مَنْ منا إذا سمع اسم أبينا آدم عَقّب قائلًا: "صلى الله عليه وسلم؟".
مّنْ منا إذ ذكرت أمنا حواء تمتم قائلًا: "رضى الله عن أمنا حواء" أو "عليها السلام؟".
أليس تجاهل السلام على هذين الأبوين الكريمين يعد من العقوق؟
بل الأمر يتجاوز العقوق ليذهب إلى سوء الأدب مع هذين الأبوين الكريمين الجليلين، ألا تسمع أحدهم وهو يصب اللعنات على حواء وبناتها، ثم ألم يأتك صوت الجهول وهو يتحدث عن الأب الكريم الجليل آدم عليه الصلاة والسلام حديثه عن جليسه في المقهى.
لماذا خف عند أكثرنا وزن هذين الكريمين؟
ربما تكون الألفة هي السبب، فكل ألفة تهدر شيئًا من المهابة، وربما تكون السنوات بل القرون المتطاولة هي السبب، فتباعد الزمان يفعل فعله في النفوس.
على كل حال، يجب أن نعيد النظر في قلوبنا لكي ننزل أبانا آدم عليه صلى الله وعليه وسلم وأمنا حواء عليها الرضوان والسلام منزلة تليق بهما.
عندما نتحدث عن الأب آدم عليه السلام فنحن نتحدث عن البدايات المتعلقة بالبشر، البدايات الحاكمة لكل سلوك ولكل سبيل، شاء ربنا عز وجل أن يخلق الأرض فخلقها، ثم شاء أن يعمرها لا بالوحوش ولا بالملائكة ولا بالجن، لقد شاءت إرادته أن يعمرها بالإنسان، مخلوق اسمه الإنسان، سيخلقه الله من مادة هي بين المواد في المرتبة الدنيا، سيخلقه من التراب، ليصبح سيد الكائنات، ثم سيسخر له الله كل ما يصلح شأنه، وسيجعله يغلب الأرض بجبالها وبحورها وسهولها وصخورها ووديانها، ثم سيجعله يرقى إلى السماء حتى يصل إلى القمر، ثم سيجعله يكتشف الكواكب المجهولة والقارات المنسية، فأي معجزة تلك؟ وأي نعمة أنعم الله بها على الإنسان؟
الإنسان الأول الذي علمه الله كل شيء كان أبونا آدم عليه السلام، ولكي نستشعر النعمة التي أنعم بها الله عليه، نقرأ قول الحق عز وجل وهو يوبخ ويبكت إبليس اللعين : "يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ".
آدم خلقه الله بيديه المباركتين وقد نص سبحانه على مراحل وترتيب عملية الخلق، وقد أحسن العلامة الأستاذ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عندما قال:"اعلم أن الله جل وعلا أوضح في كتابه أطوار هذا الطين الذي خلق منه آدم، فبين أنه أولاً تراب، بقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ثم أشار إلى أن ذلك التراب بُلَّ فصار طيناً يعلق بالأيدي (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) وبيَّن أن ذلك الطين أسودَّ، وأنه متغير بقوله: (حَمَأٍ مَسْنُونٍ).
وبيَّن أيضاً أنه يبس حتى صار صلصالاً، أي تسمع له صلصلة من يبسه (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ).
وجاء في الحديث الشريف الذي رواه الترمذي وصححه الألباني: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمْ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَبَيْنَ ذَلِكَ".
ثم كانت النفخة الإلهية فكان آدم ولم يكن قبله إنسان، ودع عنك ما قاله الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه "أبي آدم" من وجود بشر قبل آدم، فما ذهب إليه الدكتور شاهين غفر الله له يعارض منطق آيات كثيرة تحدثت عن فرادة أبينا آدم، ويعارض أحاديث شريفة هي في أعلى درجات الصحة تقطع بأن آدم هو أب البشر ولا أب له ولا أم.
وقد شاهدت قبل سنوات مناظرة تليفزيونية بين الدكتور زغلول النجار والدكتور شاهين، وفيها فنّد النجار منطق شاهين حتى أنه سأله سؤالا مباشرًا: "ألم تقل لتلاميذك إن آدم كان له بابا وماما مثلكم؟".
فلم يرد الدكتور شاهين وتهرب من الإجابة.
إذن الكلام عن أولية آدم مقطوع به، أما غيره من كلام عن السلالة الأولى التي تطورت فأصبحت بشرًا فلا شأن لنا به ولا بقائليه ولا بمصدقيه.
خلق الله أبانا آدم عليه الصلاة والسلام فأصبح الرجل الأول الوحيد الفرد الذي بلا أهل ولا ولد، المتصدي بمفرده لكل صعوبات الحياة.
ضع في قلبك دائمًا أن آدم مخلوق للأرض وليس للجنة، ومهمته أثقل من أي مهمة، مهمته هى خلافة الله في الأرض، مهمته كانت حمل الأمانة التي أبت أن تحملها الجبال والسموات والأرض، لقد خافت تلك الكائنات العملاقة العظيمة من حمل الأمانة وأشفقن على أنفسهن منها، ولكن قدر آدم كان أن يحمل هو الأمانة.
وتحمله للأمانة يؤكد بأنه كان نبيًا ورسولًا، فعن أَبُي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَبِيًّا كَانَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، مُعَلَّمٌ مُكَلَّمٌ" أخرجه ابن حبان وصححه الألباني.
هذا عن كونه عليه السلام نبيًا أما عن كونه رسولًا فقد قال جمهور العلماء: "إن آدم وشيث عليهما السلام، كانا نبيين مرسلين قبل نوح عليه السلام إلا أن آدم أرسل إلى بنيه ولم يكونوا كفاراً بل أمرهم بتعليم الإيمان وطاعة الله، وأما شيث فكان خلفا له فيهم بعده، بخلاف نوح فإنه مرسل إلى كفار أهل الأرض".
وبعد آدم كانت الأم العظيمة الجليلة حواء عليها السلام، وتلك البعدية ليست مقدرة بزمن فلا يليق بنا الخوض في تحديد الفترة الفاصلة بين خلقه عليه السلام وخلقها عليها السلام، ولكن عملية خلق أمنا حواء جاء فيها كلام كثير يمكن اختصاره إلى ثلاثة أقوال.
القول الأول ما قاله جمهور العلماء ومن بينهم الشيخ الشعراوي رحمه الله.
وملخصه أن أمنا حواء قد خلقها الله من ذات الطينة التي خلق منها أبانا آدم، وفي هذا السياق قال الشيخ الشعراوي في كتابه "قصص الأنبياء" كلامًا غاية في اللطف والدقة عن سبب "التنافس" الذي بين الرجل والمرأة ، فكلاهما من أصل واحد فلا يسمح أحدهما للآخر أن يستطيل عليه بشيء ولا أن يمن عليه بمنة.
القول الثاني يقول به بنو إسرائيل وبعض علماء الإسلام، وهو أن الله خلق حواء من ضلع آدم يعني من جسد آدم.
لبني إسرائيل أن يقولوا كما شاءوا، فلسنا في سياق مناقشتهم، أما علماء الإسلام فقد اعتمدوا في كلامهم على حديث شريف تعسفوا في التعامل معه، الحديث رواه الإمام البخاري ونصه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ".
كل علماء الحديث أصحاب البصيرة بهذا العلم الصعب المتين قالوا: إن معنى الحديث قائم على المجاز وليس الحقيقة، فالرسول الكريم كأنه يقول استوصوا بالنساء لأنهن مخلوقات مختلفات عن الرجل فكأنهن خلق من ضلع، الكلام هنا مجازي وليس حقيقي، وليس به أدني درجة من درجات التهوين من شأن المرأة بل العكس هو الصحيح، فالمنطوق النبوي الشريف يوصي بالنساء ويؤكد أنهن مختلفات على الرجال ويجب على الرجل أن يعامل المرأة لا كما يعامل أخاه الرجل.
ثم تبقي منطقة ملتبسة في النشأة الأولى، وهى الخاصة بالجنة التي عاش فيها الأبوان الكريمان.
بعضهم يقول: هي جنة الخلد التي وعد الله بها عباده المتقين، والكثرة من العلماء تقول: بل هي جنة أرضية، وقد أحسن الأستاذ أبو سعيد الغامدي عندما اختصر لنا أهم ما قاله الإمام ابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة"، ولدواعي المساحة سأقوم باختصار للاختصار، ومن شاء الاستزادة فعليه بالرجوع إلى كتاب الإمام ابن القيم.
يقول الإمام ابن القيم :
1 ـ الجنة التي تدخل بعد القيامة هي من حيز الآخرة وفي اليوم الأخر تدخل ولم يأت بعد.
2 - وصف الله عز وجل الجنة في كتابه بصفات لم تكن موجودة في جنة آدم، من تلك الصفات، وصفه لها بأنها دار المقامة ولم يقم آدم فيها.
3 ـ ووصفها بأنها جنة الخلد ولم يخلد آدم فيها.
4 ـ ووصفها بأنها دار جزاء ولم يقل إنها دار ابتلاء وقد ابتلى آدم فيها بالمعصية والفتنة.
5 ـ ووصفها بأنها ليس فيها حزن وأن الداخلين إليها يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وقد حزن فيها آدم.
6 ـ ووجدناه سماها دار السلام ولم يسلم فيها آدم من الآفات التي تكون في الدنيا.
7ـ وسماها دار القرار ولم يستقر فيها آدم.
8 ـ وقال فيمن يدخلها وما هم منها بمخرجين وقد اخرج منها آدم بمعصيته.
9 ـ وقال لا يمسهم فيها نصب وقد ند آدم فيها هاربا فارا عند إصابته المعصية وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه الذي نفاه الله عنها.
10 ـ وأخبر انه لا يسمع فيها لغو ولا تأثيم وقد أثم فيها آدم واسمع فيها ما هو اكبر من اللغو وهو انه أمر فيها بمعصية ربه وأخبر أنه لا يسمع فيها لغو ولا كذب وقد اسمعه فيها إبليس الكذب وغره وقاسمه عليه أيضا بعد أن اسمعه إياه.
11 ـ وقد شرب آدم من شرابها الذي سماه في كتابه شرابا طهورا أي مطهرا من جميع الآفات المذمومة وآدم لم يطهر من تلك الآفات.
12ـ وسماها الله تعالى مقعد صدق وقد كذب إبليس فيها آدم ومقعد الصدق لا كذب فيه.
وعلى ما سبق فجمهور العلماء يؤكدون أن جنة آدم عليه السلام ليست جنة الخلد.
ثم تأتي مرحلة الذرية البشرية، وفيها قتل أحد ابني آدم شقيقه، وأنت إذا نظرت إلى حجم ونوعية الابتلاء الذي تعرضه له الأب الكريم آدم عليه السلام ستحمد الله على أنك لم تكن آدم.
نحن أمام الرجل الأول بكل ما تعنيه الأولية من متاعب، ثم هذا الرجل الأول يتعامل مع المرأة الأولى، ثم يتربص به إبليس اللعين ويكاد يفسد عليه حياته ، ثم يمن الله عليه بالذرية، ثم يأتي اثنان من أولاده فيقتل أحدهما الآخر.
أي قلب يتحمل كل هذا الابتلاء؟
اقرأ معي الآيات الكريمة التي تقص قصة ابني آدم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ".
ستشعر بحرارة المأساة، شقيقان يقتل أحدهما الآخر ظلمًا وعدوانًا، والشقيقان هما ابنان لنبي مرسل، فلو لم يكن سيدنا آدم مرسلًا فمن أين عرف ابنه الصالح كلمات مثل (يتقبل الله من المتقين، أخاف الله رب العالمين، أصحاب الجنة، أصحاب النار، جزاء الظالمين؟) هذه كلمات تعلمها من رسول أُرسل إليه فدعاه الرسول فصدقه وامن به وبرسالته.
هذا أولًا، أما ثانيًا فالآيات الكريمة تؤكد بوضوح أن المتحاربين هما من صلب آدم وليس من ذريته، فلو كانا من ذريته لكانا قد شاهدا مرارًا وتكرارًا عملية الدفن، ولكن كونهما من صلبه عليه السلام يفسر كيف لم يعرف القاتل كيف يدفن شقيقه القتيل، وعلى ذلك فقد تعجبت وأنا أسمع الشيخ الأستاذ خالد الجندي وهو يحاول إثبات أن ابني آدم الوارد ذكرهما في القرآن ليس من صلبه وإنما هما من ذريته.
لا يتبقى من المساحة سوى أن نرفع العقوق عن قلوبنا ونقول: اللهم صل وسلم وبارك على أبينا آدم وعلى زوجه أمنا حواء وعلى ذريتهما من الرسل والأنبياء والصالحين والعلماء والشهداء وسلم تسليمًا كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة صوت الأمة أغسطس 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق