عندما يصحو الولد من نوم الظهيرة يجد الأب قد استبدل الجزء الأخير من معاشه. ويرى الأم قد رهنت الرنين الأخير لخلخالها. ويلمح أخته "تكوم" ملابسها فى حقيبتها لتلحق بأول طائرة تقلها لعريسها النفطى العجوز. يحصى الولد ما فات من عمره فيؤلمه أنه يعيش فى "المنطقة الضيقة الحرجة" ما بين الثلاثين والأربعين يفتح الراديو فيأتيه صوت قارئ النشرة الإخبارية "غلبت الروس فى أقصى الأرض وساد اليهود أدنى الأرض" يفتش الولد دهاليز ذاكرته باحثاً عن تاريخ آخر فرصة رطبت صحراء قلبه، فلا يظفر سوى بأفراح ممرورة كذوب.. تداعبه ذكري بنات الجامعة ذوات الصوت المبحوح من الهتاف فى المظاهرات.. يضيق الآن كل الكون.. ويعلن الخراب اكتمال حضوره وتمام سيطرته.. يلبس الولد الذى هو الآن فوق الثلاثين وتحت الأربعين "بنطلونه" الجينز وقميصه الواسع ويدس يديه فى جيوبه "ويشوط" طوب الأرض. وفجأة ينفجر بركان المرارة داخله.. وتتقلص ملامحه ومن بين أسنانه يقول: ما الذى يبقينى فى هذا البلد وقد أصبح غابة من صبار ترعى فيه جيوش اليأس.. لا مفر.. "الآن سآوى إلى بلد يعصمنى من الفول" وما كان الولد يعرف أن غيره يسمعه لذا فاجأه صوت الأولاد وهم يصيحون به "لا عاصم اليوم من البنك الدولى والأسطول السادس. ولن تعود بدر ولا فيتنام ولا حتى أفغانستان".
من منطقة "المرارة" هذه كتب عبدالمنعم الباز ثلاثا وعشرين قصة هى ما تحتويه مجموعته بقع القلب.. ناثراً فيها بقع قلبه وقلب الأولاد والبنات الذين هم فوق الثلاثين وتحت الأربعين.. يكتب الباز معتمداً على لغة مكثفة تكشف عما يعرفه تماماً ويؤلمه تماماً ويريد قوله تماماً مبتعداً عن خلق بطل "هو بالفعل غير موجود" لاجئاً إلى تراث من المرارة يبدأ باحتراق جمال حمدان ولا ينتهى بالبنت "سوسن" التي يكتب عنها "حين تميل فتاة ما برأسها إلي اليمين وهى تضع يدها فى خصرها، سأتذكر سوسن حين تختلط الدهشة واللامبالاة فى عينين خضراوين سأتذكر سوسن وحين أتبادل حديثاً عادياً جداً مع فتاة وأمسك فجأة فمى كى لا أقول لها "أحبك" سأتذكر سوسن.. سوسن يا إحباط القلب الرابع، أستطيع أن أصنع بعض الضوضاء وأنسى".
يتجول الباز بلغته البسيطة الشفافة فى حياة الأولاد راصداً "زمتة ظهيرتهم" وصداع آخر الليل.. جيوبهم الخاوية.. وحبيباتهم اللاتى تغضن بين عشية وضحاها.. وهو فى تجواله لا ينسى أنه كاتب قصة.. فلم تأخذه أبداً شهوة الكتابة.. فلا إطالة ولا ترهل.. هناك فقط جمل حادة تحوى ما فى القلب من وجع.. والباز خلال مجموعته يواصل رحلة البحث عن لغة لا تخص سواه تليق بكابوس هزيمة الروس وسيادة اليهود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الملايين - 26 نوفمبر 1995
شكرا
ردحذف