يشطح
بى الخيال هروبا من واقع جهنمى بخيل وحارق، فأضع نفسى فى منزلة قاضى القضاة، وهو قاضى
قضاة غير هذا الذى نشاهده فى المسلسلات التاريخية، إنه صاحب قدرات كونية خارقة، كأنه
خارج لتوه من فيلم من أفلام الخيال العلمى، غاية فى الحسم، له معاونون كأنهم زبانية
جهنم.
هذا القاضى،
الذى سأكونه، سيترك كل القضايا، ولن يعمل إلا على قضية واحدة سيكون لها اسم قد يضحك
البعض من فرط غرابته «مقتل الأمل»، ولن يكون فيها إلا متهم واحد اسمه محمد حسنى مبارك.
سأترك
كل مصائب وكوارث مبارك وهزائمه وبلادة عهده وتخاذله وكل الفقر والجهل والمرض والموت
الذى نثره فوق أدمغتنا، ولن أحاكمه إلا عن قتله الأمل.
كان مبارك
قد رأى بعينيه غضبة الشعب على السادات فى يناير 1977، ولذا فقد «فهم الفولة» بتعبير
أبناء البلد ووعى الدرس جيدا، درس أن يسمع وينفذ ويأخذ قرارات صارمة، درس أن يصادر
المعارضة ويخنقها، لقد صنع الرجل بعبقرية شريرة مثالا يحتذى فى خلط كل الأوراق، بحيث
لا يهتدى أحد إلى ما يحدث فى البلاد من شر أو حتى خير، جميعا كنا ندخل نفق التخمينات
المظلم بطبعه أمام كل قرار يتخذه مبارك.
لقد حكمنا
مبارك بطريقة رخوة شبهها بعضهم بطريقة كلام الممثل الكوميدى، الذى لم يكن يعطى قولا
فصلا فى أى أمر يعرض عليه، مكتفيا بأن يرد على أى كلام يسمعه أو موقف يعايشه بجملة:
«وماله يا خويا».
وهى جملة
تختصر حكم مبارك كله، وتصلح لأن تكون عنوانا له.
ومن تلك
النقطة انطلق الرجل ليحكم ثلاثين عاما عجفاء لم تثمر سوى خراب مدهون بطبقات من شعارات
وضيعة عن الاستقرار وزيادة معدلات التنمية، وتشجيع الاستثمار وحفظ الأمن القومى للبلاد.
نقطة
الانطلاق ارتكزت على فهم يبدو عميقا بضرورة قتل الأمل ودفنه تحت سابع أرض، وما كان
لمبارك ورجالات عهده أن يصوبوا على الأمل إلا من خلال اتباع منهج مرعب فى ترك كل متحدث
أو كاتب يتحدث كما شاء له الهوى، ويكتب ما يريده حتى لو كان ضد مبارك شخصيا، فإن جنح
المتحدث أو الكاتب عوقب عقابا يعد هينا قياسا على عقوبات التصفية الجسدية، التى يعتمدها
حكام عرب آخرون.
ثم يتم
قتل الأمل من خلال تجاهل كل حديث وأى كتابة، القتل بالتجاهل أو الصمت، فمن شاء أن يكتب
فليكتب، ومن شاء أن يعارض فليعارض، ومن شاء أن يتظاهر فليتظاهر، ثم يقوم النظام البليد
بدفن كل ذلك ودهسه تحت أقدام التجاهل التام، وهو الأمر الذى كان يؤدى إلى تيقن الجميع
من عبثية النفخ فى قربة مقطوعة، وأن لا أمل فى أن يحدث شىء، أى شىء سوى بقاء مبارك
السرمدى، ثم توريث ابنه متى حان موعد رحيل الأب عن الدنيا.
هذه الحالة
من فقدان الأمل أوصلتنا جميعا إلى ما نحن فيه الآن، لا أعنى حالة الخراب والتخريب فحسب،
بل حالة تكذيب الأمل، معظمنا لم يعد يصدق أن الحياة جميعها ليست سوى حفنة من الآمال.
أحد أصدقائى ذهب على نفقته الشخصية إلى موقع حفر القناة الجديدة، وتكبد ما هو فوق العناء
لكى يرى بعينيه ما يجرى على الأرض، وعندما عاد سالما، سألته عن مشاهداته فقال مغمغما
جملة لافتة: «ربنا يستر».
وعندما
تعجبت من جملته التى لا علاقة لها بسؤالى، قال: «هل من المعقول أن نحفر نحن قناة كهذه
التى رأيت آلات الحفر تعمل بها؟».
صديقى
رأى وكذّب عينيه، وتلكم مصيبة من مصائب مبارك، التى لم نشف منها حتى اللحظة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في20 أغسطس 2014