الاثنين، 28 مايو 2012

صور من جب النسيان (الجزء الثالث)



الصورة الرابعة عشرة


كل يوم يتحدث شقيقاى،  بهجات ومندى عن ضرورة " فرز الورق " ثم لا يصنعان شيئا ، أعرف الآن أن المهمة كانت ثقيلة ولذا كانا يتهربان منها بحجج شتى ، حتى جاء صباح يوم صيفى قال فيه أخى بهجات لأمى:" نظفى لنا السطح فاليوم سنفرز الورق ".
أمى السيدة الأمية التى لا تعرف القراءة والكتابة ، تجيد بفطرة صافية قراءة إشارات العيون وارتعاشات القلوب وتردد النبرة حتى لو أرادها صاحبها أن تظهر واثقة . بهمة ونشاط واتقان نظفت أمى السطح وضربت حوله سوراً من قماش يحجبنا عن عيون الجيران ، ثم أعدت طعاما طيبا ، ربما لتخفف على أخوىّ وطاة " فرز الورق ".
سرتْ بيننا جميعا روح الإقدام على مغامرة ( سنفرز الورق ) .
بعد صلاة العصر كان السطح نظيفاً ومرشوشاً . بدأ أخواى الصعود بكراتين كبيرة جداً ووضعها فوق السطح . أمرنا أخى بهجات بتلاوة سورة الفاتحة قبل أن يبدأ فى فتح الكراتين .
بدأ العمل هكذا ، بهجات ومندى يفتحان الكراتين بوجهين محتقنين وبأصابع مرتجفة . ما الذى وجداه فى الكراتين ؟ جرائد ومجلات وكتب وورق متفرق قديم .
كانا كلما وجدا ورقاً طالعاه بعناية وتبادلا نظرات ذات معنى ، ثم بعناية يضعان الأوراق المتفرقة فى حقيبة جلدية جديدة كأنهما اشترياها خصيصاً لهذه المناسبة .
الجرائد والمجلات والكتب ، يقدمانها لأختى سامية التى تمسح ما علق بها من تراب ثم تقدمها لأخى حمزة الذى يعيد وضعها بدقة فى الكراتين .
أمى لا تكف عن تقديم الشاى وشرائح البطيخ لإخوتى ، أنا مشغول بمتابعة عملية الفرز ويكاد قلبى يقفز فرحاً  كلما أخرج أخواى مجلة ذات غلاف ملون  .
فجأة صاح أخى بهجات بسعادة غامرة  وهو يستخرج دفترأ كبيرأ :" الحمد لله ، لقد وجدته ، إنه كامل ".


مد مندى يده ليأخذ الدفتر ، لكن بهجات زجره بنظرة ووضع الدفتر تحت فخذيه ( بعد تلك الصورة بسنوات سأسرق الدفتر من خزينة أخى بهجات لأقرأ مذكرات أبى التى أوصى بعدم قراءتها إلا بعد رحيل كل أبطالها ).  بعد العثور على الدفتر عرف الهدوء طريقه لوجهيهما . بعد قليل انتبه  مندى لشيء غائب عندما قال لبهجات :" لقد عثرنا على معظم الأشياء ولكن أين اللوحة ؟" ضربتهما حُمَى البحث والتفتيش ، حتى عثر أخى مندى على اللوحة المقصودة .  إنها صورة رجل أسمر لطيف السمرة يبدو وسيماً وأنيقاً ومبتسماً ، يرتدى جلباباً صوفياً أسود ويعتم بعمامة بيضاء كبيرة .تبادلوا الإمساك باللوحة ، لم أكن معنياً بها لأنها ليست ملونة ، ارتاحت اللوحة بين يدىّ أمى التى نظرت لها طويلا ثم قبلتها ، تقبيل أمى لهذه اللوحة جعلنى أسألها : " صورة مين دى ؟ " .


أرتبكت قليلا ثم تضاحكت وأعطت اللوحة لبهجات ثم قالت مبتسمة وهى تضم رأسى لصدرها : " دى صورة راجل كان ضيف عندنا وبعدين راح لأهله " .
بعد سنوات ستدور بيننا نحن أولاد عبد الرحيم مناقشات ساخنة جدا وحادة حول الذى من حقه الاحتفاظ بصورة أبينا المرسومة بالقلم الفحم ، بداية سيفرض عزت الأمر الواقع ويحتفظ بالصورة فى صالون بيته ، بعدها سيتنازل عنها فى نوبة كرم ويضعها على جدران " المقعد " وهو بناء على المشاع يخصنا جميعا .

الصورة الخامسة عشرة

كنت قد عرفت أن أبى قد مات ، وكنت قد خاصمت العيال الذين يغنون :" ودا قصر مين العالى ؟ دا قصر أبويا الغالى " ومع ذلك تشوشت بدون سبب معروف . بدأت أؤمن أن أخى بهجات هو أبى الذى أنجبنى ولذا رحت انتسب إليه ، فإن سألنى سائل :" ابن من أنت ؟" فإننى أجيبه بتلقائية :" ابن بهجات عبد الرحيم ".
عيال الشارع تعاملوا معى بوصفى أبلهاً يظن أن شقيقه هو والده ، بادلتهم السخرية من جهلهم لأنه يظنون أن أبى هو شقيقى .
عشت هكذا عمراً طويلاً حتى جاءت  ظهيرة يوم قائظ أرسلتنى فيه أمى إلى البقالة لشراء عسل ، كانت قد أعطتنى النقود وكوبا زجاجيا كبيرا ( اذكر أن لونه كان أزرق ) . أثناء عودتى إلى البيت ، انشقت الأرض عن ولد كبير ، ربما كان بينى وبينه عشر سنوات ، كان الولد كأنه الشيطان ، أمسكنى من كتفىّ وهزنى هزا شديا وسألنى بصوت كله قسوة :" إنت يا واد .. واد مين إنت ؟".
بخوف  أجبته  بما أعرفه عن نسبى :" واد بهجات عبد الرحيم ".
رفعنى عن الأرض كأننى ريشة وألصق ظهرى بحائط وصرخ فى وجهى :" إنت بهيم ، بهجات دا أخوك ، أبوك مات ، أبوك مات ، عارف يعنى إيه مات ؟ يعنى مات".تركنى أسقط على وجهى وغادرنى وأنا أعوى :" أبويا مات ، أبويا مات ".
قذفت الكوب الزجاجى فتحطم واختلط العسل بتراب الشارع ، وعدت إلى البيت وانا أصرخ من بين دموعى :" أبويا  مات  يعنى بهجات مات ".
أجتمعت علىّ أمى وجدتى وأختى سامية وحاولن تهدئتى ولكن محاولتهن فشلت .
فجأة دخل أخى عزت عائدا من الجيش وعلى كتفه مدفع رشاش .
لم يجد الاستقبال اللائق بعودته ، لانشغال السيدات بى ، بكلمة عرف الأمر من أمى، رفعنى ووضعنى فوق كتفيه ، وهم بالخروج ، تعلقت السيدات الثلاث بساقيه لكى لا يخرج ،  ولكنه كان من القوة بحيث طرحهن جميعا .
فى الشارع سألنى بهدوء :" عارف الواد اللى قال لك كدا ؟"
أجبته :" أعرف شكله ". قال سنبحث عنه حتى نجده وساعتها ستحصل على حقك منه .بعد بحث لم يستغرق كثيرا أشرت إلى الولد  الذى كان يجلس مع أقاربه على مقهى صغير. أنزلنى عزت من فوق كتفيه ، وألقى سلاما فاترا على الجالسين ، ردوا مندهشين من فتور سلامه ، تناول مدفعه الرشاش وباعد بين ساقيه ثم قال :" أبنكم عاير أخويا بموت أبوه ، ودا ما يصحش ، وزى ما ابنكم خلى أخويا يبكى ، أخويا هيبكيه قدامكم ووالله العظيم اللى هيتحرك منكم لأكون  مفرغ فيه الستة وتلاتين طلقه ". أكبر أعمام الولد كان حكيماً ، أدرك أن عزت مصاب بجنون الغضب وسينفذ ما هدد به ، قام الرجل ومسح على شعرى وقبل جبينى وأعطانى كرباجاً مصنوعاً من ليف النخل يستخدم فى سوق البهائم ثم قال :" الحق حبيب الرحمن ، وزى ما بكاك بكيه ، السوط فى يدك أهو وشرّح بيه ضهره ".
على كثرة ما تشاجرت لم أضرب أحدا مثلما ضربت هذا الولد ، لقد كان يصرخ من ضربات السوط التى انهلتُ بها على جسده ، مع بكائه كففت عن ضربه ، رفعنى عزت ووضعنى على كتفيه وعاد بى إلى البيت .

الصورة السادسة عشرة

استدعانى بهجات إلى غرفته ، كان يجلس إلى مكتبه ، على عينيه نظارة طبية أنيقه وبين يديه كتابا ليس ملونا ، كلماته عجيبه ، سألته عن الكتاب فابتسم قائلا :" دى رواية قصة مدينتين لراجل خواجه اسمه تشارلز ديكنز ".
قام وجلب لى مقعدا وأجلسنى أمامه ثم أغلق الكتاب بعد أن وضع ريشة بين صفحاته ، مسح نظارته ثم تبسم فى وجهى وقال :" أمك قالت لى على اللى حصل مع الواد البغل ، شوف يا عمى الأستاذ ، الواد بغل ولكن ما غلطش ، أبوك هو أبويا ، إحنا الاتنين أخوات ، أبوك مات فعلا ، بص كلنا هنموت ، فاهمنى إزاى ، أخوك عزت مجنون ، أصله النهار كله يحارب ، كان ممكن يقتل علشان خاطرك ، يرضيك أخوك يتسجن ؟ عارف أنا رحت لعم الواد وشكرته واعتذرت له ، لولا عم الواد كان ممكن تبقى فيه عركة كبيرة ، عايزك تبقى كويس وماتضايقش من أى حد يقولك أبوك مات ، بص لو عايزنى أكون أبوك فأنا من اللحظة دى هكون أبوك ولاخر يوم فى عمرى ، مبسوط كدا ، لما تكبر وتتجوز تقول لعيالك الراجل أبو نضارة دا هو أبويا ، خليك كويس وماتبكيش أمك ، عارف لو جدك عبد الجابر عرف هيعمل مشكلة ربنا أعلم بيها ، جدك ساكت لكنه مجنون زى عزت بالظبط ، لما بيغضب مبيعرفش هو بيعمل ايه ، بكرة  هاخدك أسيوط معايا وهشتريلك كورة وصور لعبد الناصر واللى تشاور عليه هشتريهولك ".
من يومها وإلى اليوم أصبح بهجات أبا لى ، وجداً لأولادى ، لم أشعر بعدها باليتم إلا فى تلك الساعات التى قرأت فيها مذكرات أبى ، كنت أتمنى أن أعيش مع صاحب المذكرات وأحاوره وأعرف يقيناً أى رجل كان .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق