الأربعاء، 10 ديسمبر 2025

لا تقنطوا فهذا الليل سينتهي


 

أنظرُ أنا المسلم العربي المصري جنوبًا، لا أشاهد سوى السودان الحبيب الشقيق وهو يتمزق تحت وطأة حرب جنونية، الرابح فيها خاسر، أنظرُ غربًا فلا أجد سوى ليبيا الشقيقة الحبيبة وهى تدفع ثمن الأهواء والتشرذم والفرقة، أذهب ببصري شرقًا فلا أبصر سوى قواعد لا تحمي أحدًا، لا تحمي حتى الذين أنفقوا عليها الغالي النفيس، أذهب ببصري شمالًا فأجد الحبيب الشقيق لبنان العصفوري التكوين وهو ينزف دماء قلبه، ثم أجد أحد جناحي دولة الوحدة ، سوريا الحبيبة الشقيقة والعدو يقصفها مع كل وجبة، أكاد أجن ، ثم أصرخ أما لهذا الليل من آخر؟

أقلب أوراقي القديمة، ليس من باب إضاعة الوقت أو من باب دغدغة المشاعر أو من باب بث الطمأنينة في غرفات القلب الذي تمزقه سياط الحزن على أمتي التي كانت عظيمة مهابة.

أقلب أوراقي القديمة فأجد ورقة تقول: عندما حل العام 1258 كان المغول هم سادة الأرض، لقد أصبحوا أقوى قوة عسكرية عرفتها البشرية، كانوا يقضون على الأخضر واليابس، وأيامها كانت ممالك ودول المسلمين هي الأغنى والأكثر تقدمًا ومدنية وتحضرًا، هجم المغول على كل ما هو إسلامي ، فلم تصمد  أمامهم مملكة أو دولة ، لقد فتكوا  بالدولة  الخوارزمية ثم تمكنوا من كل بلدان الشام وعلى رأسها فلسطين ، ثم قرروا الحصول على الجائزة الكبرى ، إنهم الآن في طريقة إلى عاصمة الدنيا وقلعة الإسلام والعروبة، إنهم ذاهبون إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية التي شكلت عبر قرون إمبراطورية لم تكن الشمس تغيب عنها، أين مصر في تلك الملحمة؟ لقد كانت مصر واقعة أيامها في قبضة خلافات داخلية مهلكة، فكل أمير من أمراء المماليك كان يحارب أخاه!

تقدم هولاكو بجيشه المدمر باتجاه بغداد فحاصرها لأيام قلائل، قبل أن تنهار دفاعتها ويفر حرسها!

هل تعرف وطأة سقوط العاصمة؟

اللهم لا تجربنا، اللهم لا تكتب علينا يومًا كيوم سقوط بغداد.

تضيف أوراقي القديمة: لقد بدأت جيوش المغول في الوصول إلى مشارف العاصمة بغداد في اليوم التاسع والعشرين من شهر يناير من العام 1258 (احتفظ بالتاريخ فسنعود إليه) وفي صباح العاشر من فبراير من العام ذاته تم للمغول ما أرادوا، لقد أهلكوا العاصمة وقتلوا الخليفة ودمروا كل شيء، حتى الكتب التي هي كتب قاموا بتدميرها، لقد قضوا على كل معالم الحضارة التي حكمت العالم لقرون.

كل الجناح الآسيوي من العالم الإسلامي هو الآن في قبضة المغول، لقد حقق هولاكو فوق ما كان يحلم به، سيعود الآن إلى بلاده قائدًا منتصرًا فذًا، لقد قضى على إمبراطورية المسلمين والعرب.

لا، يا صاحبي، ما تزال درة التاج بعيدة عن يديه، وما درة التاج سوى مصر، لو أخذ مصر فيحصل مجانًا على كل إفريقيا ولن تقف في وجهه قوة، مصر هي رمانة الميزان، وهي الكتلة الصلبة الصلدة التي لو فتتها فسينتهي كل شيء مرة واحدة وإلى الأبد.

تعالوا نسترجع تاريخ سقوط بغداد، لقد سقطت في العام 1258، لقد ضرب الوجع قلب كل عربي ومسلم، ولكنها كانت ضربة الصحو والاستفاقة، فبعد صراع مرير توحدت مصر تحت قيادة القائد الفذ سيف الدين قطز الذي تمكن من توحيد صفوف المماليك وضم إليه أشدهم في القتال وعلى رأس هؤلاء القائد التاريخي الظاهر بيبرس.

لقد أمعن القادة المصريون النظر في خارطة المعارك، المغول لم يعدوا إلى بلادهم منتصرين غالبين، لقد تمركزوا على بعد حجر من مصر، قواتهم المتقدمة وقاعدتهم المركزية في قلب فلسطين، هم يريدون مصر لا شك في ذلك.

الصحوة جعلت قطز والذين معه، يستعدون على أكمل وجه ممكن لمعركة فاصلة، نحن الآن في العام 1260، لقد مر عامان فقط على نكبة اقتلاع الخلافة وقتل الخليفة وتدمير العاصمة بغداد، مر عامان فقط، وكان المغول يقدرون أن العرب والمسلمين لن تقوم لهم قائمة إلا بعد مئة سنة على أقل تقدير، ولكن " ليس سوى أن تريد" لقد أراد المصريون القضاء على تلك الهمجية الجنونية التي تدمر كل شيء وتبيد كل شيء ولا تحترم معنى أو قيمة.

ترى كيف كانت مشاعر الجيش وقياداته؟

إنه جيش شاهد بعينيه عاصمة خلافته وهي تدمر، وشاهد الخليفة وهو يقتل وشاهد كنوز الحضارة وهي تباد.

إنه جيش ذاهب إلى معركة صفرية، نكون أو لا نكون، للأسف لا تتحدث أوراقي القديمة عن الأحاسيس أو المشاعر، ولكني أجزم الآن أن الخوف لم يكن يعرف طريقًا لقلوب هؤلاء السادة.

تقدم جيشنا العظيم حتى وصل إلى سهل عين جالوت الواقع بين بيسان ونابلس، لقد ذهب الجيش إلى قاعدة المغول المركزية، وفي صباح يوم الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك من العام 658 هجرية الموافق للثالث من سبتمبر من العام الميلادي 1260، جرت ملحمة عين جالوت.

في عامين فقط وبعد قاصمة الظهر في بغداد، عاد الأسد ليصول ويجول، لقد عاد العملاق ليقضي على الهمجية، قاتل الجيشان أشد القتال، جيش العدو كانت يدرك أنها الفاصلة، وجيشنا العظيم كان يبحث عن إحدى الحسنيين، نصر أو شهادة، تواصل القتال المر إلى أن تقدم بطل من أبطال جيشنا هو القائد الأمير جمال الدين آقوش الشمسي، وبضربة واحدة أسقط رأس قائد جيوش العدو، لقد قتل كتبغا، وبقتله لاحت تباشير الصباح وانتهى الليل الطويل الثقيل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة السبت 27 سبتمبر 2025 

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2025

بيت جن تعيد مجد رأس العش

 

فجر يوم الجمعة 28 نوفمبر 2025، قرر جيش الكيان مواصلة إذلال ريف دمشق، وتحديدًا قرية تدعى " بيت جن " وهي تقع على بعد خمسة وخمسين كيلو غرب العاصمة دمشق، كان في حساباته أنها ستكون جولة كسابقتها، يقتحم ويعتقل ويقتل وينسف بيوتًا أو ما بقي من مواقع ثم يغادر في أمان مطلق لا تُمس منه شعرة بسوء.

ليلة الأول من يونيو 1967 جيش الكيان ذاته يتقدم بقوة ميكانيكية كبيرة

مكونة من الدبابات سنتوريون وكانت الأشد فتكًا في زمانها إضافة إلى ناقلات جنود نصف مجنزرة، إضافة إلى عدد كبير من المحاربين، يريد احتلال مدينة بور فؤاد، بادئًا من منطقة رأس العش.

كانت قد مر أقل من شهر  على  واقعة قاصمة الظهر (خمسة يونيو 1967)

معنويات الكيان كانت تحلق عاليًا تحت شعار الجيش الذي لا يقهر، ولا تسل عن معنوياتنا نحن.

ماذا حدث في الليلتين التاريخيتين.

في الليلة الأحدث وهي الليلة السورية، تقدم جيش الكيان مستهدفًا اعتقال جماعة قال إنهم ينتمون لفصيل ضد الاحتلال!

جاء أمر الله من حيث لا يحتسب جيش الكيان، فجأة هب سكان القرية، سكان مدنيون وليسوا فصائل مسلحة ومدربة، إنها ساعة الفجر حيث معجزة ميلاد يوم جديد، وحيث بركة قرآن الفجر وسر التسابيح، حاصر الأهالي بما تيسر لهم من سلاح خفيف، قوات الاحتلال، وأمطروها بوابل من الرصاص، ارتبكت القوة، فهذه هي المرة الأولى ( لن تكون الأخيرة بإذن الله) التي يقعون فيها في فخ محكم، بعد الارتباك جاء التبعثر، بعد التبعثر جاء الفرار، لقد فقدوا مدرعة وأصيب منهم ثمانية، جراح ثلاثة منهم خطيرة جدًا، بعد الفرار استغاثوا بيدهم الباطشة، تضرعوا لطيرانهم، الذي راح يقصف كل جسد يتحرك، فقتل خمسة من أسرة واحدة، ثم قتل ثمانية، كانوا يعبرون الشارع، وهدموا ما  طالته قنابلهم من بيوت، وعندما هدأت الساحة، جلسوا لإعادة الحسابات ، أهالي يقاتلوننا، ثم ينتصرون علينا ويجبروننا على الفرار، نعم قصفناهم ودمرنا بيوتهم، ولكن ماذا سيكون حالنا لو امتلكوا منظومة دفاع جوي؟

أما في الليلة المباركة، أعني ليلة الأول من يوليو من العام 1967 فقد كانت بداية الملاحم وفاتحة الأمجاد ، عند رأس العش كانت تعسكر قوة صغيرة من الصاعقة المصرية، بحثت عن العدد فلم أجد حصرًا دقيقًا، ولكن وجدت أن معظم المصادر قدرت عدد القوة ما بين ثلاثين إلى ستين مجاهدًا، لم يكن بين أيدي أبطالنا سوى الأسلحة الخفيفة المضادة للدروع (آر بي جي وبنادق آلية). العدو واضح حد الوقاحة، هو يريد احتلال بور فؤاد وفصلها عن الجسد المصري، أبطالنا تبادلوا النظرات، ثم بايعوا قائدهم على الموت، سنقاتل حتى آخر طلقة وحتى آخر رصاصة.

أن تموت رجلًا مقبلًا غير مدبر، فهذا معنى لا يفقهه سوى الرجال، أبطالنا احتسبوا أنفسهم شهداء، وما النصر إلا صبر ساعة، وما الشهادة إلا رصاصة واحدة تخترق الجسد.

تقدم العدو مسلحًا بدباباته ومجنزراته، أعد أبطالنا الكمين وأحسنوا الإعداد، تركوا العدو يتقدم حتى أصبح في مرمى نيرانهم، صوب بطل الطلقة الأولى ففجر الدبابة الأولى، آه من هذه اللحظة، إنها فاتحة المجد، دبابة يصطادها جندي مصري هزم من خمسة وعشرين يومًا، ما الذي حدث، هل تبدل المصريون بين ليلة وضحاها؟

سيطر العدو على ارتباكه، وبدأ الاشتباك الجنوني، أجساد مصرية تقابل الدبابة المتوحشة، إنها وحش من حديد لا تعرف معنى الوطن ولا تعرف معنى الرجولة والشهامة والشهادة.

تواصل الاشتباك حتى صباح الثاني من يوليو، لم تنجدهم اليد الباطشة، لقد خافوا من كمين جوي يسقط طيرانهم، عرفوا أن المصريين لن يكفوا عن القتال، خسروا ثلاث دبابات كما قالت بعض المصادر، بينما قالت مصادر أخرى لقد خسروا ست دبابات، خسروا ضباطًا وجنودًا.

ما الذي حدث في الليلتين المباركتين؟

لم يحدث شيء، لقد حدث الذي يحدث دائمًا، " سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا".

عندما تقرر المقاومة وترضى بدفع ثمنها فلا تنتظر إلا النصر ولو طال الزمن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر بجريدة صوت الأمة السبت

الموافق 6 ديسمبر 2025

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الخميس، 27 نوفمبر 2025

أما غزة فلا بواكي ولا شندلر لها!


قدمت السينما الأمريكية في العام 1993 فيلم " قائمة شندلر".

يحكي الفيلم عن رجل الأعمال الألماني "أوسكار شندلر" الذي بدأ انتهازيًا يحاول استغلال ظروف الحرب العالمية الثانية ليحقق ثروة كبيرة، انطلق شندلر من موطنه ألمانيا إلى بولندا التي كانت تحت الحكم الهتلري النازي، وأنضم إلى الحزب النازي ليعزز مكانته ويحمي مصالحه، واستخدم العمالة اليهودية لبناء مصنعه وتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح (طبعًا الفيلم يقدم اليهود كأنهم من الملائكة أولي الاجنحة!) ، في لحظة تنوير يرى شندلر كيف يبطش النازي باليهود الأبرياء!

قام شندلر بالتعاون مع شريك له بإعداد قائمة بأسماء العمال اليهود لكي يصبحوا عمالًا رسميين في مصنعه بما يتيح لهم الإفلات من القتل على يد النازي.

أفلحت القائمة في إنقاذ ألف ومئتي عامل من القتل، فأصبح شندلر من منقذي العالم! فحملة الدعاية للفيلم كانت تحمل عبارة من التلمود تقول:" من أنقذ روحاً فقد أنقذ العالم بأسره".

طبعًا الفيلم كان دعاية صاخبة لدولة الاحتلال وترويجًا لمظلومية اليهود.

مصريًا قررت الأجهزة المعنية منع عرض الفيلم، لأدراكها أن الفيلم هو دعاية لكيان الاحتلال وليس أكثر، رسالة الفيلم انتبه إليها الكاتب الأستاذ رفعت رشاد الذي كتب:" فى عام 1994 كنت فى بعثة دراسية فى الولايات المتحدة الأمريكية بصحبة رفقة متميزة من الزملاء الصحفيين. شاهدنا فى دار السينما فيلم قائمة شندلر، الذي منعت مصر عرضه فى مهرجان القاهرة السينمائي، الذي كان يرأسه وقتها الراحل الكاتب سعد الدين وهبة. صُنع الفيلم بحرفية عالية، خلال مشاهدة الفيلم كان غالبية الموجودين فى قاعة العرض لا يبكون فحسب، بل ينتحبون. لقد حقّق الفيلم الهدف من صنعه، وكانت نهايته السعيدة بميلاد إسرائيل مجسّدة فى طفلة بريئة تحمل زهرة تقدّمها إلى لا شخص.. إلى العالم كله.. وكانت الطفلة الشخصية الوحيدة التي ظهرت بالألوان فى الفيلم".

كنتُ من الذين شاهدوا الفيلم عبر نسخة فيديو مهربة، لم يبق في ذاكرتي منه سوى طنين الدعاية ومشهد واحد، يصور شابًا نازيًا، يقف كسولًا في شرفته، ثم فجأة وبدون أي سبب يتناول بندقيته ويطلق رصاصة تفجر رأس يهودي يمر تحت شرفته!

ستمر عشر سنوات على مشاهدتي للفيلم، ثم سيقوم جيش الاحتلال بمحاولة لاقتحام مخيم جنين، تخيل جيش في مواجهة مخيم، وتخيل صمود المخيم لاثني عشر يومًا، ثم تفشل محاولة الاقتحام ويغادر الجيش المحتل أرض المعركة خائبًا!

ستنشر جريدة أخبار الأدب المصرية القاهرية ملفًا عن المعركة هو ترجمة لشهادات محاربات ومحاربي جيش الاحتلال.

في شهادة لها قالت محاربة ما ملخصه: قاتلت لأسبوعين، وكنت أتحرق شوقًا لشقتي وصديقي، وأخيرًا عدت إلى شقتي، اغتسلت جيدًا وجئت بعشاء شهي، وجاء صديقي ليمضي ليلته معي، مارسنا الحب كثيرًا وعميقًا، غادر صديقي صباحًا وتركني أنعم بنوم طيب، صحوت فاغتسلت وتناولت الفطور، وجلست تحت شمس شرقتي المشرقة، كان الجو صحوًا وكنت منتعشة بفضل العودة وليلة الحب التي منحنيها صديقي، نظرت إلى الشارع فرأيت فلسطينيًا عجوزًا يسير متمهلًا وهو يحمل أكياس الفاكهة والخضروات واللحوم، شعرت بلذة عجيبة، غادرت شرفتي ثم عدت إليها  حاملة بندقيتي ، ضبطت عدستها ثم صوبت على كعب الفلسطيني اليمين، فقفز في الهواء من شدة الألم، ثم صوبت على كعبه الأيسر، ثم صوبت على أكياسه، فتفجرت وسقط محتواها مختلطًا بالدم والتراب، ثم صوبت إلى تلك السلسلة العظمية التي فوق مؤخرته تمامًا فراح يعوي من الألم، لم أكن أنوي قتله، كنت أريد رؤيته وهو يرقص من الألم، وقد رقص حتى غزتني نشوة غريبة، نعم نشوة حسية كالتي شعرت بها ليلة أمس وأنا بين ذراعي صديقي!

انتهت شهادة المجرمة التي تعذب الفلسطيني لأنه فلسطيني، هل شاهدت تلك المجرمة شاب فيلم قائمة شندلر وتأثرت به فقلدته؟

القصتان ولدتا من رحم واحدة، إنه القتل من أجل القتل، النازي يقتل اليهودي، والصهيوني يقتل الفلسطيني، ولكن سبحان الله لقد وجد اليهودي شندلر لينقذه، ولكن الفلسطيني لا شندلر له، المواطن الغزي يعيش تحت وابل الرصاص ووابل المطر والعدو يمنع دخول المساعدات إلا أقل القليل منها، إنه يمنع دخول خيم حقيقية قد تقاوم المطر والبرد، وشندلر الألماني متحالف مع العدو، أما شندلر العربي والمسلم فقد خرج من أرض المعركة ولم يعد بعد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة

السبت 22 نوفمبر 2025

 


الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

فلنحتفل بشاعر المقاومة


تحل الذكرى الأربعون على رحيل الشيخ الإمام فؤاد حداد وفلسطين كالعهد بها تقاوم.

ولد شاعر الشعب، الشيخ الإمام الأستاذ فؤاد حداد في اليوم الثلاثين من شهر أكتوبر من

 العام1927م، ورحل إلى رحمة ربه في يوم قريب جدًا من يوم ميلاده، فقد رحل عن دنيانا

في اليوم الأول من شهر نوفمبر من العام 1985، رحل وهو في الثامنة والخمسين من 

عمره (انتبه معي إلى أن كل ما أنجزه الأستاذ هو كثير جدًا أنجزه في أقل من عشرين عامًا، فهناك عشر سنين  أمضاها في الزنازين).

بمناسبة اقتراب الذكرى الأربعين على رحيله والثامنة والتسعين على ميلاده، فقد كتب 

ابنه الشاعر الكبير الأستاذ أمين حداد: "يوم الخميس ٣٠ أكتوبر هو عيد ميلاد

 فؤاد حداد الثامن والتسعون والسبت ١ نوفمبر هو

ذكرى وفاته الأربعون. لا أذكّر أحدًا من القائمين على الثقافة والأدب فلن يجدي معهم الكلام،

ولكن أذكّر نفسي دائمًا بأن شاعرًا عظيمًا كان هنا وكان فضل الله علي كبيرًا إذ عشت معه

وكنت بجانبه وابنه وصديقه. وأقول إن شعره سيعيش ويرى ما يستحقه من اهتمام ودراسة

وانتشار".

اكتب كلمتي هذه منتظرًا مع الأستاذ أمين الاحتفال بذكرى شاعر الشعب الشيخ الإمام

 فؤاد حداد.

منذ تعرفت على شعر الشيخ الإمام قبل سنين بعيدة وأنا أعود إليه دائمًا فأجد الجديد، ولكن

الثوابت في شخصيته وفي قصيدته واحدة لا تعرف التبديل، فهو رجل متواضع جدًا عرف

مبكرًا أن زمانه لن ينصفه، فيباغتك بصيحة مدوية، اخترقت الزمان والمكان وظل صداها

يتردد إلى يوم الناس هذا، بل سيتردد إلى أن تدع العرب الشعر، ولن تدع العرب الشعر حتى

تدع العرب الحنين.

في صرخته قال الشيخ الإمام:"

 

أنا والد الشعراء فؤاد حدّاد

أيوه أنا الوالد وياما ولاد

قَبلِسّة رَبِّيتهم بكل وداد

بَعدِسّة تلميذ أوّلِي وإعداد".

ومن تلك الصرخة المباغتة جاء لقب "والد الشعراء"، ثم رثاه الأبنودي فقال: 

"أنت الإمام الكبير.. وأصلنا الجامع..

وأنت اللي نقبل نصلى وراك فى الجامع

بسيط يا مولاي، والضحكة فى صدرك.. قوت

فقير يا مولاي.. ورازقنا حرير.. وياقوت

ونشيد عشان الأرض

ودعوة.. للى يموت

وخريطة لفلسطين

وكُم.. للدامع".

ومن افتتاحية قصيدة الأبنودي جاء لقب "الإمام".

بالعودة إلى ثوابت الإمام نجده ألوفًا وفيًا، كأن روح جده المتنبي قد سكنته فقد قال الجد

المتنبي:

"خُلِقتُ أَلوفاً لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا

لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا".

مع ثورة يوليو تفجر شعر فؤاد جداد، ومع تفجر شعره جاء سجنه لمرتين، الأولى من

عام 1953 إلى 1956، والثانية من عام 1959 إلى 1964.

غادر الإمام سجنه فلم ينعزل ولم يعتزل، بل بادر بالمشاركة في احتفالية مرور ألف سنة 

على بناء القاهرة، وكان ديوانه "من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة

" يذاع على أثير

 محطة البرنامج العام بعد أن قام الموسيقار سيد مكاوي بتلحينه.

قال الشيخ الإمام:

"أول كلامي سلام

وتزققينى الكلام

أيام فى حضنك أنام

القلب الابيض هنا

يا مصر يا أمنا

واطلع فى نور الأدان

إذا دعا الوالدان

المدرسة والميدان

والإنسانية هنا

يا مصر يا أمنا".

ثم يرحل عبد الناصر الذي سُجن الإمام في عهده مرتين، ولكن لأنه كجده المتنبي فقد 

عاد إلى صباه موجع القلب باكيًا كتب قصيدة استغرقت ديوانًا كاملًا جعله في رثاء 

عبد الناصر ونشره

تحت عنوان "استشهاد جمال عبد الناصر".

يقول الشيخ الإمام مخاطبًا عبد الناصر:

"يا حضن مصري يا طلعة فجر يا ريّس

مع السلامة يا والد يا أحنّ شهيد

آدى الرقابى ودي الأعلام بتتنكـّس

فين طـلـّتك في الدقايق تسبق المواعيد

والابتسامة اللى أحلى من السلام بالإيد

يامعانا في كل فرحة ومعركة وجديد

أؤمر لى بحقوقى وهدوم الولاد في العيد

 

والمجانيّة ومرايل بيضا والأناشيد

والصبر ما يغلبهش الذلّ والتنهيد".

ولد فؤاد قبل النكبة (1948) بواحد وعشرين سنة، كان في ريعان شبابه وفي فتوة شعره،

 ثم توالت الضربات فقد عاصرها كلها، من زمن النكبة حتى زمن غزة لبنان واحتلال بيروت،

وهنا يبرز الثابت الثالث من ثوابت فؤاد حداد، إنها المقاومة، الرجل لم يفقد إيمانه بالمقاومة، ولو للحظة واحدة، إنه يقاوم ليل نهار ويدعو إلى المقاومة ويبشر بها، وكلما زاد عنف

الضربات ازداد إيمانه بالمقاومة وفي القلب منها فلسطين التي وهبها أصفى شعره.

قال الشيخ الإمام:

"ازرع كل الأرض مقاومة

ترمي في كل الارض جدور

إن كان ظلمه تمد النور

وإن كان سجن تهد السور

كون البادئ كون البادئ

كُل فروع الحق بنادق

غير الدم محدش صادق

من أيام الوطن اللاجئ

إلي يوم الوطن المنصور

ازرع كل الأرض مقاومة

خلي الاصل وخلي الدين

والحق الواحد شاهدين

خلي سلاحنا في كل يمين

ولا يضعف ولاعمره يلين

خلي الصبر شهور وسنين

يسند ظهر معديين

خلي عرقنا يلاقي جبين

يقطر منه على فلسطين".

تحل الذكرى الأربعون على رحيل الشيخ الإمام ، وفلسطين كالعهد بها تقاوم، فهلا احتفالنا به

وبالمقاومة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة الأحد الموافق 26 أكتوبر 2025م.