السبت، 5 ديسمبر 2015

في الطريق إلى كوثر مصطفى .. بنت بتشبه للوطن ( 1 ـ 2 )





العتبة الأولى
بنت تشبه للوطن 
ليها من الأسماء كتير
نفس الملامح والقدر
نفس البداية والمصير
هي الليالي وحلمها
هي أنات المواجع
هي إنت وهي  أنا
في كل حارة وكل شارع .

مَنْ تلك البنت التي كتبتْ عنها كوثر مصطفى قصيدتها  التي غناها محمد الحلو ؟.
إن قلت إنها بنت من ملايين البنات فأنت محق لحضور اللفظ والمعنى في القصيدة .

وإن قلت إنها البنت الكونية الأجمل من كل جميلة ، التي نعرفها باسم مصر ، فأنت تقرأ المعنى البعيد ، وهذا يجوز ولا غبار عليه.

أما أنا فأقول بدون لعثمة ، إن البنت  التي في القصيدة هى ذاتها كوثر مصطفى التي في الحياة .
اصبر على القراءة وستأتيك الأدلة .

العتبة الثانية

ليس في عائلة كوثر فنان أو أديب اللهم إلا زوج شقيقتها الناقد الراحل الدكتور محمود العزب الذي لمح تفرد هذه البنت  بين أفراد عائلتها فأحتضن موهبتها الوليدة وأتاح لها مكتبته التي نهلت منها حتي سافر العزب إلى فرنسا  ليعمل أستاذًا بجامعة السربون .

بسفر العزب غاب الراعي الحاضن ولكن كوثر أصرت على السباحة في بحر الشعر ، ربما من باب الوفاء للأستاذ المعلم .
كانت كوثر تعطي نهارها للشعر وليلها لدراسة اللغات الشرقية في كلية البنات حتى حصلت على الليسانس  في بدايات الثمانينات .

محصولها من الشعر تقدمت به إلى سلسلة نشر من سلاسل وزارة الثقافة ، وبعد وقت طال ، جاءها الرد :" مجموعتك الشعرية لا ترقى لمستوى النشر ".

تلك الجملة الحاسمة الباترة ، تستطيع قصم ظهر أي مشروع ، ولكن كوثر المتحدية كتبت عن بنتها الكونية
"بنت بتشبه للوطن
 هي القمر
بس يا خسارة القمر
إنطفي نوره الجميل
بنت تشبه للوطن وليها من الأسماء كتير
هي العصية ع الزوال
هي اللي صابرة ع العطش
زي الصحاري والجمال
 قايمة ونايمة بالعطش ".

العتبة الثالثة

رأت كوثر أن تحصل على دبلومه في الفنون الشعبية فقدمت أوراقها ، وجاء يوم امتحان القبول ، كانت لجنة الامتحان برئاسة الراحل الكريم الدكتور عبد الحميد يونس رائد دراسات الفن الشعبي.

سأل الرجل الكبير كوثر  :" لماذا الفن الشعبي ؟"
أجابت :" لأنني أحبه ".
سألها :" وما علامة حبك له ؟ ".
أجابت :" ليلى يا ليلى يا ليل
لا بتنطفي نجمتك
ولا شمعتك بتزول
دخلت قلب نعيمة
قلب البنية دليل
كلبشت بين بزينها
عششت في العنتين
دقولها زار ما نفع
كتبوا الحجاب بالليل
إنك يا ليل ح تولي
والكلمة قالها مغني
ليه اندبح في الليل
ليلى يا ليلى يا ليل ".
صاح الرجل الكبير :" لمن هذا الشعر ؟".
ردت كوثر :" هذا شعري استوحيت فيه شيئًا من قصة حسن ونعيمة".

عاد يونس يسألها :" وأين أجد أشعارك ؟"
ردت :" لقد اخترت منه ما رأيته جديرًا بالنشر وأرسلته إلى سلسلة من سلاسل وزارة الثقافة فقالوا لي : إنه لا يرقى لمستوى النشر ".

ظهر الغضب على وجه يونس ثم قال لكوثر :" أرسلي لي بشعرك على عنوان بيتي ".
أرسلت كوثر ديوانها الأول المرفوض من سلسلة وزارة الثقافة  إلى عبد الحميد يونس الذي قرأه وكتب عنه دراسة ونشره تحت عنوان :" موسم زرع البنات " من سلسلة اشراقات أدبية التابعة للهيئة العامة للكتاب !!

التحقت كوثر بمعهد الفنون الشعبية ، سعيدة بأن تتعلم على يد الرائد عبد الحميد يونس ، ولكن الرجل غادر دنيانا بعد قليل ، ثم في نوبة من النوبات  الجنونية التي تصيب مؤسسات الدولة  قال المعهد :" إن الطلاب الحاصلين على تقدير مقبول من كلياتهم ليس مرحبًا بهم هنا".

ولمّا كانت كوثر من هؤلاء الحاصلين على تقدير مقبول من كليتها فقد غادرت المعهد مع المغادرين .
البنت الكونية ستكتب :
" هم اللصوص ووراها  طلقين العسس
هم الجناة وهي الحبيسة في القفص
كمموها وقيدوها عصبوها وعجزوها
مسخوها ومساخوها
توهوها وغربوها ".

ثم ستلتحق بمعهد التذوق الفني لتتخرج منه بتقدير جيد جدًا ، ربحتْ الشهادة لكنها خسرتْ عبد الحميد يونس .

العتبة الرابعة

في صيف العام 1989 عدت من القاهرة إلي بيت أبي في أسيوط  في إجازة قصيرة ، فجأة ضربني مرض غامض ، رغم حر أسيوط الشهير وسخونة شمسها كنت أرتجف من شدة البرد ، عرضني أخي الحاج حمزة ـ  رحمه الله وعوضه عن شبابه بالجنة ـ على أكثر من طبيب ، تضارب التشخيص والعلاج حتى كدت أهلك .

قال طبيب : أتركوه فكما مرض سيشفى !!.
ظللت لأيام أتعاطي أدوية غامضة وأعيش على السوائل ، حتى جاء يوم جاءني فيه شقيقي بكل ما وقع تحت يده من جرائد ومجلات وكتب ، وذلك للتخفيف عني وشغلي عن مرضي بالقراءة .

ذهبت كل الكتب إلي غياهب النسيان وبقي عنوان واحد ساطع متحدي ، كان عنوان ديوان كوثر مصطفي الأول " موسم زرع البنات ".

قرأت الديوان وأغلقته على عزم أكيد بأن هذه الشاعرة ستكون صديقتي يومًا ما !!.

العتبة الخامسة

في بداية صيف العام 1990 كان المخرج السينمائي خيري بشارة  يتناول من فرشة بائع جرائد جرائده ومجلاته ، عندما أستوقفه كتاب يحمل عنوان " موسم زرع البنات ".

تناول الكتاب وتصفحه فوجده مقدمًا بدراسة من عبد الحميد يونس.
عاد بالديوان إلى بيته وقرأه بيتًا بيتًا فبهره شعر شاعرة لم يكن قد سمع باسمها قط ، راح يبحث عن هذه الكوثر مصطفى بلا جدوى ، ثم توصل إلى هاتف  موظف الهيئة العامة للكتاب الذي وقع  مع كوثر عقد نشر ديوانها ، ومن الموظف حصل على هاتف كوثر ، ودعاها إلى بيته في شبرا لكي يعبر لها عن إعجابه بشعرها .

ذهبت كوثر إلى بيت خيري بشارة فوجدت المطرب الشهير محمد منير في استقبالها .

العتبة السادسة

علاقتي بميدان التحرير مشوشة ، بل قد تكون مشوهة ، كثيرًا ما رأيت الأحبة يفترقون هناك ، كثيرًا ما ضاق صدري بترابه وضجيجه و غلظة سائقيه ، بيني وبين نفسي أؤمن أن أرض الميدان تهبط بالسائرين فيها ناحية شارع القصر العيني ، ولذا فأنا بيني وبين نفسي أطلق على السائرين ناحية القصر العيني لقب المنحدرين ، ذات عصر شتائي كنت أسير في التحرير مع صديقي سعيد شعيب ، كانت سيدة دقيقة التكوين تنحدر ناحية القصر العيني مع المنحدرين ، قال سعيد بعد أن أبتلع الانحدار السيدة :" دي كوثر مصطفى ".
يومها عاتبت سعيد بقسوة أدهشته لأنه أفلت مني فرصة التعرف علي صديقة مؤجلة !!.

العتبة السابعة

في صالون بيت خيري بشارة كان يجلس محمد منير ويسرا وحسين الإمام والسيناريست الدكتور يحيى عزمي ، كانوا يحضرّون لفيلم " طعم الحياة " الذي سيخرجه خيري وينتجه المنتج الكبير حسين القلا.

بعد أن هدأت حرارة الترحيب قال خيري لكوثر :" ستكتبين لنا أغاني الفيلم ".

تخوفت كوثر من الإقدام على تجربة جديدة فاعتذرت بأنها شاعرة وليست كاتبة أغاني ، وأضافت بأنها حتى في شعرها لا تلتزم بقاعدة أو قانون .

قاطعها خيري :" ولهذا السبب تحديدًا أريدك ، لديك ما أبحث عنه من نَفْس شعري طازج وبكر ، معي ستكتبين ما لم تكوني تظنين أنك ستكتبنه أبدًا ".

مع خيري ستكتب كوثر كتابة جديدة عليها ، كلمات شقية متدللة يلحنها حسين الإمام وتغنيها بطلة الفيلم يسرا .
" جت الحرارة في قلوب العذاري
البيض الأمارة ، دبلوم التجارة
آلو
جت الحرارة في الخط المسمّسم الرقة المقسّم
تضحكله يبسّم يديلك حرارة ".
في الفيلم نفسه ستكتب كوثر أغنيات " اخرج من بيبان الحارة الضيقة " و " مكرونة بالصلصة " و" يا يمام ".

لظروف إنتاجية لم يظهر الفيلم إلى النور ، ولكن منير ويسرا سيغنيان الأغاني بعيدًا عن سياقها الدرامي في الفيلم ومع ذلك ستسجل نجاحًا لافتًا .

ربما لفشل مشروع الفيلم ، وربما لأساب أخري ستقرر كوثر السفر إلى أسبانيا والإقامة فيها إلى الأبد ، ولكنها قبل السفر كتبتْ خطابًا إلى محمد منير تخبره فيها بأنها تهديه كل أغاني الفيلم ومعها قصيدة جديدة تقول يقول مطلعها

:" ساح يا بداح
ما الذي كان ومعدش وراح
قمر انطفي وانكفي واختفى
نهر ما بلش حتى الريق
وآه يا براح عمًال بيضيق
صبح وزيه الصبح التاني
ليل ملضوم في الليل التاني
وأنا مش رايح
وأنا مش جاي
وأنا مش واقف حتى مكاني ".

بعدما قرأ منير الخطاب والقصيدة ، حاول الوصول إلى كوثر ولكنها كانت بعيدة جدًا ، لقد فعلتها وسافرتْ للإقامة في أسبانيا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة أخبار الأدب العدد 1167 يوم الأحد 6 ديسمبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق