السبت، 6 يناير 1996

إلى أطفال العرب.. قصة عمو سليمان خاطر



لم تعرفوا بعد ما كامب ديفيد وما هي أوسلو, أنتم مازلتم في طهارة الندى ولذا سأحكي لكم عن الشاطر حسن واسمه في حكايتنا عمو سليمان خاطر.

عصر السبت 5/10/1985
لم يكن هناك سوى الله والأرض والسماء وزرقة البحر وقسوة الجبال وأنين دماء الشهداء التي تشكو الظمأ. وكانت الشمس تلقي على المشهد الكوني نظرتها الأخيرة قبل أن تسقط في جب الظلام.. ولد فلاح من قرية اسمها أكياد مركز فاقوس محافظة الشرقية اسمه سليمان محمد عبدالحميد خاطر, أكمل بالكاد الخامسة والعشرين من عمره, فهو مولود في سبتمبر من العام 1960, وجه أسمر وسيم ويبدو عفيًا رغم إصابته بالمرض القومي ( البلهارسيا ) .

حول عنقه تتدلى قلادة تنتهي بأية الكرسي وتحت إبطه الأيمن يرقد ( حجاب سيدنا الشيخ) في جيب سترته الكاكي حافظة بها "ربع جنيه جديد" مكتوب عليه بالقلم الكوبيا "للذكرى الخالدة أخوك عبدالمنعم" وصورة منفردة لأمه وأخرى جماعية تجمعه بوالده الذي توفي في العام 1979 وأمه وأخويه وأختيه.


في هذه اللحظة ( الخارجة عن السياق ) كان سليمان يقف على نقطة ترتفع عن أرض سيناء بمائة وخمسين متراً. وكانت بدايات الليل قد ألقت ستائرها على المكان.. فجأة وجد سليمان تسعة من الصهاينة يصعدون إلى حيث يقف.. ماذا حدث لكي يضغط سليمان على زناد رشاشه وتنهمر الطلقات مخترقة صدور الصهاينة؟

لا أحد يعرف الإجابة على وجه اليقين.. فلم يكن هناك سوى الله والأرض والسماء وزرقة البحر وقسوة الجبال وأنين دماء الشهداء التي تشكو الظمأ ألقى نظرة فاحصة على المكان.. كانت هناك جثث سبعة صهاينة إضافة لرجلين جريحين يحاولان الفرار. صنع سليمان من كفيه بوقًا وراح يصرخ "اقفلوا الطريق علشان محدش يبلغ إسرائيل والبلد تنضر".

الأحد 6 أكتوبر 1985

صدرت من القاهرة ثلاثة بيانات رسمية. كان الأول يقضي بإلغاء احتفالات أكتوبر حدادًا على أرواح شهداء منظمة التحرير الفلسطينية الذين أغارت على مقر إقامتهم في تونس الطائرات الصهيونية يوم الثلاثاء الأول من أكتوبر 1985 وحمل البيان الثاني اعتذارًا عن حادث سيناء. كما وصف وزير الخارجية عصمت عبدالمجيد الجندي سليمان خاطر بأنه مجنون. أما البيان الثالث فقد أكد أن جندي سيناء مختل عقليًا وسيحاكم .

ترون معي أن سليمان قد فتح على نفسه بوابات الجحيم عندما "اقترف" البطولة في زمن الذل..

فلماذا فعلها سليمان؟

وقد كانت القرارات الرسمية توصي المصريين بنسيان الماضي وتجاوز بحور الدم ورفع صور الشهداء من صالونات البيوت.. فلماذا خرج سيمان عن النص الرسمي وأفرغ رصاصاته في صدور الصهاينة؟

كان سليمان أحد تلاميذ مدرسة بحر البقر الابتدائية التي عجنت طائرات صهيون لحوم أولادها وبناتها وقد قيل إنه في عصر السبت جاءته دماء زملائه تلاميذ المدرسة تسعى وقالت له أجساد الأولاد محمد وجرجس وأحمد والبنات مريم وفاطمة وسعاد: "هل نسيتنا يا سليمان؟".

وقيل أيضاً أن من "ملأ" خزينة رشاشة بالطلقات كان أحد شهداء غارة إسرائيل على حمام الشط وأقسم البعض إن الذي أوحي لسليمان بأن يطلق الرصاص على الصهاينة لم يكن سوى سمية سليمان الحلبي الذي ذبح كليبر يوم السبت 21 محرم 1215 هجرية يونيو 1800 ميلادية. ترون أن هذه أسباب تتعلق بعالم الأرواح "الفسيح" فماذا عن أسباب الأرض "الضيقة"؟

هل صوب سليمان رشاشه نحو الصهاينة لأنهم قالوا له "شالوم"؟! أم لأنهم بصقوا على علم مصر؟ أم لأنهم جواسيس كانوا يريدون تصوير الموقع وما به من أجهزة عسكرية؟ أم لأنهم صهاينة وهذا يكفي؟

الأربعاء 9 أكتوبر 1985

كانت مصر قد تأكدت أن ولدها فلاح الشرقية ليس مجنونًا وإنما هو عاشق لمواويل الحرية والكرامة. فبعثت من "الفجرية" ببرقية إلى أولاد وبنات الجامعة كان نصها "أولادي وبناتي أيها الورد الصابح ، ابني سليمان منكم ومريض مثلكم بالوطن والبلهارسيا والكرامة ، فلا تتركوه وحيدًا يلوث المستسلمون بطولته" ، وكان طلاب جامعة عين شمس أول من استجاب لبرقية مصر, فخرجت مظاهراتهم تهتف بكل ما في القلب من حزن وكرامة.

سليمان خاطر مش مجنون

قولوا عليه مقدرش يخون

ولقد كانت مصر تبحث عن "شمعة" "تكنس" عتمة دهاليز الاستسلام للصهاينة. وجاء سليمان قمرًا مكتملاً. وكلما توغل "النص الرسمي" في فجوره ووصف سليمان بالجنون كلما ارتفع النشيد الشعبي عاليًا:

قولوا لساسون الكلب بره

مصر بلدنا هتعيش حرة

الشعب ارتفع بسليمان وبطولته ووضعه في القلب ذاته الذي يحمل أسماء زهران بطل دنشواي وإبراهيم الورداني قاتل بطرس غالي وسعد إدريس حلاوة القمر النازف الذي كان أول من قال لا بدمه للتطبيع.

ما فعله سليمان جعل الوطن العربي يعود واحدًا مرة أخرى.. في الكويت اجتمع مجلس الأمة وأصدر بيانًا مؤيدًا لسليمان خاطر, كما فتح الباب أمام تلقي تبرعات مالية لإعانة أسرته وفي بيروت وضعت صور سليمان بجوار صور شهداء حرب بيروت 1982 وفي دمشق صنع شاعر سوريا الكبير ممدوح عدوان زفة شعبية للعريس سليمان خاطر

أوقف غناءك يا ولد

ردد معي.. وأنا أقول

سنزف في هذا المساء ابن البلد للصبح سهرتنا تطول

ألف الصلاة على النبي وسلامنا المقرون بالبركات

للسيف المورث للصحابة ولغضبة كبرت كطفل حكاية بين الغلابة

سليمان كالنبوت في كف الفتوة إذ يعارك وهو صداح كناي عب من تنهيدة الأنفار ألحانا.

طويل مثل أوف رافقت وجع الربابة

هذا سليمان الذي عرف الأصول عاش تعرفه الأصول

دقي إذن مزيكة الحرب البهيجة

واضربي في القلب وحدك يا طبول تصيح الأرض بالعربية الفصحى

سليمان الذي بالفاس انطقها وعربها

سليمان الذي بالقهر أيقظها فقالت كل ما تبغي النفوس

السبت 28 ديسمبر 1985

صدر الحكم على سليمان خاطر بالسجن خمسة وعشرين عاماً. وانفجر الشارع المصري خاصة وقد تبنت صحف المعارضة الأهالي والشعب والوفد والأحرار قضية سليمان وقدمته بما يليق ببطولته واستمعت العواصم العربية كلها لصوت شاعر العراق مظفر النواب وهي يغني لسليمان.

هذا الهرم الطفل

احتوى أسرار مصر كلها وأقانيم الروح والخلود

أما كان كليم الله في رابية الطود

وناداه: سليمان بن خاطر طهر البيت من الأرجاس وانزل أرض مصر

حذر الأحزاب من دوامة السلطة والنصفية العاهر

بلغها بأن الله لا يقبل إلا بالبواريد السلاما

الأربعاء 1 يناير 1986

عرف المصريون ما في الأمر فأطلقوا حديثًا يدور حول اعتداء مصور تليفزيوني صهيوني على سليمان أثناء مقابلة له معه وأن سليمان قد نقل إلى المستشفي للعلاج من إصابته وبهذا الحديث رشح المصريون الصهاينة كأول من سيحاول قتل سليمان وما جاء صباح الخميس حتي تفجرت مظاهرات الجامعات المصرية وكان شعارها:

صحوا مصر يا شبان

الصهاينة على البيبان

الأحد 5 يناير 1986

طلب سليمان من أمه التي زارته في مستشفي السجن الحربي حيث كان يعالج من البلهارسيا أن تحضر له في الزيارة القادمة ملابس جديدة وكتبه الدراسية ليؤدي امتحان السنة الثالثة لكلية الحقوق التي انتسب لها وهو في الخدمة العسكرية وقد وصف رئيس تحرير المصور مكرم محمد أحمد الذي زار سليمان في اليوم نفسه أن حالته النفسية جيدة وأنه يأمل تخفيف الحكم الصادر ضده.

الاثنين 6 يناير 1986

في تل أبيب صدر قرار بالعفو عن "إلن هاري جودمان" الذي أطلق الرصاص على المصلين بالمسجد الأقصى صباح أول أيام عيد الفطر عام 1982 فأصاب مائة وقتل اثنين وجاء في قرار العفو إن جودمان سيطلق صراحه صباح اليوم التالي الموافق الثلاثاء 7 يناير 1986.

صباح الثلاثاء 7 يناير 1986

مات سرب من الفراشات وتوقف النحل عن إفراز العسل.. كما كف النسيم عن وشوشة شواشي الكافور ورفعت صفصافة ضفائرها من ماء النيل.. كما سأل أحمس من يجاوره في القبر هل عاد الهكسوس إلى مصر؟!

صباح الثلاثاء 7 يناير 1986

ظهر جمال عبدالناصر وهو يمشي مرهقًا حاملاً على ذراعيه جثمان عبدالمنعم رياض النازف واستمع الناس في حي السيدة إلى صوت عبد الحليم حافظ يغني "عدى النهار والمغربية جاية تتخفي وراء ظهر الشجر", أما في حي الحسين فقد كان الشيخ إمام يغني "الجدع جدع والجبان جبان" وجاءت الأنباء من قنا بأن أعمدة الكرنك قد اهتزت وأن السكر قد جف في عيدان القصب.

صباح الثلاثاء 7 يناير 1986

نسى صوفي ورد الصباح وتمزقت أوتار عود كان يدندن عليه عازف من سنباط.. كما بكت أرملة في أسيوط لما تذكرت فجأة ابنها الذي استشهد وهو يعبر القناة.. وشهدت حديقة الأورمان لقاء الوداع بين حبيبين.

صباح الثلاثاء 7 يناير1986
التقطت إذن مصر فحيح مذيعة رمادية النبرات تقرأ خبراً رسمياً عاجلاً كان نصه : " في صباح الثلاثاء السابع من يناير 1986 حوالي الساعة العاشرة وأثناء مرور الحارس على الرقيب المسجون سليمان محمد عبد الحميد خاطر المحكوم عليه في القضية 142 لسنة 1985 جنايات عسكرية وجد الرقيب المذكور معلقًا من رقبته بمشمع الفراش الخاص به بالقضبان الحديدية بشباك غرفته بالمستشفى فأبلغ الحارس طبيب المستشفى الذي قام بإجراء التنفس الصناعي وتدليك عضلة القلب إلا أن المذكور كان قد فارق الحياة.

لم تصدق مصر كلمة واحدة من بيانهم الرسمي فأولادها لا ينتحرون إنهم ينتصرون أو يستشهدون. ومن قبلها أطلقت مصر صرختها "قتلوك يا ضنايا" كيف ينتحر من كل جملة هاربة من كتاب الهزائم؟

ومصر التي أنجبت سليمان خاطر هي نفسها التي كلفت الصعيدي عبدالرحمن الأبنودي بإبداع قصيدة تليق بكل الشهداء في الماضي والمستقبل:

يا أمي إن يسألوكي

لا يترعش لك حضن

ولا تردي بحزن

وتقولي: مات في السجن

ساعتها يبقي الحزن بلا موضوع

والسجن بلا موضوع

والموت بلا أكفان

وكفاية جربنا سنين الموت بالمجان والتافه المتهان

أهاننا بالمجموع

يا أمي كل ما يهتفوا بموتي

اتذكري صوتي

بذمتك مش كان عظيم الشأن

قالت له "صوتك نشان"

طالع يقول موجود

ياسمر يا أبو عيون سود

فكيت طلاسم سحرنا المرصود

وعدلت وش الزمن

كان لي ولد.. مات

صحيت الأوطان

ويا أطفال العرب.. توتة.. توتة.. ولن تنتهي الحدوتة.. إلا يوم خلاصنا من قتلة سليمان والأنبياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الأحرار - 6 يناير 1996

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق