الاثنين، 28 يوليو 2025

الأُمَّة تحتاج إلى شيخها محمد عبده


 

أعلم أن المقام مقام جد، ولكن لا بأس من هزل يفسّر جدّنا، عندما تهيَّأت للكتابة عن الشيخ الإمام محمد عبده، أردت التأكُّد من صحة تاريخ ما، فكتبتُ في «جوجل» اسم محمد عبده، فأحالني إلى قصص وأخبار وصور تخص المطرب محمد عبده!

يوم السبت الماضي، الموافق الحادي عشر من شهرنا هذا يوليو 2015، تكون قد مرت مئة وعشر سنوات على رحيل الشيخ الإمام، ومع هذا يظل المطرب محمد عبده أشهر منه وأبعد صيتًا، وهذا هو هزلنا الذي نستعين عليه بجدّنا.

أسرة عجيبة

ولد الشيخ الإمام محمد عبده حسن خير الله، في قرية محلة نصر بمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، سنة 1849، لأسرة تعد من عجائب الأُسر المصرية، فالأب له جذور كردية، والأم عربية من بنى عدى بأسيوط.

تلك الأسرة كانت تعتمد في بقاء عزّها على أمرَين، الأول كان شائعًا في زمانها وهو امتلاك أسرار الفلاحة والزراعة، والثاني كان عجيبًا وهو حرصها على تعليم أولادها ولو على كره منهم!

تفرُّد تلك الأسرة سيدفعها إلى الصدام مع حكام زمانها، هنا لم أجد بين يدىّ مراجعًا يحدد شخص الحاكم، ويكفي أن نستمع إلى الشيخ الإمام وهو يعبر عن ذلك الصدام، فيقول: "إنه قد سعى واشٍ بأهلي عند الحكام، بحجة أنهم ممن يحمل السلاح ويقف في وجوه الحكام وأعوانهم عند تنفيذ المظالم، فأخذوا جميعًا، وزُجّوا في السجون واحدًا بعد واحد، ومن دخل منهم السجن لا يخرج إلا ميتًا، وكان جدي حسن شيخًا بالبلدة، وهو الذي بقي من رجال البيت مع ابن أخيه إبراهيم".

هذه هى ذكريات وذاكرة طفل عن الحكام والحكومة!

الأسرة العجيبة دفعت بابنها محمد إلى الكُتَّاب فحفظ القرآن، وجوَّده، ثم انتقل إلى المعهد الأحمدي بطنطا ليكمل تعليمه، في هذا المعهد ستبدأ متاعبه التي ستتواصل على مدار سنوات حياته.

كان التعليم مُعقدًا وسطحيًّا لا يقدّم لصاحب عقل مثل محمد عبده شيئًا نافعًا، التحق بالمعهد عام 1864، ولكنه هجره بعد سنة واحدة وهو عازم على عدم مواصلة التعليم، لقد عاد إلى قريته وتزوج عندما بلغ  السادسة عشرة من عمره!

الأب العجيب كان مُصرًّا على أن يواصل ابنه رحلة التعليم، وكاد يجبره على العودة إلى المعهد الأحمدي، ولكن الابن فرّ من وجه أبيه ولجأ إلى قرية مجاورة يعيش فيها خال والده الشيخ درويش خضر.

نفحة الصوفية

عن أساتذة وشيوخ محمد عبده، يقول الأستاذ أحمد أمين، في كتابه «محمد عبده»، ما ملخصه «إن الشيخ عبده تعلَّم أول ما تعلم على أيدي ثلاثة من الأساتذة، أولهم كان هو الشيخ درويش خال والده، وهو رجل له اتصال بتعاليم الطريقة السنوسية التي كانت تدعو إلى تنقية الإسلام من البدع والخرافات. لم يكن الشيخ درويش ممن يحفظ المتون والحواشي، ولكنه كان مُحبًّا للحياة ومؤمنًا بأن الإسلام هو دين الحياة.

 وضع الشيخ درويش يده على كتف حفيده وعلّمه كيف يستقبل العلم ويرسله، فلا فضل لعالم يحفظ ويتعلَّم لنفسه".

في سبعة أيام فقط كان الشاب المتزوج حديثًا محمد عبده قد مسّته صوفية جدّه أو خال والده، وأيقن أن العلم فرض عين لا فرض كفاية، فعاد طائعًا إلى المعهد الأحمدي، ليصبح أحد أنبغ طلابه.

الشيخ الثاني الذي تتلمذ عليه الإمام كان حسن الطويل، وقد كان فريد عصره وأوانه بالنسبة إلى الأزهريين، كان الشيخ الطويل حكيمًا هادئًا بارعًا في الرياضيات والفلسفة، والأخيرة كانت نوعًا من الكفر في نظر أقرانه وتلاميذ ذلك الزمان.

 قذف الشاب محمد عبده بنفسه في بحر الشيخ الطويل، فناله الرمي بالمروق من الملة، لأنه يدرس الفلسفة ويصاحب مدرسها الشيخ الطويل!

أما الشيخ الثالث فكان جمال الدين الأفغاني، الذي تعلَّم على يديه ألف باء السياسة وأبجدية الثورة.

عن تلك الفترة المشحونة بنفحات التصوُّف الحق يقول الشيخ الإمام: «كنت أطالع بين الطلبة، وأقرأ في شرح الزرقاني، فرأيت أمامي شخصًا يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب، فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلواء مصر البيضاء.. فقلت له وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله! من جد وجد! ثم انصرف.. فعددت ذلك القول إلهامًا ساقه الله إلىَّ، ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا".

المستجير من الرمضاء بالنار

في مطلع عام 1866 التحق الشاب محمد عبده بالأزهر، والأزهر يومها كان مكبلًا بكل قديم ومقيدًا بكل بارد غث، لقد أفلح الأتراك في طمس وجه الأزهر المزهر، لا جديد بالأزهر يخالف ما تعلمه في المعهد الأحمدي، إنهما صنوان يُسقيان بماء واحد وليس لأحدهما فضل على الآخر في الأُكل.

كان الأزهر مشغولًا بمسائل من عينة : لبس القبعة حرام أم حلال؟ الوضوء من ماء الصنبور حرام أم حلال؟ رؤية خيال الظل حرام أم حلال؟

هنا يقرر الشاب أمر حياته كله، لا بد من إصلاح الأزهر ليعود منارة للعلم والعمل.

وفى عام 1877 حصل على الشهادة العالمية، تساوى (الليسانس الآن)، ولكنه لم يعمل بالتدريس في أزهره الحبيب، لأن الحبيب كان في قبضة الذين يرون كل قديمٍ دينًا وكل جديد كفرًا، فمكث نحو عامَين، لم أجد عنهما تفاصيل، وفى سنة 1879 عمل مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم.

ثورة أم هوجة؟

الآن، يملك الشيخ الشاب محمد عبده منهجه القائم على إصلاح الأُمّة، لكي تبصر حقوقها وتعرف واجباتها، وهذا الإصلاح عنده لا يكون بالعنف ولا بالتسرُّع، إنه بذرة ستصبح شجرة مثمرة على مر السنوات.

هذا المنهج هو كلمة السر في الهجوم المستمر على الشيخ حتى يوم الناس هذا، إنه منهج وَفق لغتنا المعاصرة يقوم على الإصلاح من داخل السلطة.

وهذا المنهج اصطدم أول ما اصطدم مع العرابيين الذين كانوا يريدون كل شيء الآن وليس بعد ساعة!

وهذا الاصطدام سيدفع الشيخ الإمام لأن يقول لعرابي باشا: "عليك بالهدوء والسكينة، وأنا أضمن لك أكثر مما تطلب في بضع سنين".

الشيخ لديه مركز قوة، هو رئيس مجلس الوزراء رياض باشا، الذي كانت لديه نزعة إصلاحية تتوافق مع منهج الشيخ، لكن عرابي وجماعته كانا على عداوة مع رياض باشا، ثم كبرتْ كرة النار وتدحرجت وسقطت في قلب الشوارع والميادين وكانت ثورة عرابي.

كل مطالب الثورة كان الشيخ يؤيّدها، وما كان خلافه مع الثوار إلا على الطريقة والأسلوب والمنهج (هل نقول ما أشبه الليلة بالبارحة؟).

يقول الأستاذ أحمد أمين، إنه "في لحظة الثورة كان لسان الشيخ ينشد من شعر دريد بن الصمة: وما أنا إلا من غزية إن غوت / وإن ترشد غزية أرشد".

والمعنى أننى من قبيلة غزية سأقف معها إن كانت على الرشد أو الغي، وبهذا وقف الشيخ مساندًا ومؤيدًا لثورة عرابي متجاهلًا أي خلاف حول المنهج والطريقة.

ثم طال الليل

فشلت الثورة في تحقيق مطالبها واستعان توفيق بالإنجليز الذين قبضوا على رقاب البلاد والعباد في عام 1882.

طبعًا كان لا بد من أن يدفع الثوار ثمن ثورتهم، نفى عرابي وقادته، وتم سجن الشيخ الإمام وتعذيبه لثلاثة أشهر، حتى خرج من سجنه وهو إلى الكهولة أقرب منه إلى الشباب، تعلَّم توفيق درس عمره، فقام بنفي كل صوت يطالب بيقظة الأُمّة، كانت بيروت هى منفى الشيخ.

طال ليل المنفى حتى استغرق من عمر الشيخ ست سنوات كاملة، بعد جبر الكسور وترميم الروح، بدأ الشيخ رحلة تعليم لأولاد بيروت العربية، كان يفسر لهم القرآن ويعلمهم المنطق والفلسفة ويقدّم لهم لوائح الدراسة وينظمها وفق منهجه الإصلاحي الهادئ.

ثم سافر إلى باريس بدعوة من شيخه الأفغاني، وليؤسسا جريدة «العروة الوثقى».

بعض مترجمي الشيخ يقولون إن الجريدة لم تكن جريدة فحسب بل كانت تنظيمًا سريًّا يُراد به مقاومة الاحتلال.

من الواضح أن جريدة الشيخَين قد أقلقت الإنجليز في مصر، فسعوا سعيهم إلى وقفها، وهذا ما تم لهم بعدد صدور عددها الثامن عشر.

الشيخ كانت له تجربة صحفية سابقة عندما كان رئيسًا لتحرير «الوقائع المصرية»، فحوّلها من نشرة رسمية إلى جريدة تراقب أعمال الحكومة.

ثم كانت له تجربة في الكتابة لـ«الأهرام» منذ بداية عهدها، وكانت مقالاته من أبرز ما تنشره الجريدة.

عاد الشيخ إلى بيروت ثانية، ومنها ذهب إلى تونس والجزائر، وهو في كل سفرياته لا يكل ولا يمل من الدعوة إلى منهجه الإصلاحي، حيث البدء من أسفل من أصغر وحدات المجتمع من الأسرة، حيث الأب والأم والابن.

هذا المنهج، سيجلب على صاحبه الكوارث المعتادة التي يصاب بها كل إصلاحي في مجتمع لا يفكّر وإن فكّر فكّر بعصبية وتسرُّع.

في رحلة من رحلاته أثناء المنفى ذهب إلى عقر دار العدو، والتقى في لندن النخبة البريطانية من برلمانيين وسياسيين وصحفيين، وراح يطالبهم بالجلاء عن بلاده، فقالوا له جميعًا: "بلادك ليست مؤهلة لأن تحكم نفسها".

عاد الشيخ من رحلة لندن وهو يفكّر في الهجرة إلى السودان، ولكن القدر تدخَّل وعاد إلى مصر.

شبهة كرومر

كان الشيخ يكره الخديوي توفيق ويهاجمه دائمًا ويصفه بالخائن الذي أدخل العدو إلى البلاد، ومن ناحيته لم يكن توفيق يريد السماع باسم ثائر من ثوار عرابي.

شهدت تلك الأيام صعود نجم الأميرة نازلي، وهي بنت مصطفى فاضل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علِى.

كانت الأميرة نازلي تقيم صالونًا من أبرز رواده سعد زغلول وأحمد لطفي السيد وعبد الرحمن الكواكبي، وكل هؤلاء من تلاميذ الشيخ الإمام.

سعى سعد زغلول سعيه لدى الأميرة، لكي تتوسط في عودة الشيخ الإمام إلى مصر، خصوصًا ونار الثورة قد خبت وأصبحت رمادًا.

الأميرة كانت تعرف ميزان القوة جيدًا، فكلمت اللورد كرومر مباشرة، لكي يضغط على الخديوي توفيق، ليعود الشيخ إلى بلده.

بعد مفاوضات طالت، أثمر ضغط كرومر وعاد الشيخ من منفاه بشرط ألا يعمل بالسياسة ثانية.

وافق الشيخ ـ وما كان له إلا أن يوافق ـ فرماه بعضهم بتهمة التعاون مع وكيل الاحتلال اللورد كرومر.

وجاء عباس

حاول الشيخ العودة إلى التدريس ليمارس غرس بذرة الإصلاح، لكن منعوه من هذا، لأنهم يعرفون قدراته في الدعوة إلى منهجه، فعيّنوه قاضيًا، بمحكمة بنها، ثم انتقل إلى محكمة الزقازيق، ثم محكمة عابدين، ثم ارتقى إلى منصب مستشار بمحكمة الاستئناف.

كان قضاة زمانه يعرفون اللغات الأجنبية، فنافسهم فيها وتعلَّم الفرنسية، وقد جاوز الأربعين، تعلّمها حتى أصبح يترجم عنها إلى العربية.

مات توفيق وجاء ابنه عباس الذي كان شابًّا دون العشرين، وكان قد تلقَّى تعليمه في النمسا، أراد عباس أن يعدل سياسات أبيه، فأعاد رياض باشا إلى رئاسة الوزراء، وقرّب منه الشيخ الإمام محمد عبده، وجماعة من الإصلاحيين.

هدوء منهج الشيخ لم يكن يعنى أن الشيخ كان ضعيفًا، بل كان يعنى أنه كان قويًّا جدًّا، حتى إن الخديوي عباس قال: "إن محمد عبده يدخل علىَّ كأنه فرعون"

وبعيدًا عن أي تزييف أو دغدغة مشاعر، كانوا هم ملوك البلد، والشيخ كان حكيمًا وصاحب مشروع، ومشروعه يحتاج إلى سلطة تنفيذية، والسلطة بيد ثلاثة، الأُمة وهذه كانت أضعف من أن تتفهم مشروعه، فضلًا عن أن تحميه، وعباس ورياض، وهذان في الحساب الختامي يعملان تحت مظلة الإنجليز، ثم اللورد كرومر، وهو الملك المتوّج صاحب الكلمة المسموعة والأمر المطاع.

في جلسة من جلساتهما الخاصة، قال الشيخ الإمام للخديوي عباس ما ملخصه: إن الإنجليز يسيطرون على حياة البلاد، وهم قد كفوا أيديهم عن ثلاث هيئات خطيرة، وهي الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، لأنها هيئات ذات صبغة دينية، وهم لا يريدون الاصطدام بعواطف الناس، فلو انتهزنا هذه الثغرة وأصلحنا تلك الهيئات لهبّت الأمة من نومها الذي طال.

اقتنع عباس بكلام الشيخ وتركه يصنع ما يريد، فكتب الشيخ تقريرًا عن إصلاح هيئاته الخطيرة إلى اللورد كرومر، لأنه ساعة الجد هو الذي بيده الكلمة الأخيرة، كرومر من ناحيته كأنه كان يعرف مصير دعوة الشيخ إلى الإصلاح، فقد وافق على تنفيذ تقرير الشيخ على أن يكون الأمر مصريًّا لا دخل للإنجليز به!

تمكَّن الشيخ من عقل وقلب الخديوي عباس حتى عيَّنه مفتيًا للديار المصرية في عام 1899، وكان قبلها قد أصبح عضوًا بمجلس الأوقاف الأعلى وعضوًا بمجلس إدارة الأزهر.

الآن الشيخ معه السلطة والتلاميذ، نذكر على عجالة أبرزهم، شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وشيخ العروبة محمد محيي الدين عبد الحميد، وسعد زغلول، وفتحي زغلول، وقاسم أمين، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، وحافظ إبراهيم، وعبد الرحمن الكواكبي، وعز الدين القسام الثائر الفلسطيني المعروف، ومحمد رشيد رضا.

فهل تركوه يصلح ما أفسد الجهل؟

لقد اتهموه بالكفر، لأنه أفتى بأن البقرة إذا جرى ضربها على رأسها ثم تم التسمية عليها وذبحها قبل أن تموت فلحمها حلال. قالوا له أنت تريد أن يأكل المسلمون من الموقوذة، وقد حرمها القرآن!

شغلوه حتى استنزفوه بمثل تلك الفتاوى.

وحديثًا صنعوا مثل ذلك مع الشيخ محمد الغزالي الذي ذهب إلى البحرين ليلقى درسًا، فسألوه: "ما قول الدين في الخل؟"

وبعدها بأسبوع كان في الجزائر ليجد السؤال نفسه أمامه، فصرخ فيهم: "ولو عقدتم كل مباح لأهدرتم نفس دينكم وكل وقتكم".

أولاد الحلال وما أكثرهم تدخَّلوا في الوقت المناسب فأفسدوا ما بينه وبين الخديوي حتى أصبح الخديوي لا يطيق سماع اسمه بعد أن كان خليله وصفيّه، كل ما تمكّن من إنجازه هو إصلاح رواتب موظفي الهيئات الثلاث مع توفير الرعاية الطبية لطلاب الأزهر.

بعد رحيله بسنوات سيسأل تلميذه محمد رشيد رضا تلميذه سعد باشا زغلول وقد أصبح زعيمًا للأمة عن وصية الشيخ بإصلاح الأزهر، فيرد سعد قائلًا: «إذا كان شيخنا قد عجز عن الإصلاح الأزهري، وقد أوتى من العلم وقوة الإرادة والعزم ما لم نؤت، فماذا يمكنني أن أفعل في إصلاحه؟"

قبل أن يرحل الشيخ كان قد ترك لنا منهجه وكتبه التي من أبرزها:

رسالة التوحيد.

تحقيق وشرح «البصائر القيصرية للطوسي"

تحقيق وشرح «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» للجرجاني.

الرد على هانوتو الفرنسي.

الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية.

تقرير إصلاح المحاكم الشرعية.

شرح نهج البلاغة للإمام علِى بن أبى طالب.

العروة الوثقى مع معلمه جمال الدين الأفغاني.

وترك لنا تلاميذه الحالمين بالإصلاح وهم من الكثرة بحيث تصدق فيهم كلمة قالها الكاتب الأستاذ أنور الهوارى: «عباءة الشيخ محمد عبده وسعت مصر علمًا». وفى الحادي عشر من يوليو من عام 1905 يموت الشيخ وهو دون الستين من عمره ليسمع الدهر صرخة تلميذه حافظ إبراهيم.

سلامٌ على الإسلام بعد محمد

سلام على أيامه النضرات

على الدين والدنيا، على العلم والحجا

على البر والتقوى، على الحسنات

لقد كنت أخشى عادى المـوت قبله

فأصبحت أخشى أن تطول حياتي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور في جريدة التحرير 13 يوليو 2015

الاثنين، 7 يوليو 2025

قداسة الجهل الدامي!

هل يمكنك أن تحارب أُممًا لا تعرف عنها شيئًا؟
بداهةُ العقل تقول: لا.
لكن قوى الاحتلال ذات النزوع الإمبراطوري تقول بأعلى صوت: نعم، نحن نستطيع محاربة الذين لا نعرف عنهم شيئًا، وسنظل نحاربهم حتى نطحن عظامهم.

فهل قوى الاحتلال، ذات التوجه الإمبراطوري، التي تريد إعادة رسم العالم وتخطيطه وفق مصالحها، عاجزة عن المعرفة؟
الحقيقة: لا.
الحقيقة أنها تستمرئ الجهل، ثم تؤسِّس له مدرسة تقوم على خلط الأوراق، فتتوه الحقائق، فلا يدري المقتول مَن قتله، ولا لأي ذنب قُتل!

قرأتُ قديمًا قصة تقول إن السيدة جيهان السادات، زوجة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، سمحت لصحفية أمريكية بمحاورتها. وقبل بدء الحوار، كانت السيدتان تتجاذبان أطراف الحديث، وفجأة سألت الصحفيةُ السيدةَ جيهان:
ـ كم مرة يضربكِ زوجكِ يوميًا؟
مع وقاحة السؤال، ظنت السيدة جيهان أن الصحفية تشاكسها أو تصنع مادة للضحك، فأجابتها مبتسمة: خمس مرات يوميًا!
لكن الصحفية لم تبتسم، بل ظهرت على وجهها علامات الجدية، فصاحت السيدة جيهان في وجهها:
ـ ما هذا السؤال؟! ظننتك تمزحين! أنا زوجة رئيس الجمهورية، وأستاذة بالجامعة المصرية!
ثم تبيَّن للسيدة جيهان، بعد النقاش، أن الصحفية خلطت بين مرات الصلاة الخمس المفروضة وضرب الرجل المسلم لزوجته!

ما الرابط بين الأمرين؟
سَلِ الأمريكيين!

أنا أصدق تلك القصة، فعليها من عالم الحاضر شواهد وشهود، وقد شهد بعض المنصفين من أهل بلاد الاحتلال بأنهم لا يعرفون شيئًا ـ أي شيء ـ عن الأمم التي يقاتلونها بضراوة منذ قرون، بل ولا يريدون أن يعرفوا!

نقرأ معًا شهادة النائب الأمريكي الشهير بول فندلي، الذي رحل قبل سنوات قلائل. يقول فندلي في كتابه «لا سكوت بعد اليوم: مواجهة الصور المزيفة عن الإسلام في أمريكا»:

"إن معظم الأمريكيين لا يعرفون أي مسلم، لم يناقشوا يومًا الإسلام مع أي شخص مطّلع على هذا الدين، ولم يقرأوا يومًا آية واحدة من القرآن، بل ولا أي كتاب عن الإسلام. وتنبع غالبية تصوراتهم عن الإسلام من الصور السلبية المزيفة التي تظهرها التقارير الإخبارية، والأفلام، والمسلسلات التلفزيونية، والحوارات في الإذاعات والتلفزيون".

ويعترف فندلي:

"أنه منذ طفولته وحتى خريف عمره، استقرت نمطية مضللة في ذهنه، فقد كانت معلمة مدرسة الأحد المسيحية تقول لنا: إن شعبًا أميًّا، بدائيًّا، ميّالًا إلى العنف، يعيش في مناطق صحراوية، ويعبد إلهًا غريبًا".

ويختم فندلي شهادته قائلًا:

"كنت أعتقد أن المسيحية واليهودية مرتبطتان معًا، وتشكلان جبهة الغرب المتمدن والتقدمي، على الخط الفاصل الذي يقف على جبهته الأخرى الإسلام، الذي اعتبرته القوة المتخلفة والخطِرة في الشرق العربي".

فندلي هذا كان له كتاب شهير نشره تحت عنوان: "من يجرؤ على الكلام؟" وقد تُرجم إلى لغات عديدة، على رأسها العربية. في ذلك الكتاب، يعترف فندلي بأنه، قبل زيارته لليمن في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لم يكن يعرف شيئًا لا عن اليمن ولا عن الشرق الأوسط كله، وقد فضح في كتابه هذا صناعة الجهل أو التجهيل التي يقوم بها اللوبي الصهيوني المتحكم في الإعلام والثقافة، بل والسياسة الغربية.

والجدير بالذكر أن فندلي، الذي كان نائبًا عن دائرته لعشرين عامًا، فقد مقعده في الكونغرس، ولم يعد إليه ثانية، لأنه تجرأ على فضح الأكاذيب الصهيونية.

ومن الشهادات الدامية الفاضحة، ما جاء في تقرير لوحدة من وحدات جيش الاحتلال عن بدء عملية الطوفان.
قال أحد الضباط:

"لقد رأيتهم في العاشرة صباحًا (يقصد المقاومين) ، وهم يصلّون العصر، ثم شنّوا هجومًا على المدنيين!"

هذا الضابط، الذي يحتل وجيشه فلسطين منذ ما يزيد على السبعين عامًا، يجزم بأنهم صلّوا العصر في تمام العاشرة صباحًا!
وليس في الإسلام، منذ أن كان، صلاة مفروضة في العاشرة صباحًا.
ومع ذلك، يُرفَع التقرير إلى الجهات العليا التي تبني موقفها بناءً على تقارير كاذبة جاهلة مثل هذا التقرير!

وأختم بجزء من المقابلة التي أجراها المذيع الأمريكي تاكر كارلسون مع السيناتور الجمهوري تيد كروز، وهو من غلاة المنادين بسحق إيران:

تاكر: هل تعرف عدد سكان إيران؟
كروز: لا أعرف.
تاكر: ألا تعرف عدد سكان الدولة التي تسعى لإسقاط حكومتها؟! كيف يمكن ذلك؟
كروز: وهل تعرف أنت؟
تاكر: نعم، 92 مليون نسمة.

تواصل الحوار، وكان في حدّة وسرعة تنس الطاولة، إلى أن ختمه السيناتور المتعصب الداعي لسحق إيران بفضح المسكوت عنه، عندما قال:

"لقد تعلمت من الكتاب المقدس: أولئك الذين يباركون إسرائيل سيباركون، وأولئك الذين يلعنون إسرائيل سيلعنون. من وجهة نظري، أريد أن أكون مباركًا".

ليت أبناء نخبتنا الذين يجلدون ظهورنا كل يوم، ويتهموننا بالجهل والتخلف لأننا لا نريد أن نتعلم من الغرب المتحضِّر المتمدِّن، ليتهم يتشجعون مرة ويناشدون الغرب أن يعرف من نحن، قبل أن يشن غارته علينا!


منشور بجريدة صوت الأمة
السبت 5 يوليو 2025م


 

الأحد، 29 يونيو 2025

ما أشبه ليلة إيران ببارحة العراق


 

لكل منا صندوق ذكريات، وقد شاء ربي أن يكون صندوق ذكرياتي أسود لا يضم إلا الذكريات السود، وقد شاء ربي ـ لا راد لمشيئته ـ أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية هي حجر أساس صندوقي الأسود، وأن تكون النواة الصلبة لذكرياتي.

أتذكر يوم الثاني من أغسطس من العام 1990، في ذلك اليوم الحارق البخيل قام صدام حسين رئيس العراق الأسبق بغزو الكويت، ففتح علينا باب شر لم يغلق من يومها.

أتذكر هياج الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف راحت تذرف الدموع على أشياء تبدو مضحكة، فهى مرة تبكي، مستقبل الأمة العربية (الأمريكان يبكون الوحدة العربية!) ومرة تبكي من أجل الديمقراطية، وتبكي ثالثة خوفًا على العالم من مدافع صدام العملاقة التي يستطيع بها قصف سيدني في أستراليا!

كانت أمريكا تضحك على العراق وتخدعنا، كانت تفاوض مرات وتبكي مرات وتبحث عن حلول سلمية مرات، فجعلنا سلوكها نقع في حيص بيص، فلا دليل مادي قاطع على أنها ستدمر العراق بحجة تحرير الكويت ولا دليل مادي قاطع على أنها ستحرر الكويت بطرق دبلوماسية.

كان السؤال الجارح لكل هذه الأمة من محيطها إلى خليجها هو: هل ستضرب أمريكا؟

مرت شهور أغسطس وسبتمبر وأكتوبر ونوفمبر وديسمبر، ودخلنا في العام الجديد 1991 ومضى من بدايته أكثر من نصف شهر يناير، خلال كل تلك الشهور جاءنا من يوسوس لنا قائلًا: أمريكا لن تضرب وستترك الكويت غنية لصدام مقابل تمركزها في كل الخليج!

المحزن بل المفجع أن استعداد أمريكا للضرب كان يجري على قدم وساق، وكل الأمور كانت ترتب تحت أعيننا ولكنا كنا نخاف مواجهة الحقيقة فلجأنا إلى أوهام تدخل قوى كبرى ستنقذ الموقف في اللحظة النهائية وإلى أوهام قدرة العراق على الصمود وإلى أوهام فشل أمريكا في تكوين تحالف دولي قوي.

أتذكر أن رئيس تحرير جريدة الأهالي الراحل الأستاذ فيليب جلاب قد أجرى حوارًا مع عسكري مصري بارز ولم يسمه، قال فيه العسكري المصري: أمريكا ستضرب وستضرب بكل قوة تمتلكها.

نزل علينا تصريح العسكري المصري البارز نزول الصاعقة، فقد أقام الرجل الحجج العقلية على صدق تحليله.

جاء ليل الخميس السابع عشر من يناير من العام 1991 وفتحت أمريكا بوابات الجحيم لا على بغداد بل على كل العراق، لا على كل العراق بل على حاضر ومستقبل هذه الأمة المسكينة المحاصرة.

في مئة ساعة لا تزيد دمرت أمريكا كل الدفاع الجوي العراقي، ثم في ستة أسابيع لا تزيد دمرت كل ما له علاقة بالجيش العراقي وبالبنية التحتية، ثم أعلنت تحرير الكويت!

كل ما فعله الأمريكان بالعراق لم يشف غليلهم، لقد فرضوا عليه حصارًا كالذي فرضه الكيان على غزة، حتى مناديل الحمام لم يكن مسموحًا بدخولها إلى العراق، حتى أقلام الرصاص منعوا دخولها العراق، وأيامها كنا نسمع الحجج المضحكة التي تخفي الهدف الكبير، كانت حججهم تدور حول منع العراق من تطوير الأسلحة النووية والبيولوجية!

ولا تسل عن علاقة المناديل الحمام بتطوير الأسلحة!

الهدف الكبير والحقيقي كان إسقاط نظام البعث الحاكم للعراق، إسقاطًا شاملًا جامعًا.

مضت عشر سنوات والعراق تحت الحصار الخانق، وكانت بادرة الأمل في تقرير سياسة" النفط مقابل الغذاء " التي وفقها يسمح للعراق ببيع بعض نفطه مقابل حصوله على بعض حقه في الأكل!

كل هذا الحصار لم يسقط النظام، فجاءت كارثة الحادي عشر من سبتمبر من العام2001

أيامها اتهموا العراق بأنه يرعى الإرهاب العالمي!

أتذكر صور كولن باول وزير خارجية الأمريكان، وهو يشير إلى شاحنة من شاحنات نقل الأثاث ثم يقسم بأنها مختبر نووي عراقي متحرك!

أتذكر توني بلير رئيس وزراء بريطانيا وهو يكاد يقسم بأن العراقيين هم يأجوج ومأجوج العصر الحديث.

تشكل حلف تقوده أمريكا ويضم بريطانيا وبولندا وأستراليا، حتى جاء يوم التاسع عشر من العام 2003 وفتحوا بوابات الجحيم على العراق، لقد عادوا لتدمير ما سبق له تدميره، في هذه المرة سيطروا جوًا وبرًا، لقد تدفقت قواتهم لإسقاط العاصمة بغداد الحبيبة الشقيقة.

أي كلام بعد سقوط العاصمة أي عاصمة هو هراء محض، فبسقوط العواصم تنهار الدول، في الثالث عشر من شهر ديسمبر من العام 2003 سقط صدام نفسه بين أيديهم، فتحقق لهم هدفهم الحقيقي وهو إسقاط النظام كله، ومن يومها وهم في حصانة قواعدهم في قلب العراق.

الآن وعدوان الكيان على إيران على أشده، والأمريكان بأنفسهم يشاركون في المعارك ويقومون بقصف المواقع المرتبطة بالمشروع النووي الإيراني، يعود الأمريكان لمواصلة لعبتهم المفضلة التي لا يستغنون عنها، لعبة الخداع الاستراتيجي، ففي كل ساعة لهم تصريح ينقاض سابقهم، فهم بعد أن قالوا: لقد محونا المشروع النووي الإيراني، عادوا ليؤكدوا بأن نتائج الضربة لم تظهر بعد!

هذه المراوغة نحن ذقنا مرارتها وتجرعنا سمها، ونمنا في ظلها ثم صحونا على تبخر نظام حكم تربع على عرش العراق لعقود طويلة، لا أريد الوقع في فخاخ الخوف ولكني لا أريد الوقوع في فخاخ الأماني الكذوب، فما أشبه الليلة بالبارحة، فإذا انطلقت الصواعق الأمريكية فكن على يقين من أنها تريد احتلال إيران وليس أقل من ذلك ودع عنك قصص قصف المواقع النووية ومنصات الصواريخ الباليستية.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة 

السبت 28 يونيو 2025