يأتي عيد الأضحى المبارك فنتذكر الرسولين الكريمين،
سيدنا إبراهيم الخليل وولده سيدنا إسماعيل الذبيح، عليهما وعلى ابنهما رسولنا
الكريم الصلاة والسلام، لكن معظمنا يغفل عن دور السيدة المصرية الكريمة أم العرب
السيدة هاجر، فقصتها مع سيدنا إبراهيم الخليل ومع ولدها سيدنا إسماعيل هي التي
خلدها مولانا عز وجل وجعلها عيدًا للمؤمنين به وحده لا شريك له.
تروى لنا كتب التاريخ بدايات قصة الفتاة المصرية هاجر
مع خليل الرحمن فتقول: إن الخليل عليه السلام كان متزوجًا من ابنة عمه السيدة سارة
وكان يقيم معها في أرض فلسطين، ثم زارا مصر التي كان يحكمها في ذلك الوقت حاكم
باطش، صعق عندما رأى جمال السيدة سارة، فأراد الوصول فمد يده نحوها فصدته السيدة
العفيفة وهي تدعو ربها قائلة: "اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبنبيك، واحصنت
فرجي إلا على زوجي، فاكفني هذا الفاجر".
يكمل المؤرخون القصة فيقولون: بعد أن دعت الله تعالى
بهذا الدعاء تجمدت يد الحاكم، ولم يعد يستطيع الحراك، فأصابه خوف وذعر شديدان،
وقال لها "ماذا فعلت بي، اطلقيني ولن أمسك بسوء".
ثم أمر جنوده بحاميتها إلى أن تعود إلى بيتها محملة
بالهدايا، وكان على رأس هداياه الفتاة هاجر.
أصبحت هاجر جارية لدى السيدة سارة التي لم تكن تنجب،
وكان زوجها خليل الرحمن يتوق إلى ولد، ففكرت السيدة سارة في أن تهب جاريتها لزوجها
فلعلها تحقق له أمله في الإنجاب.
تزوج الخليل من هاجر لتصبح سيدة بيته، وحملت بإسماعيل
وولدته فقرت به عين ابيه الخليل، ثم أمر مولانا عز وجل رسوله الخليل بأن يهاجر إلى
مكة مع السيدة هاجر وولده سيدنا إسماعيل.
ما أقسى هذا الاختبار وما أصعب هذا الابتلاء، كيف
كانت مكة في ذاك الزمان البعيد؟
كانت مكة المكرمة كما وصفها سيدنا إبراهيم عندما دعا
ربه قائلًا: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يخفى
عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ".
عندما قرر الخليل العودة إلى فلسطين صاحت السيدة
هاجر: كيف تتركنا في هذا الوادي وحدنا؟ الله امرك بهذا؟
فرد عليها الخليل: نعم
فقالت: إذا لا يضيعنا.
إذا وصفنا السيدة هاجر بسيدة الرضا والتسليم
والاطمئنان فلن نقع في فخاخ المبالغة، لأنها حقًا وصدقًا كانت كذلك، والأمر عندها
كان أمر إيمان برب آمنت به، وبزوج علمت أنه مرسل من قبل الله فقبلت بكل ما يقول
وما يفعل.
إنها بتعبيرنا المعاصر سيدة بيت وربة أسرة تعرف كيف
تؤسس أسرة وتقيم حضارة منها ومن طفلها ولا ثالث إلى إيمانها بأن الرحمن الرحيم لن
يضيع تلك الأسرة التي امتثلت لأمره.
هل كانت تعلم المصرية ربيبة القصر الحاكم المقام على
ضفاف نهر خالد دافق، إنها مرشحة لدور إنساني سيخلدها في ضمير البشرية حتى قيام
الساعة؟
نحن الآن أمام سيدة كانت منعمة تعيش في قصر ملكي، ثم
فجأة أصبحت تعيش مع طفلها في واد غريب عنها وليس به من مقومات الحياة شيء، فلا ماء
ولا زرع ولا شيء سوى الرمال والصخور والجبال ثم الرمال والصخور والجبال.
ولكي تكتمل الدائرة فقد نفد طعامها وشرابها.
ماذا ستفعل سيدة شابة كانت مرفهة تعيش في قصر ملكي لا
تشغل نفسها بمأكل ولا مشرب؟
لقد حانت ساعة الحقيقة فهل ستثبت لاختبار جديد، أم
تخسر كل شيء؟
تعالوا نتخيلها وهي عليها السلام تضم طفلها لصدرها
وتناجي ربها أن يعجل بتفريج كربها وكرب وليدها.
ولأنها عليها السلام زوج نبي مرسل فهي تدرك قيمة
العمل ومعنى السعي، ووجوب بذل الجهد ثم سترسل السماء غيثها، المهم أن نعمل أولًا
ولا نقع في بئر اليأس والقنوط والسخط، الله لن يضيع أجر العاملين وهو أرحم من أن
يترك امرأة وحيدة في كل هذه الصحراء بدون طعام ولا ماء.
بدأت السيدة الجليلة رحلة البحث عن الماء أو عن أحد
يدلها على الماء فراحت تصعد جبل الصفا مرة وجبل المروة مرة ثانية، السعي الآن وبعد
كل ما تقدمه بلاد الرحمين الشريفين من خدمات يعد عملًا شاقًا، فكيف كان الأمر قبل
آلاف السنين؟
تواصل سعيها بين الجبلين العظيمين سبع مرات، ليخلد رب
العالمين سعيها ويصبح شعيرة من شعائر الحج، وسيظل سعيها خالدًا إلى قيام الساعة،
فأي مكافأة هذه؟
نعود إلى المؤرخين فنجدهم يقولون: عندما بلغ التعب
منها كل مبلغ، أرسل الله رسوله جبريل فضرب بعقبه الارض ففجر منه نبعا، وعادت الأم
لتجد عند ولدها نبعا من الماء، بقدرة من الله تعالى كرامة لها ولطفلها، فجعلت تزم
التراب حوله كي يتجمع، ولذلك سمي زمزم.
روى الإمام أحمد أن رسولنا الكريم قد قال: "رحم
الله هاجر أم اسماعيل لو تركتها لكانت ماء معينا".
أخيرًا جاء الماء، ومتى وجد الماء وجدت الحياة، لأن
القانون الإلهي جعل من الماء كل شيء حي.
في تاريخ الإمام الطبري ما ملخصه: أن قبيلة جرهم كانت
تعيش بواد قريب من مكة، قال ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء فلما رأت جرهم الطير
لزمت الوادي قالوا ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاءوا إلى هاجر فقالوا لو شئت كنا معك
وآنسناك والماء ماؤك، قالت نعم فكانوا معها حتى شب إسماعيل.
مكة المكرمة أصبحت عامرة، بها ماء وبها ناس، وبها
سيدة زمزم وولدها الذي أصبح فتًا يشار إليه بالبنان.
كل تضحيات السيدة هاجر كانت من أجل ولدها إسماعيل،
وكل ما كان يتوق إليه الخليل هو أن ينعم الله عليه بولد، فكان إسماعيل، ولكن
الاختبار ما يزال قائمًا.
هؤلاء القوم يريد الله أن يطهرهم تطهيرًا ليكون
الواحد منهم أمة بأكملها، يصهر معادنهم الشريفة فتصبح أنقى وأطهر لا يلحقها من
غبار البشرية شيء، ذلك الاصطفاء لا يتم إلا بتجربة مؤلمة.
وقد جاء زمن التجربة فتعالوا نقرأ من الكلم الطيب ما
ملخصه: بدأ العمران يبسط أجنحته على المكان. كانت هذه هي المحنة الاولى.. أما
المحنة الثانية فهي الذبح.
كبر إسماعيل.. وتعلق به قلب إبراهيم.. وابتلى الله تعالى إبراهيم بلاء
عظيما بسبب هذا الحب. فقد رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه الوحيد
إسماعيل. وإبراهيم يعلم أن رؤيا الأنبياء وحي. انظر كيف يختبر الله عباده. تأمل أي
نوع من أنواع الاختبار. نحن أمام نبي قلبه أرحم قلب في الأرض. اتسع قلبه لحب الله
وحب من خلق. جاءه ابن على كبر.. وقد طعن هو في السن ولا أمل هناك في أن ينجب. ثم
ها هو ذا يستسلم للنوم فيرى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره ووحيده الذي ليس له
غيره. أي نوع من الصراع نشب في نفسه. يخطئ من يظن أن صراعا لم ينشأ قط. لا يكون
بلاء مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع. نشب الصراع في نفس إبراهيم.. صراع
أثارته عاطفة الأبوة الحانية. لكن إبراهيم لم يسأل عن السبب وراء ذبح ابنه. فليس
إبراهيم من يسأل ربه عن أوامره. فكر إبراهيم في ولده.. ماذا يقول عنه إذا أرقده
على الأرض ليذبحه.. الأفضل أن يقول لولده ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن
يأخذه قهرا ويذبحه قهرا. هذا أفضل.. انتهى الأمر وذهب إلى ولده "قَالَ يَا
بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى"،
انظر إلى تلطفه في إبلاغ ولده، وترك الأمر لينظر فيه الابن بالطاعة.. إن الأمر
مقضي في نظر إبراهيم لأنه وحي من ربه.. فماذا يرى الابن الكريم في ذلك؟ أجاب
إسماعيل: هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) تأمل رد الابن.. إنسان يعرف أنه
سيذبح فيمتثل للأمر الإلهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده من الصابرين هو
الصبر على أي حال وعلى كل حال.. وربما استعذب الابن أن يموت ذبحا بأمر من الله..
ها هو ذا إبراهيم يكتشف أن ابنه ينافسه في حب الله. لا نعرف أي مشاعر جاشت في نفس
إبراهيم بعد استسلام ابنه الصابر. ينقلنا الحق نقلة خاطفة فإذا إسماعيل راقد على
الأرض، وجهه في الأرض رحمة به كيلا يرى نفسه وهو يذبح. وإذا إبراهيم يرفع يده
بالسكين.. وإذا أمر الله مطاع. (فَلَمَّا أَسْلَمَا) استخدم القرآن هذا التعبير.
هذا هو الإسلام الحقيقي.. تعطي كل شيء، فلا يتبقى منك شيء. عندئذ فقط.. وفي اللحظة
التي كان السكين فيها يتهيأ لإمضاء أمره.. نادى الله إبراهيم.. انتهى اختباره،
وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم.
هنا نتوقف قليلًا للنقل عن فضيلة الشيخ الأستاذ علي
جمعة المفتي السابق للديار المصرية، يقول فضيلته: "إنه يرجح أن زواج سيدنا
إبراهيم - عليه السلام- من السيدة هاجر كان في مصر أكثر من رواية كونه بعد الرحيل؛
لأنه لا يوجد مساحة زمنية بين الإهداء والحمل؛ فالمتتبع للأحداث يجد أن أمر الزواج
تم بسرعة فائقة.
وفي القرآن يقول- تعالى-: «وبشرناه بغلام حليم»،
والتوراة تقول إن الذبيح هو إسحاق: " أذبح لك وحيدي إسحاق"، وإسحاق لم
يكن وحيدًا فكان له أخ أكبر منه هو إسماعيل، فالسياق يقول أن هناك: " وحيدي،
وإسحاق"؛ فوحيدي فيها إشكال، لافتًا إلى أن الذبيح الأول: سيدنا إسماعيل،
والذبيح الثاني: سيدنا عبد الله - أبو النبي صلى الله عليه وسلم- بشكل عام، ورواية
" أنا ابن الذبيحين ضعيفة".
وأنه بتتبع واستقراء ما يزيد على نحو 40 آية نجد أن
الذبيح هو سيدنا اسماعيل- عليه السلام- ابن السيدة هاجر، مع رواية عجيبة مرفوضة،
مضمونها: "أن سيدنا إسماعيل كبر مع سيدنا إسحاق، وضرب إسماعيل اسحاق ذات مرة؛
فحزنت السيدة هاجر، وكأنه بيت عادى، ومن ثم حدثت الهجرة "؛ فهذا مرفوض
تمامًا، والذي حدث أن الله أوحي إلى سيدنا إبراهيم أن يأخذ السيدة هاجر وسيدنا
إسماعيل لتعمير البيت الحرام والسيدة سارة بقيت مع ابنها اسماعيل لتعمير بيت
المقدس.
وأشار الدكتور على جمعة إلى أن النسب إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم- كان من السيدة هاجر أم سيدنا اسماعيل، أبو العرب وجد النبي - صلى
الله عليه وسلم-، والصهر مع مارية القبطية عندما أسلمت وتزوجت النبي - عليه الصلاة
والسلام- واصبحت أم ولد، ولحقت بأمهات المسلمين.
والسيدة هاجر - رضى الله عنها- أم العرب، بنت الملوك،
أخذت أسيرة من بيت أبيها بمصر في أحد حروب أقاليم مصر قبل توحيد القطرين، وكانت
هبة عظيمة من الملك لسيدنا .
أحسنت التوكل على الله عندما تركها سيدنا إبراهيم-
عليه السلام- مع ابنها في الصحراء بلا زاد ولا ماء؛ فسعت وبحثت وفجر الله لها
ينبوعًا من ماء هو خالد إلى يوم القيامة، وأصبح سعيها ركن من أركان الحج في
الإسلام؛ فهذه هاجر أم العرب مثلًا وقدوة وفخرًا".
الفداء العظيم الذي وقع للخليل وابنه سيكون سنة
خالدة، ومكافأة إلهية لأسرة صابرة محتسبة تقوم لأمر الله ولا تسخط لأقدار صعبة
مؤلمة، من تلك اللحظة الحاسمة بدأت بهجة العيد فهل ترى كيف يصنع الله آياته
ويحكمها، لحظة ذبح أكيد تصبح بهجة عيد قادم سيتواصل إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها.
ثم تحصل السيدة هاجر على مكافآت إضافية عندما يشارك
ابنها أباه في بناء بيت الله.
جاء في تاريخ الطبري عن ابن عباس قال: جاء يعنى
ابراهيم فوجد اسماعيل يصلح نبلا له من وراء زمزم فقال ابراهيم يا إسماعيل إن ربك
قد أمرني أن أبنى له بيتا فقال له اسماعيل فأطع ربك فيما امرك فقال ابراهيم قد
أمرك أن تعينني عليه قال إذا أفعل قال فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل
يناوله الحجارة ويقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)، فلما ارتفع
البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم فجعل يناوله
ويقولان تقبل منا إنك أنت السميع العليم فلما فرغ إبراهيم من بناء البيت الذى أمره
الله عز وجل ببنائه أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج فقال له (وأذن في الناس
بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) فقال إبراهيم يا رب وما يبلغ
صوتي قال أذن وعلى البلاغ فنادى إبراهيم يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت
العتيق قال فسمعه ما بين السماء والارض أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الارض يلبون.
ثم صعدت روح أم العرب وجدتهم الكبرى إلى بارئها فقام
ابنها سيدنا إسماعيل بدفنها بجوار البيت الحرام.
وبعدُ فيجب علينا مع كل عيد أن نتذكر السيدة هاجر
عليها السلام ولها الرضوان، فهي فخر بنات جنسها وسيدة من سيدات العالمين، ويكفيها
شرفًا وتكريمًا أن مولانا الرحمن الرحيم الوهاب قد تكرم عليها فجعل من أفعال يومها
شعائر مقدسة نحرص عليها بل نسعى خلف تحقيقها باذلين كل غال ونفيس.
مع كل عيد تذكر أن أميرة مصرية مرت من هنا، عليها
السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة صوت الأمة 5 يوليو 2022م.