الخميس، 10 ديسمبر 2015

في الطريق إلى كوثر مصطفى .. بنت بتشبه للوطن ( 2 ـ2 )








العتبة الثامنة

مثلما قررتْ كوثر الإقامة في اسبانيا إلى الأبد ، مثلما قررت العودة إلى مصر لتكون بلد المحيا والممات ، عن نفسي لا أعرف بين الشعراء شاعرًا صبر على الاغتراب ، حتى هذا المحكوم عليه بالنفي " بيرم التونسي " رأيناه يتكبد ما هو فوق العناء لكي يعود إلى مصر مغنيًا شوقه وحنينه إليها .

استقرت كوثر في بيتها القاهري وقد ودعت أحلام بل أوهام الغربة ، وذات ظهيرة طرق طارق بابها ، كان الطارق محمد منير .

قال لها منير :" لا شيء في صناعة الغناء اسمه هدية ، لابد من تنازلك لكي أستطيع تقديم أغانيك ".

قبل مغادرته لبيتها ، ترك منير شريط كاسيت لكوثر ، استمعت إليه فكانت مفاجأة ردتْ إليها مصريتها كاملة غير منقوصة .

حمل الشريط لحن قصيدتها " ساح يا بداح " وقد لحنه الملحن فتحي سلامة ، كما حمل الشريط لحن أغنية "العالي عالي يا ابا " مع طلب من منير بأن تبذل ما لديها من جهد لكتابة أغنية تتسق واللحن الفلكلوري .  

من شركة " ساوند أوف أمريكا " لصاحبها عصام إسماعيل فهمي سيظهر شريط منير الذي يغني فيه ساح يا بداح ، تلك الأغنية التي ستكون عنوانًا لجيلي الذي وقعتْ على قلبه كارثة غزو صدام للكويت ونكبة دخول الأمريكان لبغداد .

ألا لعنة الله على التسعينيات البغيضة التي جعلتنا نصرخ مع كوثر بصوت منير
:" أنا مش رايح
أنا مش جاي
أنا مش واقف حتى مكاني ".
تجربة كوثر مع منير ستكون فارقة ، وستقدم معه أكثر من عشرين أغنية ، منها " مدد يا رسول الله " و " سو يا سو " و" حط الدبلة " و " بكار " و ...
كنت أراقب مباركًا نجاح كوثر بوصفها صديقة قديمة لم أقابلها بعد!!


اللقاء

  كان المخرج الأشهر يوسف شاهين مهووسًا بالإيقاع ، لا تخلو أفلامه من أغنية أو رقصة أو موسيقي أو حتى  نبرة صوت خاصة  يضبط على إيقاعها موسيقاه هو الداخلية ، ولذا لم يكن غريبًا أن يستعين بكوثر لكتابة أغنيات فيلمه المصير .

كان المصير عن رؤية شاهين لعالم الفيلسوف ابن رشد ، وكنا جماعة من شباب الكُتّاب نكتب في جريدة الدستور في إصدارها الأول في النصف الثاني من التسعينيات ، رأينا أن رؤية شاهين مشوشة ومفتعلة وأن ابن رشد أعمق وأخطر من أن يتناوله شاهين في تلك العجالة .

شرّحنا بقسوة جسد الفيلم وكان من نصيبي كتابة مقال حمّل عنوانًا ساخرًا " وأنكل ابن رشد وطانط زينب " سخرتُ  فيه من رؤية شاهين المتفرنجة لشيخ من شيوخ أمة الإسلام .

كل كُتّاب الصحيفة حملوا على الفيلم واستثنوا أغاني كوثر ، وخصوها بمديح ليس فوقه مديح ،  خاصة أغنيتها العلامة " لسه الأغاني ممكنة " التي لحنها لها الموسيقار الكبير كمال الطويل .

يومها قلت  لنفسي :" لقد آن أوان اللقاء بصديقة قديمة ",
شقيت حتى عرفت عنوان بيتها ، فكوثر التي تشعل أغانيها وقصائدها الشارع لا يعرف أحد عنها شيئًا ، دخلت بيتها فرأيت جدرانه ترشح شعرًا ، ليس في جملتي تلك أدني مجاز أو مبالغة .

كان ذو خط جيد جميل قد كتب لكوثر كلمات قصائدها على جدران بيتها.

سألتها متعجبًا :" لهذه الدرجة يفتنك شعرك ؟".
أجابت ببساطة :" ولماذا لا تحسبه نوعًا من الونس ؟؟".
ألقمني ردها حجرًا ، تخلصت منه بأن رحت أحكي لها عن صديقتي التي عرفتها وأنا محموم في بيت أبي قبل أكثر من عشر سنوات .

قطعتْ سياق حكاياتي بأن ضحكتْ وقالت :" ها قد التقيت بصديقتك القديمة ".

منذ ذلك اليوم البعيد وكوثر تكتب كأنها ستعيش أبدًا أو ستموت غدًا ، لقد كتبت لأصوات كثيرة منها ريهام عبد الحكيم " هى الحياة كدا ليه بقي ليها لون تاني ؟"  " ولآمال ماهر " يا عيني عليكي يا طيبة و" لحنان ماضي " شدي الضفاير " ولسيمون " كان فيه زمان بنوته " ولنيهال نبيل " فص زمرد فص ياقوت " .

لقد كتبت أكثر من ثلاثمائة أغنية لمختلف الأصوات من محمد منير نهاية بحنان ترك .

كما كتبت الصياغة الشعرية لمسرحيات " مخدة الكحل " من إخراج انتصار عبد الفتاح و " أولاد الغضب والحب " من إخراج ناصر عبد المنعم و " إحنا وظروفنا " من إخراج حسام عطا .

وقد نشر لها اتحاد الكتاب ودار الحضارة للنشر ديوانها الثاني " لسه الأغاني ممكنة " ونشرت لها دار ميريت ديوانها الثالث " حكاية ديل حصان " .

على مدار سنوات تلك الرحلة اقتربت من كوثر مصطفى حتى أنني كنت شاهدًا على ميلاد العديد من أعمالها ، ولا أنسى يوم التقينا في شارع جامعة الدول العربية وكانت كلمات قصيدتها " مدد يا رسول الله " تفور بداخلها ، وعندما غادرنا مقهانا بلغ توترها مداه ، فطلبت منها أن تدندن لي لحن القصيدة التي سيغنيها منير ففعلت ، فرحت أنا أكمل اللحن مغنيًا " مدد مدد مدد يا شاذولي مدد "

وقلت لها هذا لحن نغنيه نحن الصعايدة في حضرة ولي الله أبي الحسن الشاذلي .

قالت :" أعرف هذا ، وأبحث عن كلمات فصيحة بسيطة تليق بلحن شائع ".

ثم فجأة توقفت عن السير وأخرجت ورقة وضعتها فوق مقدمة سيارة متوقفة بجوار الرصيف وتناولت قلمًا وكتبت  
:" أقسمت بالفرقان
و بسورة الإنسان
العدل في الميزان
لكل خلق الله
مدد يا رسول الله
أقسمت بالإسراء
و براءة العذراء
الدم كله سواء
حرام بأمر الله
أنشودة المسيح رسالة حرة
علي الأرض السلام
و بالناس المسرة
مدد يا رسول الله".
كانت الأغنية ردًا على الذين اتهموا كل العرب وكل المسلمين بالضلوع في كارثة 11 سبتمبر .

ومع القرب الشديد كان للأيام حكمها ، فكنا نفترق لشهور بل لسنوات فإذا ما عدنا للقاء كنا نواصل ما انقطع من أحاديثنا كأننا لم نفترق .

يوم التتويج 

من محاسن  الثورة المصرية ( 25 يناير 2011) أنها ردت  في أيامها المجيدة لكل ذي حق حقه .
جاءت جمعة الشهداء المعروفة إعلاميًا باسم جمعة الغضب ( 28 يناير 2011) كنت مع هؤلاء المحتشدين أمام كوبري الجلاء ، محاولين الدخول إلى ميدان التحرير ، يومها كانت ملحمة الغاز والخرطوش والرصاص الحي والصمود الأسطوري لشعب المساكين . نال التعب من شباب شعب المساكين فتحلقوا في هدنة مع الغاز والرصاص الحي حول تمثال العميد طه حسين الذي يقف على رأس الكوبري .

قرأت أنا تلك الدائرة الشبابية بوصفها رد من العقل الباطن لشباب شعب المساكين لحق جدهم الأكبر طه حسين ، الذي كافح كثيرًا لكي ينال هؤلاء حقهم في التعليم المجاني .

اكتملت الدائرة حول الجد طه حسين وانبعث صوت حفيد من الأحفاد مغنيًا
:" سو يا سو والشعب حابسوه
 حبيبي عايز ياسمينه
ومنين أجيب ياسمينه ؟
ما علوا السور علينا
حبسوني وحابسوه ".

عشرات الآلاف من الأحفاد رددوا مع الحفيد كلمات كوثر ، ثم أعادوا لها حقها عندما غنوا معًا بصوت واحد
:"   على صوتك بالغنا
لسه الأغاني ممكنة
و لو فى يوم ، راح تنكسر ، لازم تقوم
واقف كما النخل باصص للسما
ولا انهزام .. ولا انكسار
ولا خوف ولا .. ولا حلم نابت فى الخلا
على صوتك على صوتك بالغنا
غنوتك وسط الجموع
تهز قلب الليل فرح
تداوى جرحى اللي أنجرح
على صوتك ... على صوتك بالغنا ".

أخرجت هاتفي المحمول لكي أطلب من كوثر الحضور الآن لتشاهد تتويجها ولحظتها العظمى ، ولكن نظام حسني مبارك كان قد قطع الاتصالات ، من الظلم البين أن تفوت كوثر هذه اللحظة ، شباب شعب المساكين يطوف بكلماتها حول جسد طه حسين .

كدنا نهزم تحت وطأة ضربات الشرطة ، ولكن جاءنا المدد ، مظاهرة حاشدة من إمبابة يقودها الفنان فتحي عبد الوهاب ، تبعتها مظاهرة من الهرم وفيصل والجيزة يقودها زياد العليمي ، وفيها تسير كوثر تحجل بعد أن أنكسر كعب حذائها .

فجأة وجدت كوثر تقف في مواجهتي ، صحت فيها :" قبل قليل كان الشعب يغني كلماتك في مواجهة الرصاص الحي ".
بكت كوثر متأثرة بكلامي ، ثم قالت :" إنه شعبنا ،وسينتصر ".

في طريقنا إلى التحرير قالت كوثر :" لم أحصل على أي تكريم من أي جهة كانت سوى مجلة روز اليوسف التي منحتني درعها  بعد أغنية فيلم المصير ، لكن الليلة في قلب هذا الموت أنت أخبرتني بأن الشعب توجني ، لست نادمة على شيء ولا أطمع في أكثر من مواصلة الونس بالشعر ".

ستظل كوثر كما كتبت عن البنت الكونية
بنت بتشبه للوطن ليها من الأسماء كتير
هي الليالي وحلمها
هي أنات المواجع
هي إنت وهي و أنا
 في كل حارة وكل شارع
بس باقي لسه باقي
 لسه أجمل حاجة فيها 
لسه نبض القلب حي
ولسه قوة الاحتمال
لسه فيها صمود وصبر
تقدر تشيل حمل الجبال
بنت تشبه للوطن ".

أقلب الآن بين يدي مسودات أعمالها الشعرية الكاملة التي ستصدر قريبًا عن دار نشر أوراق تحت عنوان " يا ليل يا عين يا أغاني ".  وتتضمن دواوين "موسم زرع البنات  " و " حكاية ديل حصان " و " لسه الأغاني ممكنة " و " مركب ورق " و " نص ميت نص حي".

أقرأ فأتذكر مرضي في بيت أبي عندما كنت أرتب لصداقة أكيدة مع شاعرة لا أعرفها ، فأسمعني أهتف :" حقًا لسه الأغاني ممكنة ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر المقال بجريدة أخبار الأدب  عدد الأحد 6 ديسمبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق