه الفرصة السانحة وتهدر بيديك كل الأدلة وتحارب كذبى بأن تكذب عليّ !
ما هذا الخبل ؟
هل لاحظت أنك هكذا قد أصبحت مثلي، وقد تساوت الرؤوس فإن كنت أنا كذاب ، فأنت كذاب أيضًا فلا فضل لأحدنا على الآخر ؟
هل انتبهت إلى أنك قد فقدت مصداقيتك وأصبحت مثلى تماما لا يؤخذ بشهادتك ؟
لقد قلت لك من البداية إننى كذاب، أنا  رجل ماهر فى الكذب،  أعرف كيف أذهب إلى منابعه ، وأعرف كيف أجمّل وجهه القبيح بغلالة من الكلام الذى تفوح منه رائحة صدق مزور ومزيف، ومع أننى قد صارحتك بحقيقتى وبتمكنى من لعبة الأكاذيب، فأنت جئت إلى ملعبى وساحتى بقدميك وتريد أن تغلبنى وتقهرنى.
كيف هذا يا رجل ؟ أين عقلك ولن أتحدث عن أخلاقك؟!
يا سيدى أمامك كذاب أمسكت به وهو يكذب، بل قمت بتصوير جريمته بالصوت والصورة، لماذا تكذب عليه وتقول إنه لص ؟
تظن أن تضخيمك لجريمته سيوقع به ، لا يا صاحبى، أنت هكذا أفلته من عقاب مؤلم كان بانتظاره، سيفلت من جريمة الكذب وسيشهر بك لأنك كذبت عليه ورميته بجريمة هو لم يقترفها، وسيثبت أنه برىء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ويظهرك أنت فى ثوب الكذاب.
ولتلك الكارثة وجه لا يلتفت له الطرفان، الكاذب والذى يكذب عليه، ذلكم الوجه أعنى به المحيطين بالطرفين والمستمعين لهما، الطرفان لهما جماهير، وتلك الجماهير من الطبيعى والبديهى أن تتحدث وتتحاور وتتناقش، وهى لن تفعل ذلك إلا إذا سمعت، وهى الآن تعيش تحت نيران اثنين، كلاهما يكذب، فماذا تصنع تلك الجماهير؟
ستقع فى الارتباك ثم فى الحيرة ثم فى الريبة، ثم ـ وهذا سيئ جدًا ـ ستكون مضطرة لنفض يديها من الأمر كله، وتترك فلانا يعارك فلانا ولا تتدخل لصالح أحدهما ولا تلعب دورها فى تقويم الأمور والانحياز إلى الحق والخير.
قصة الكذب معقدة جدا ومتشعبة غاية التشعب ، وقارب النجاة واحد لا يتعدد وسهل ميسور، ولا قارب سوى الصدق، فعليه وعليه وحده تقام الحضارات وتبنى المدن، ويعرف القاتل وجه قاتله، ولكن خلط كل الأوراق لن يقود إلا إلى الفوضى، والفوضى شر مطلق ووباء فتاك، عندما يهاجم فإنه يصيب الجميع ، ساكن القصر وساكن الكوخ ، ولا ينجو منه أحد.

هناك تعليقان (2):

  1. سلام عليك يا ابني الفنان والكاتب الساخر أ.عبد الرحيم حمدي
    أولًا:معذرة أنني كنت جاهلًا بقلمك،واكتشفت ثمار قلمك في الخطوة الأخيرة من العمر
    ثانيًا:أهنئ نفسي لأنني بدأت أقرأ لك اليوم فقط
    ثالثًا:أخبرك أنني نشرت بعض مقالاتك باسمك -من مصادره-في صفحتي في الفيسبوك:"مقال وتعليق"،وبالتالي في الصفحة الرئيسية..
    وشكرًا لك..

    ردحذف
  2. سلام عليك يا ابني الفنان والكاتب الساخر أ.عبد الرحيم حمدي
    أولًا:معذرة أنني كنت جاهلًا بقلمك،واكتشفت ثمار قلمك في الخطوة الأخيرة من العمر
    ثانيًا:أهنئ نفسي لأنني بدأت أقرأ لك اليوم فقط
    ثالثًا:أخبرك أنني نشرت بعض مقالاتك باسمك -من مصادره-في صفحتي في الفيسبوك:"مقال وتعليق"،وبالتالي في الصفحة الرئيسية..
    وشكرًا لك..

    ردحذف