الخميس، 24 مارس 2016

الدبل كيك الرئاسي ولقاء المثقفين











دعا الرئيس جماعة من المصريين شاع وصفهم بـ " المثقفين " لمقابلته في القصر الرئاسي .
ومن لحظة توجيه الدعوة وإلى ختام المقابلة وأخطاء التعامل معها تتراكم حتى كادت تسد طرقات مواقع التواصل الاجتماعي .

الخطأ الأول هو وصف جماعة من الكُتّاب بالمثقفين ، هؤلاء كُتّاب يعملون بالكتابة على مختلف أنواعها وأشكالها ، أما المثقف فهو وصف يطلق على كل صاحب رؤية يجيد التعبير عنها ومشغول بالشأن العام ، وهؤلاء أكثر من أن يمثلهم عشرة كتاب أو مائة كاتب ، وهؤلاء تجدهم في المسجد والكنيسة والحقل والمصنع وعلى المقاهي طبعًا .

الخطأ الثاني : بعضهم ناقش الدعوة من حيث المبدأ وقرر هو بنفسه بعيدًا عن أي حسابات : أن اللائق بالمثقفين أن يرفضوا الدعوة !!
ما معنى أن يرفض كاتب  من العالم الثالث دعوة رئيس البلاد ؟
أـ  سيتم الإجهاز عليه من قبل إعلام الرئيس .
ب ـ  سنفترض أن الكاتب مقاوم عنيد ولن يشغل نفسه بحملات إعلام الرئيس ، سيظهر ساعتها في ثوب المقصر الذي قيل له هيا اطرح علمك ولكنه كنزه لنفسه .
ت ـ  سيهلل أعلام الرئيس وسيحرض الشعب على الكاتب قليل الأدب وعديم الوطنية الذي لا يريد مد يد المساعدة لسيادة الرئيس الساهر على حماية البلاد والعباد .
وعلى ما سبق فقبول الدعوة ليس أسلم فحسب ولكنه طبيعي ومنطقي وإنساني ويرقى أحيانًا لمقام الواجب الوطني .
الخطأ الثالث : الذين قبلوا الدعوة لم يجلسوا معًا ولو جلسة قصيرة للتشاور وتحديد أجندة للقاء .

الخطأ الثالث : الرئاسة لم تحدد جدول أعمال للنقاش والحوار ، لأنها وهذا ديدنها مذ كانت تحرص على تفريغ الأشياء من معناها بحيث تتحول كل اللقاءات إلى نوع من المكلمة وإلى مظاهرة تأييد للرئيس أو مسابقة بين الحضور على الفوز بقلب الرئيس أو الفوز بأكبر قدر ممكن من الكلام ، الكلام فحسب .

الخطأ الرابع : حقق الكُتّاب بتلبيتهم الدعوة بدون جدول أعمال للرئاسة ما تصبو إليه وهو سماح الكتاب للرئيس بأن يلعب لعبة ( الدبل كيك ) وهي معروفة جدًا في كرة القدم ،وفيها  يعطي المهاجم ظهره لحارس مرمى المنافس ثم يطير في الهواء ، ومن الوضع طائرًا يسدد الكرة في زاوية  لن يتوقعها الحارس حتى لو كان آية في الموهبة لأنه أصلًا لا يري الكرة ولا قدم المهاجم ولا تعبيرات وجهه ولا نظرات عينيه ، وهذا ما فعله السيسي ، جاء بالكُتّاب إلى مقر نفوذه واستغل عدم اتفاقهم على منهج في الحديث وأوسعهم نصحًا وإرشادًا يصل إلى حد التوبيخ والتقريع ، فما معنى قوله لهم : أنتم أهل تنظير ؟.

ليس له من معني سوى التوبيخ ، وهم يستحقونه لأنهم ذهبوا كأنهم ذاهبون إلى نزهة خلوية في القناطر الخيرية ( هل ما تزال تصلح للتنزه ؟) .

الخطأ الرابع : هو توقف الأغلبية عند أسماء الكُتّاب لا عند المبدأ ، مبدأ الحضور بدون أجندة وأهداف محددة ، الأسماء سنظل نختلف عليها إلى يوم الدين ولن تكون هناك قائمة مجمع عليها ، لأن الإجماع هو وهم من أوهام أمتنا هذه .

الخطأ الخامس : هو المزايدة ، فقد جرى سلق الدكتور محمد المخزنجي والدكتور جلال أمين والأستاذ إبراهيم عبد المجيد بألسنة حداد ، وكأن الثلاثة هم فقط الذين حضروا اللقاء ، وكأنهم وسوسوا للرئاسة بما يضر الوطن ، وكأن مبدأ حضورهم هو الجرم وليس حضورهم بدون أجنده .

بعض الذين شاركوا في سلق الأساتذة السالف ذكرهم يبرر موقفه قائلًا : كنا نراهن عليهم !!!!!!!!!!!!!
على ماذا يكون الرهان ؟
ونحن أمام رئيس يؤمن أنه وحده الفاهم وأنه وحده المحب لبلده ، وأمام جماعة من الكُتّاب  ذهبت إلى المجهول بدون خريطة إرشاد.

الخطأ الخامس : وهذا نتحمل نحن الذين على علاقة بهؤلاء الكُتاب  مسئوليته ، كان يجب علينا جميعًا أن نقدم لهم بنك معلومات أو على الأقل نطالبهم بتحدد أهداف .

ولكن هم من ناحيتهم لم يطلبوا رأينا ونحن من ناحيتنا لم نبادر بتقديمه لكي نكسر طوق الحصار المفروض حول مثل تلك اللقاءات ، كان يجب أن نبدأ الشوط من أوله ونلزم كُتابنا بأهداف نراها تستحق الطرح على الرئيس وتحتاج إلى كلمة عاجلة منه ، ولو فعلنا ذلك لأصبح للقاءات قادمة  أهمية وخطورة ، وما كان سيجرؤ أحدهم على الذهاب لكي يتنزه أو يظهر في الصور الرئاسية ، كنا نحتاج هذا الموقف منا لكي يكون اللقاء الأحدث هو اللقاء الأخير الذي يجري تنظيمه بالعشوائية المعروفة التي تجعل من كل لقاء هو والعدم سواء .
ختامًا ولأن روحي  رياضي أحب أن أقدم التهنئة للسيد الرئيس على لعبة الدبل كيك التي أحرز منها هدفًا غاليًا في مرمى الكتابة والكُتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في موقع البداية بتاريخ 24 مارس 2016

لماذا ينفخون في رماد " العاصمة الإدارية " حتى يصبح نارًا ؟.






في شهر مارس من العام الماضي احتضنت مدينة شرم الشيخ المؤتمر الاقتصادي الذي بشر المصريين بأنهار العسل واللبن ، كان من أهم ما عرضه المؤتمر عزم الحكومة المصرية على إنشاء عاصمة إدارية جديدة للبلاد .

نحن الشعب فرحنا جدًا وهم يعرضون علينا " ماكيت " العاصمة الجديدة ، الأمور تبدو رائعة جدًا لأن التصميم المبدئي يجمع بين رقي باريس وثراء دبي ( أصبحنا نضرب المثل بدبي ، عادي ) .

الفرح الذي غمر  المصريين لم يكن ساذجًا ولكنه كان مبنيًا على ما سمعوه من أهل الحكم الذين قالوا  ما اختصاره  : إن شركة إماراتية  ستتولى بناء العاصمة وستضخ استمارات لن تقل عن خمسة وأربعين مليار دولار من أجل إتمام المشروع.

ثم جرت تحت الجسور مياه كثيرة ، وطفتْ على السطح خلافات في الرؤى والمنهج بين الحكومة المصرية والشركة الإماراتية ، وقد شاع بين المتابعين أن الشركة الإماراتية كانت تسعى للحصول على الـخمسة وأربعين مليار دولار من البنوك المصرية !!

يعني المشروع هكذا سيكون قائمًا على المثل الشعبي :" من دقنه وافتل له " وعلى شقيقه الآخر :" من قرنه وادهن له ".
رفض المصريون الرؤية الإماراتية ، وذات صباح أعلنت الحكومة المصرية وكانت تحت رئاسة المهندس إبراهيم محلب تأجيل أو تجميد العمل في المشروع .

طبعًا نحن الشعب لا يتحدث معنا أحد لا ساعة التفكير في المشروعات ولا ساعة تنفيذها ولا حين تجميدها ، كل ما يصلنا هو نثار أو غبار كلام يجتهد المهتمون منا في لملمة مبعثراته  ليصنعوا منها جملة مفيدة يجوز النقاش حولها .
إذن توقف العمل في المشروع أو تم تأجيله أو تجميده ، ثم فجأة عادت أخبار العاصمة الإدارية للتصدر عناوين الأخبار .

التوقف عرفنا أو خمنا سببه ، أما العودة  فلو ضربنا الرمل ووشوشنا الودع وقرأنا الفنجان ومعه الكف فلن نعرف سببًا مقنعًا يشرح لنا لمَ كانت العودة السريعة الحاسمة!!.
ما الذي جدَ على الساحة الاقتصادية المصرية يجعل الحكومة قادرة على تنفيذ مشروع عملاق وملياري التكلفة ؟.

الدولار كما نعمل جميعًا يسجل في البنوك أسعارًا فلكية ، ولن نتحدث عن السوق السوداء ، أسعار النفط تتراجع ، المنح والقروض الخليجية توقفت ، القروض العالمية لم تصل بعد ، فمن أين ستمول جماعتنا هذا المشروع ؟

 الأحد 20 مارس  قال اللواء كامل الوزير، رئيس الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة :"  إن مصر تسعى لإنشاء عاصمة إدارية جديدة تفوق فى مستواها ما تم بنائه من عواصم فى العالم، مشيراً إلى أن لجنة من وزارة الإسكان والهيئة الهندسية للقوات المسلحة قامت بزيارة للصين وكازاخستان للوقوف على ما يقومون  به من أعمال فى هذا الصدد والاستفادة من تجارب الدول التى سبقتنا والبناء عليها. وأضاف "الوزير"، فى مؤتمر صحفي عقده مع وزير الإسكان عقب اجتماعهما بقصر الاتحادية مع الرئيس عبد الفتاح السيسى، أن الهيئة الهندسية بدأت إنشاء 210 كم طولي طرق بعرض 120 متراً، حيث يشمل الطريق 6 حارات، 3 فى كل اتجاه وجزيرة خضراء وطريق خدمات من 3 حارات بالإضافة إلى حارة للدراجات، وهى طرق لم تنفذ من قبل فى مصر بل والمنطقة، على حد قوله ".

يعني الموضوع جد والبناء مستمر !! .
 وقد صرح المهندس مصطفى مدبولي وزير الإسكان خلال مداخلة هاتفية ببرنامج "القاهرة اليوم" المذاع على فضائية"اليوم"، أن  تكلفة المرحلة الأولى من المشروع 45 مليار دولار على أن تغطي 135 كم مربعاً ".
ومن ناحيته قال محمد العبار، رئيس شركة إعمار العقارية، التي نفذت برج خليفة: " إن التكلفة الإجمالية لمشروع إنشاء العاصمة الإدارية المصرية  تبلغ نحو 300 مليار دولار ".

الأرقام تصيب أشد الناس اتزانًا بالدوخة من أين ستأتي الحكومة بالتمويل ؟.
لا يحدثني أحد عن تمويل وطني ، ولا عن تمويل من خلال زيادة أسعار الخدمات والمرافق من مياه الشرب إلى تذكرة المترو ، الأرقام المطلوبة فوق هذا بكثير جدًا.

هل نحن في طريقنا إلى دوامة  كالتي ألقى بنا فيها  فيه الخديوي إسماعيل عندما حلم بمصر الأوربية دون أن تكون لديه إمكانيات مادية يحقق بها حلمه فأسرف في الاستدانة والاقتراض حتى كان ما كان من رهن مصر للمرابين الغربيين ؟.
هل عاجل فعلًا ولا يمكن أن ينتظر تنفيذه حتى استقرار أحوالنا الاقتصادية ؟.
هل المصريون بحاجة ملحة إلى مشروع كهذا في توقيت كالذي نعيشه ؟.

مَنْ الذي وسوس لنظام الحكم بأن تخليد ذكره لن يكون إلا بالانخراط في مشروعات كهذا المشروع ؟.
يقينًا هو واحد من شياطين الإنس ، لأنه لو كان ناصحًا أمينًا لقال للرئيس إن العدل هو مشروعه الأهم والأرقى والأطهر .
سيادة الرئيس نحن نريد العدل أولًا والعدل أخيرًا ، لأن العدل وحده هو الذي سيجعلنا نبني كما نشاء ونؤسس كما نحلم ، وبدونه فإن كل مشروع سيبدو وكأنه بيت من الرمال بناه صاحبه على شاطئ بحر فوار ، ما أن تضربه أهون موجة حتى يعود كما كان مجرد حبات رمل .

هامش
محمد بن علي العبار ، عضو المجلس التنفيذي لحكومة دبي وأحد المساعدين الرئيسيين للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
يشغل مناصب عديدة أخرى منها مدير عام الخليج للاستثمارات ورئيس مجلس إدارة شركة إعمار العقارية .
حصل محمد العبار على شهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال عام 1981 من جامعة سياتل بالولايات المتحدة الأمريكية.
هو صاحب فكرة مهرجان دبي للتسوق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المقال بتاريخ 24 مارس 2016

الاثنين، 21 مارس 2016

سريعًا مر شهر على رحيله فمتى يكف القلب عن الحنين ؟.

 مقتطف من سيرة علاء الديب
سريعًا مر شهر على رحيله فمتى يكف القلب عن الحنين ؟.




ليل السبت على الأحد ( عشرون فبراير 2016) أجلس في مسجد الثائر القديم عمر مكرم لتلقي العزاء في شيخي علاء الديب ، يقع المسجد على الشاطئ الشرقي لنيل القاهرة ، يحده شمالًا مبني جامعة الدول العربية ، ومن الجنوب ذلك الكيان الخرافي المسمى بمجمع التحرير ، ومن الشرق ميدان التحرير حيث بائعة الجرائد وهتافات ما تزال مقيمة في القلب تنادي بأن الشعب يريد إسقاط النظام .

لن أعلو فوق المشهد وأخاطب روح شيخي :" الساعة الآن العاشرة ، الجرائد في السوق الآن يا شيخي هل أتيك بالمصري اليوم لنقرأ مقالك الجديد ؟ ".
سأترك نفسي لصوت المقرئ وهو يرتل :" ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة ".
إنه القرآن يا شيخي وقد سألتني مرة :" كيف هو الكلام عندك ؟ ".
أجبتك متسرعًا :" هو عندي كما عند الناس ، نثر وشعر ".
يومها رميتني بنظرة إشفاق وقلت :" لو كنتَ تريثتَ  لكنت قلت إن الكلام هو نثر وشعر وقرآن ، القرآن ليس نوعًا من أنواع الكلام ، إنه جنس قائم بذاته ، هو ليس شعرًا وليس نثرًا هو القرآن وحسب ، وإن لم تدرك هذا بقلبك عشتَ كالببغاء " .

ثم ستمر السنون ويقول لي :" صحح ما قلته لك في زمن مضى ، الكلام نثر وشعر وقرآن وأصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ ".
هذان التصريحان سيكشفان لي ما أظنه كان خافيًا من شخصية وعالم علاء الديب .
الرجل تعليمه كان مدنيًا ولم يلتحق يومًا بمعهد ديني أو مدرسة شرعية ، فمن مدارس الحكومة المدنية إلى جامعة القاهرة التي غادرها حاصلًا على ليسانس الحقوق إلى مجلة صباح الخير وشعارها " للقلوب الشابة والعقول المتحررة ".
فمن أين جاءه الشغف بالقرآن وبعالم المشايخ ؟
ثم أن الرجل على صعيد الانتماء السياسي كان يقف راسخًا غير متحسر ولا مهزوم على أرضية اليسار الرحبة ، يجمعه بكل فصيل يساري جامع ، ثم هو علاء الديب المتفرد الذي لا هو قطيع ، كما هو ليس من محترفي دسائس القيادة والزعامة .
 وعلى ما سبق فلا يجمع الرجل جامع بالذائقة " الدينية " الصاخبة والعنيفة.

أدخل عليه غرفة مكتبه فأجده دائمًا يقرأ منكبًا على الكتاب الذي بين يديه كأنه كنز الكنوز ، ولا أجده يسمع سوى لنشرات أخبار البي بي سي ، وقرآن يرتله الشيخ مصطفي إسماعيل ، ومقطوعات لكمان عبده داغر .
متى يكتب هذا الرجل ؟.
ثم عندما يكتب أو يتحدث لماذا يبدو لي كأنه عالم الفقه وقد حيرته مسألة فراح يفحصها ويمحصها من كل وجه وجانب .
 أسأله عن هذه الرواية أو تلك فيقول بصوت خافت واثق :" لم تقع في يدي بعد ".
ثم لا يضيف حرفًا .
أعود وأسأله عن هذا الكتاب أو ذاك فيقول :" قرأته وهو عندي كذا وكذا ".
ثم يضيف :" أنا أرى أنه كذا ".
ثم يواصل :" هناك جمهرة تقول إنه كذا ، أما أنا فأقول إنه كذا ".
مفرداته السابقة قد تبدو هينة بسيطة ، ولكنها عندي ثمينة للغاية ، لماذا ؟.

في الزمان البعيد كان الأزهر كيانًا محترمًا وكان رجاله هم بحق حاملو رايات التنوير ، راجع قائمة تبدأ في العصر الحديث بسعد زغلول وتصل إلى الشيخ زكريا أحمد بل والشيخ مدحت صالح ، في كل فن كان رجال الأزهر يضربون بسهم من تفسير الآيات الكريمة إلى السياسية إلى الموسيقي ومن العروض إلى الرياضيات ومن علم الجرح والتعديل إلى الجغرافيا ، كانوا كما وصفهم أمير الشعراء أحمد بك شوقي :" كانوا أجلّ من الملوك جلالة / وأعز سلطانًا وأفخم  مظهرًا ".
تلك الجلالة كان التواضع  شعارها وكان الإتقان سداها ولحمتها .

كان الواحد منهم إذا جلس مجلس العلم يقول :" الرأي عندي ، أنا أرى ، أنا أقول ".
تلك الأنا لم تكن أنا الأنانية أو أنا التفاخر والتباهي والتبجح ، بل كانت " أنا " التواضع ، والمسئولية وفتح الباب أمام أراء أخري واجتهاد آخر وكلام جديد .

من النظر في سير الرجال الذين كانوا رجالًا  بحق ، ومن التلمذة على أيدي " أمين الخولي " و" محمد أبو زهرة " جاءت المسئولية التي حمل علاء الديب عبئها وأدى حقها ، لم يكن مشايخه القدامى يتبجحون ويقولون  :" أنت تسأل والإسلام يجيب !!!" بل كان الواحد منهم يعرف قدر نفسه ويتحمّل مسئولية كلامه فيجيب بلسانه عن المسألة المعروضة عليه ولا يسد باب الاجتهاد ولا ينفي رأي الآخر أيًا كان الآخر ورأيه .

كذلك كان شيخي علاء الديب ، يقرأ الكتاب ويقرأ حوله ثم يتركه فترة يعيد فيها تأمله ، ثم يشتبك معه في حوار ، وذلكم الحوار كان هو المنهج النقدي لعلاء الديب ، إنه يحاور الكتاب وكاتبه وقارئه ويقول رأيه المتضمن للمحاسن والعيوب والمصحح لما يراه هو خطًأ ، والكاشف عن الذي بين السطور والمظهر لما أراد الكاتب أن يجعله رسالة سرية مشفرة .

كان هذا منهجه وشريعته في الكتابة النقدية ، أما في الكتابة الإبداعية فكان هو الكاتب والمكتوب ، علاء الديب يكتب علاء الديب ، والأمر هنا أبعد وأعمق وأعقد من تسميته بالسيرة الذاتية الروائية ، إنه على صعيد من الأصعدة علمية تشريح قاسية جدًا ومؤلمة للغاية لخفايا النفس ومكنونات القلب .

في إبداعه ( كان لا يستخدم  مصطلح إبداع  ويفضل عليه مصطلح كتابة ) يعلن كلمته التي هي ضد التزوير والكذب ، وهذان هما المرضان اللذان كان يري أنهما مقتل أمة العرب ، بل مقتل الإنسانية ، كان يتقصى عروق المواجع الحقيقية كأنه جيولوجي يبحث عن عروق المعادن في قلب الجبال الصماء والصحراء المجهولة ، كان يصبر على مشهده ولا يتركه لآخر إلا إذا رضى عنه وسلّط عليه شمس الحقيقة الكاشفة .

أشهد وقد تكرّم عليّ وأهدىني مسودة روايته الأخيرة " أيام وردية " أنه أعاد كتابة مشهد بين البطل وشجرة طريق عشر مرات ، كان يريد لقارئه أن يشعر بمشاعر البطل تجاه شجرة الطريق .

وأشهد أنني قد قرأت له قصة قصيرة عن حب جارف عميق يجمع بين شاب له قلب حكيم وشابة لها جمال الكون كله ، ولكن قلقًا ما كان ينغص على الشاب حلاوة الحب ، ثم في لقاء له مع حبيبته شاهدها وهي تسارع ملتاعة لالتقاط وردة ندية داستها الأقدام ، ورآها وهي تنفض عن الوردة برقة ما نالها من أذى ، ثم رآها وهي تضم الوردة وتقبلّها كأنها طفلها الرضيع .
تأتي كلمة النهاية في القصة بانصراف الحبيب عن الحبيبة .
قلت له  في تبرير قلق الحبيب وفي شرح انصرافه :" الحبيبة كانت مزورة مفتعلة ".
قال :" نعم " .
قلت :" وأنت الشاب ذو القلب الحكيم ".
قال :" بل أنا العجوز الذي يبحث عن لحظة صدق ".
أما وقد أتاك اليقين يا شيخي قبل شهر من الآن  فلتطب ميتًا كما طبت حيًا  وليبارك الخالق بحثك عن صدقك وخلاصك من دنيا الافتعال والتزوير والكذب . 

هامش
في السنوات الأخيرة من حياة علاء الديب كتب مئات المقالات عن مئات الكتب في جريدتي الأهرام والمصري اليوم ، خصص مقالات الأهرام لتناول الكتابات الجديدة لشباب الكُتَاب  ، وجعل مقالات المصري اليوم لأصحاب التجارب ، هل تسارع دار نشر وتجمع المقالات بين دفتي كتاب قبل أن يطمسها تعاقب الأيام ؟ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المقال بتاريخ 21 مارس 2016



الخميس، 17 مارس 2016

عن الزند الذي نشقى به وزيرًا ومخلوعًا







كان وزير العدل الأسبق المستشار محفوظ صابر قد قال جملة عنصرية ملخصها : إن أولاد الزبالين لن يعملوا في القضاء .
فهاجت ضده مواقع التواصل الاجتماعي وأثمر هياجها عن إقالة الوزير ، وللحق كانت الإقالة مستحقة  من ناحية وكاشفة ومبرزة لمرضنا العضال من ناحية أخري .

مرضنا عبّر عنه الأبنودي في واحدة من قصائده الموجهة للرئيس عبد الناصر والتي قال فيها :" أشكيك لرب العرش والأكوان يا عبد الناصر / أنت السبب / عالجتني في الجلد وتركت العصب ".

ومن عبد الناصر وإلى السيسي ، جميعهم يعالج الجلد ويترك العصب ، لقد جرتْ إقالة الوزير محفوظ ورفعتْ الأقلام وجفتْ الصحف .
لم يعالج أحد العصب ، لم تسنّ القوانين التي تسمح للمتفوقين من أولاد الزبالين بأن يعملوا في القضاء أو غيره من المهن المرموقة ، لم يفعّل أحد مواد الدستور التي تجرم عدم تكافؤ الفرص ، لم يوقف أحد الزحف المقدس لأولاد المستشارين نحو غرف النيابة ومنصات القضاء ، الجميع فرح بإقالة الوزير ـ وهذا علاج الجلد ـ وتجاهل عمدًا علاج العصب .

ثم جاء الزند ليخلف محفوظ في الوزارة ، والمستشار الزند رجل يدور حوله كلام كثير ولغط أكثر ، والسلطة التنفيذية كعادتها تقف موقف المحايد لا تنفي الكلام ولا تثبته !!
وبمجيء الزند انقسم المجتمع إلى ثلاث فرق رئيسية .

فرقة لم تشغل بالها بالأمر كله مؤمنة  بأن البلد ليست بلدها  فلماذا تتعب نفسها بدس أنفها في شئون غيرها !!
وفرقة رفضت الزند لما حوله من لغط .
والفرقة الثالثة والأخيرة هللت وكبرت للزند ، ووصفته  بأسد القضاء .

 وقد حاورت واحد من هذه الفرقة وسألته : هل يحتاج القضاء إلى قوة وشراسة أم إلى حكمة وهدوء ؟.
فرد : بل يحتاج للحكمة والهدوء .
فقلت له : لو كان هذا رأيك فوصفك للزند بالأسد باطل .
فضحك وقال : لا ترطن مثل الطابور الخامس ، الزند سيقتلع الإخوان !
أنهيت حواري معه خوفًا من أن يتهمني بأنني المسئول عن هزيمة المسلمين في غزوة أحد .

تواصل علاج الجلد مع الزند الذي انتهك العصب الذي هو الدستور أكثر من مرة ، فهو يريد سنّ قانون يعاقب والديّ الإرهابي لأنهما في رأيه لم يحسنا تربيته ، ثم هو يريد قتل آلاف الإخوان !
وغيرها من الانتهاكات التي لم تقابل بعاصفة رفض واستنكار .
ثم كان أن تورط في كلمة عابرة فهم بعضهم أنه يقصد بها الإساءة لمقام الرسول الكريم ، فعادت مواقع التواصل للهياج وعادت حليمة إلى عادتها القديمة في الفرقة والانقسام .

ففريق قليل عدده دافع عن الزند وقال إنه لا يقصد الإساءة .
وفريق أكبر عددًا بقليل من الفريق الأول قال : حتى لو كان الزند يقصد الإساءة فيجب محاسبته على غيرها من الانتهاكات وهي كثيرة ومعلومة ولا يجب التلاعب بورقة ازدراء الأديان .
الفريق الثالث وهو قوة ضاربة وكثرة غالبة قال : إلا رسول الله ، لقد وقع الزند بلسانه وتلك فرصة لن ندعها تفلت من أيدينا بأي حال من الأحوال .

تم للفريق الغالب  ما أراده وعائد الزند إلى بيته .
فهل ربح أحد أي أحد أي مكسب كان ؟
الحقيقة لقد خسرنا جميعًا لم تربح العدالة شيئًا .
وبيان وجه الخسارة الفادحة التي منينا بها يتمثل في موقف الفريق الثالث ، لأنه هو بذاته وبشحمه ولحمه الذي يرفض تطبيق قانون ازدراء الأديان على فلان أو فلانة من الأدباء والكُتاب والباحثين !!.
ثم هو بنفسه الذي يلعب لعبة خطرة وينتهز فرصة الإيقاع بعدوه راكلًا المبدأ والمعتقد.

هذا الفريق الغالب هو السبب الرئيسي في نكبة الأمة في نخبتها وطليعتها ، الأمة ترى وتسمع وتشعر وتحس وتزن الأعمال وتفرق بين الحق والباطل وبين الثابت على مبدأه وبين نهاز الفرص ، ولذا فهذه الأمة لا تصدق نخبتها ولا تطيع طليعتها لأنها جربت كلامهم المناقض لأفعالهم .

لقد ذهب الزند وحتمًا سيأتي غيره ويبقي المرض العضال علي حاله ، مرض الاكتفاء بعلاج الطفح الجلدي وترك السرطان يتوحش ويدمر الأنسجة والخلايا.
لو أن نصف أو حتى ربع الذين هاجوا غضبًا من كلمة عابرة تلفظ بها الزند قد تكتلوا وضغطوا من أجل العدالة لا من أجل الأشخاص ما كنا قد شهدنا انتهاك دستورنا الذي قلنا إننا سنفاخر به الدساتير .

هامش
قالوا إن "حليمة" هي زوجة حاتم الطائي الذي اشتهر بالكرم، بينما كانت هي بخيلة ، فكانت إذا أرادت أن تضع سمناً في الطبخ، ارتجفت الملعقة في يدها، فأراد زوجها  أن يعلمها الكرم فقال لها: إن الأقدمين كانوا يقولون أن المرأة كلما وضعت ملعقة من السمن في طنجرة الطبخ زاد الله بعمرها يوماً، فأخذت حليمة تزيد ملاعق السمن في الطبخ، حتى صار طعامها طيبًا وتعودت يدها على السخاء!
ولما مات ابنها الوحيد ، تمنت الموت، وأخذت تقلل من وضع السمن في الطبخ حتى ينقص عمرها وتموت فقال الناس:"عادت حليمة إلى عادتها القديمة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المقال بتاريخ 17 مارس 2016

الأحد، 13 مارس 2016

عندما أرسلني أهلي إلي السينما لأتخلص من توحدي







لماذا يبدو ذهابي إلى دار عرض سينمائي لأول مرة في حياتي  كحدث جلّل؟.
أمامنا أكثر من ألف كلمة لشرح القصة والعنوان .
أصبتُ في طفولتي المبكرة بعاهة اليتم ، ثم خرجتُ ككل الأطفال إلى الشارع  للعب مع أولاد الجيران ، كان توقيت خروجي خاطئًا ، لأنني لم أكن تعافيت بعد  من اثر العاهة ، ولذا فقد ظننت أن مجيء كلمة " أب " على لسان أي رفيق ، ما هي إلا معايرة مستترة لي .

ولكي  أضع النقاط على الحروف فقد تجبرتُ وطلبت من الرفاق ألا يذكروا الآباء ، استجاب لي بعضهم على مضض ، ونسى الآخرون مطلبي فحلقت الكارثة فوق جلساتنا ونعق غراب الشقاق فوق ألعابنا الفقيرة أساسًا .
كنت إذا ذكر أحدهم أباه أكور يدي اليمني بطريقة تلقائية وآلية تمامًا وأسدد لكمة قاسية لأنفه ، فينزف الدم وتشتعل المعركة وأشعر براحة غريبة بوقوع الخصام .

صبر الرفاق على سوء خلقي مرة واثنتين ولكنهم في النهاية قاطعوني بدعوى جنوني المؤكد .
مقاطعة الرفاق مع وصمي بالجنون جعلتني طفلًا متوحدًا.
ألوان توحدي  تمثلت ْ في سماعي للراديو ( لم نكن قد عرفنا التلفاز بعد ) منذ قرآن السادسة صباحًا وحتى سباعية  التي تبثها إذاعة صوت العرب في الثانية عشرة من منتصف الليل ، كان عكوفي يتخذ سمت نبي صغير يتلقّي وحيًا مُنزلًا .
أتكلم مع  صور أغلفة المجلات والكتب الملونة ، وما كان أكثرها في بيتنا .

أسمع مناقشات إخوتي الكبار أفهم قليلها ويستعصى عليّ معظمها ، ولكنها جميعًا تسكن ذاكرتي بدون إرادة مني .
إذًا لا رفاق ( فأنا عندهم سيء الخلق مجنون ) ولا ألعاب ( حتي لو كانت أحصنة طينية ) ولا تقارب بيني وبين إخوتي في السن ، أكبرهم ( سيصبح أبي ) بيني وبينه عشرون سنة ، والذي قبلي مباشرة تفصل بيننا ست سنوات ، أنا ابن لكل هؤلاء الذين لا يكفون عن الكلام ، إنهم يتكلمون دائمًا لا يسكتهم سوى النوم ، يتحدثون عن الذي فوق العرش وعن الذي تحت الثري !!

في أحاديثهم عن السينما لا يتفقون سوى على شيء واحد اسمه المخرج .
اسمعهم يقولون بنبرات قاطعة :" المخرج هو الكل في الكل ، المخرج هو ملك الفيلم المتوج ، لولا المخرج لهلك الفيلم ، هذا المخرج أمات الفيلم و...........".
على ماسبق فمن حق طفل له عشر سنوات مصاب بعاهتي اليتم والتوحد أن يؤمن أن المخرج هو بطل الفيلم .

أصبح وجودي في غرفة الكتب والمجلات محتضنًا الراديو من العلامات الجغرافية لبيتنا التي ترقى لدرجة البديهيات التي لا يناقشها أحد ، ولذا كان الأمر غريبًا جدًا عندما قال لي شقيقي الحاج مندي ( يكبرني بحوالي خمس عشرة سنة ) :" لابد أن تغادر هذه الغرفة ، ستغادرها اليوم ، بل الآن ، اذهب يا سيدي إلى ، إلى ، إلى السينما مثلًا ، لماذا لا تذهب إلى السينما ؟".

فوجئت بتطور سريع للأحداث بانعقاد مجلس أسري لتقرير إرسالي إلى السينما .
رحب الجميع بقرار الحاج مندي الذي موّل الرحلة بنصف جنيه كاملًا غير منقوص .
بيت أبي في قرية التمساحية التابعة لمركز القوصية التابع لمحافظة أسيوط ، وفي القوصية دار السينما الوحيدة ، والرحلة شاقة لأن بيننا وبين القوصية عشرة كيلو مترات  .

مثل خارج من كهف يواجه سطوع  الشمس ركبت الحمارة ( هناك عداء صليبي بين عائلتي واقتناء ذكور الحمير ) وتوجهت إلى القوصية مزودًا بنصيحتين ثمينتين ، الأولى ألا أتشاجر مع العيال الذين يذكرون آباءهم ، الثانية ألا يفلت مني مشهدًا من الفيلم لأني سأقص أحداثه كاملة على أسرتي عندما أعود .
رتلت ما أحفظ من القرآن لكي يوفقني الله وألتزم بتنفيذ النصيحتين .

كان قلبي يدق بعنف كذاهب إلى مجهول ، سوف ألتقي بالمخرج وأراه وأعود لأخبر أسرتي بتعرفي عليه .
السيارات  النادرة التي تمر بالشوارع وحوش من الحديد لا شأن لنا بها ، حمارتي الآن لدي خالتي " تناظر"  التي ترعى الركائب مقابل قرش يوميًا ، مالي الكثير في جيبي رغم شرائي للأهرام والأخبار والجمهورية لأسرتي وللكرة والملاعب لي لأتابع أخبار فريق الزمالك ناديّ الحبيب ، وفي قلبي شغف لا مزيد عليه لكي أري المخرج .

سينما القوصية من سينمات الدرجة الثالثة ، ولكن الهوى قتّال يا صاحبي ، فدع عنك التصنيف ورائحة السجائر والعرق بل والبول ( بعضهم كان يفعلها في الزوايا ) ودع عنك تهالك المقاعد وتساقط الطلاء وضجيج البائعة وتوحد مع الطفل المتوحد الذي يدخل السينما لكي يرى المخرج كما يظن هو ولكي يشفى من توحده كما يتوقع أهله .
السينما تعرض ثلاثة أفلام ، فيلم قديم هو " التلميذة " يليه فيلم بالألوان الطبيعية لم أعد أذكر منه سوى أن بطلته شمس البارودي تجري في الشوارع شبه عارية وهي تلطم  خديها وتصيح :" مستقبلي ضاع يا ماما"
والفيلم الثالث وهو بالألوان الطبيعية أيضًا عن تحدي بروسلى لشيء ما.

أفيش فيلم  التلميذة عليه أسماء شادية وحسن يوسف وفؤاد المهندس وأمينة رزق ، وهؤلاء أعرفهم جميعًا من مسلسلات الراديو ومن صورهم المنشورة  في المجلات  والجرائد ، ولكن أين صورة المخرج ؟.
لا أظن أن التذكرة كانت بأكثر من عشرة قروش ، دفعتها راضيًا ودخلت إلى القاعة المظلمة ، اخترت مقعدًا وجلست عليه وأنا لا أعرف من أي زاوية سيظهر الممثلون ( ليتني سألت إخوتي ) غالبت خجلي وسألت جاري فقال إن جلستي سليمة وإن الممثلين سيظهرون من تلك اللوحة البيضاء.

كدت أسأله عن المخرج ولكن تراجعت ، ليقيني بأنني سأعرفه من تلقاء نفسي .
ثم جاء الفيلم جاء ، ثمة استعلاء يغزو المتوحد تجاه جيرانه في القاعة ، المتوحد يصاحب شادية منذ زمن بعيد ، يستنكف المتوحد أن تعامله  كما تعاملهم ، يريدها أن تنظر إليه نظرة خاصة ، أليس بينه وبينها  ود قديم من يوم غنت " غاب القمر يا ابن عمي " ؟
سيغفرها لشادية جزاء مرحها ، إنها هنا مرحة ولا تنوح كما ناحت :" والله يا زمن ما بادينا زرعنا الشوك ولا رواينا يا زمن ".

شادية ابنة الخادمة أمينة رزق تحب ابن الباشاوات حسن يوسف ، أم حسن ترفض هذا الحب ، شادية لا تحب أمها ( هذا ثقيل جدًا على قلبي فأنا أحب أمي ) والد شادية مات ، ما العمل ؟ هكذا أنا ممزق بين التعاطف مع يتيمة مثلي والنفور من كارهة أمها ، شادية تهرب وتصنع شيئًا يبدو كالعيب ، ما هو العيب ؟.
العيب هو أن تكشف المرأة شعرها ، فما بالك لو كشفت عن كتفيها وفخذيها ، ثم العيب أن تكره أمها والعيب ألا تقبل يد أمها ، ولكن الحب ليس عيبًا ، إخوتي يتحدثون  دائمًا عن الحب جهارًا .

يجب أن أهدأ لكي لا تضيع مني خيوط القصة ، ولكن أين المخرج ؟
هدفي الأول هو مشاهدة المخرج ، ولذا تجرأت وسألت جاري :" أين المخرج ؟ "
رد متأففًا :" أي مخرج ؟ "
قلت :" مخرج الفيلم ".
قال :" اسمه حسن الإمام "
قلت :" ولماذا لم يظهر حتى الآن ؟ ".
قال بغضب :" المخرج لا يمثل ، واقعد ساكت ".
قعدت ساكتًا والدموع تنزل على قلبي ، شفقة ورحمة بالبنت المسكينة اليتيمة التي عن ارتاحت يومًا شقيتْ يومين ، أريدها الآن أن تعود مرحة وتغني :" سونة يا سونسن جتلك أهو ".
لقد اختفى بريق عينيها ، وشاختْ " قُصة " شعرها ، هل هناك رجل عجوز يريد أن يفعل معها العيب والحرام ، هل تنكفئ كأمها الخادمة غاسلةً وساخات الناس ؟.

أنا حزين من أجل شادية ، حتى لقد نسيت أمر المخرج الذي لم يظهر ، هل جاء " سونسن " إلى بيت أمها ليطلب يدها ؟ أم هذا ما أحلم به لكي تعود مرحة مرة ثانية .
أظلمت الشاشة معلنة انتهاء فيلم شادية ، لم أتحرك ، لقد أقعدني الحزن ، ما كان لي أن أطيع أمر الحاج مندي وأترك حديثي مع أغلفة مجلاتي .
أضاءت الشاشة فرأيت شمس البارودي ( في بيتنا كارت بوستال لها ) وهي تجري في الشوارع شبه عارية لاطمة خديها ، كل هذا كثير وثقيل على طفل متوحد .

عدت إلى بيت أبي بغير الوجه الذي غادرته به ، لم يجرؤ أحد من آبائي على سؤالي ، لقد خلوا بيني وبين أغلفة مجلاتي وصوت الراديو ، أنام دامع القلب لمصير شادية ، وأصحو منتظرًا أن تمرح وتضحك وهي تغني سونة يا سونسن جتلك أهو ".
مرتْ أربعون سنة على رحلتي الأولى إلى السينما ، شادية الآن في الخامسة والثمانين وأنا الآن في الخمسين وما تزال السينما هى كهفي الذي أتخلص فيه من توحدي متوحدًا مع ظلال وأضواء ومرح بنت شقية يتيمة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في مجلة فرجة عدد مارس 2016

الأربعاء، 9 مارس 2016

لماذا لم يستمع أحد لتحذير السيسي من نزول الجيش إلى الشارع ؟.




عندما غابت شمس  يوم الجمعة العاشر من مايو من العام 2013  ،كانت الأشياء ثابتة لم تبرح مكانها ،   فمرسي كان هناك  في قصر الاتحادية يحكم البلاد لصالح مكتب الإرشاد ، جبهة الإنقاذ كانت تتنقل  بين قاعات الاجتماعات  واستوديوهات الفضائيات تواصل  حملتها ضد المرسي ، وشباب حملة تمرد كانوا  يجبون الشوارع الأزقة والنجوع والكفور جامعين دعوات لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة ، وحزب الكنبة الطويل العريض المنتشر المتوغل كان يفكر في اتخاذ أخطر قرارات حياته بالنزول إلى الشوارع لسحب الثقة من مرسي .


في ذلك اليوم  كان " الجيش " هو كلمة السر التي تجمع بين الفرقاء ، كلٌ حسب توجهه ، فمن وجهة نظر مكتب الإرشاد كان  " الجيش " عنوانًا للأمن والأمان والحماية ، ومن وجهة نظر الآخرين كان " الجيش " قارب النجاة الذي به سيعبون بحر الإخوان المتلاطم الأمواج .

يومها ارتفع ـ وإن على استحياء ، شعار :" انزل يا سيسي مرسي مش رئيسي ".
غابت شمس الجمعة والأشياء ثابتة  ، ولكن عندما سطعت شمس السبت الحادي عشر من مايو أطلق الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع كلماته التي ستخترق حاجز المكان وسيظل صداها يتردد إلى يومنا هذا .

المناسبة يومها كانت حضور الفريق أول وزير الدفاع لـ " تفتيش حرب الفرقة التاسعة مدرعات " المناسبة كما تري عسكرية جدًا وفنية للغاية ، ولكن الأجواء العامة فرضت حضور الكثير من الفنانين والإعلاميين والسياسيين والشخصيات العامة .

أمام كل هؤلاء وقف السيسي ثابتًا لكي يطلق القذائف فقال :

1ـ لابد من وجود صيغة للتفاهم فيما بينكم، فهذا الجيش نار لا تلعبوا بها، ولا تلعبوا معه، لكنه ليس نارًا على أهله، لذلك لا بد من وجود صيغة للتفاهم بيننا.. البديل فى منتهى الخطورة ، إنه من دون هذه الصيغة فإن البديل فى منتهى الخطورة ، مع كل التقدير لكل من يقول للجيش انزل إلى الشارع.. لو حصل ده لن نتكلم عن مصر لمدة ٣٠ أو ٤٠ سنة للأمام .

2 ـ   مفيش حد هيشيل حد، ولا يجب أن يفكر أحد أن الحل بالجيش، وعليكم ألا تغضبوا ، لأن الوقوف 10 أو 15 ساعة أمام صناديق الانتخابات أفضل من تدمير البلد .

3ـ صحيح إحنا اللى هنأمن الانتخابات" ( انتخابات مجلس الشعب المقرر إجراؤها قبل نهاية العام الجاري) .

4ـ إحنا اللى عارفين قواتنا وعارفين قدراتها، واللي إحنا شايفينه دلوقتى - مشيرًا إلى القوات المصطفة- دُول جزء صغير من الجيش وفيه غيره كثير قوى .

5 ـ  الوظيفة اللى أنا فيها فى منتهى الخطورة، ولا أستطيع مقابلة الله بدم المصريين، ولازم تعرفوا أن القرار ده من أبريل 2010 وده قرار استراتيجي .

6 ـ أي حديث عن الديمقراطية صحي ولا أحد ينكره وسهل أن تتحقق الديمقراطية والمواطن هو الضامن لتحقيقها عبر مشاركته ولو وقف 15 ساعة في طابور الانتخابات .

7 ـ ليس بسبب المخاوف من محاذير دولية، ولكن لإدراك خطورة نزول الجيش للشارع، فى بلد عدد سكانه يتجاوز الـ90 مليونًا، وده خطر شديد جدا، لأن الأصل فى الموضوع الأمن والدولة والحفاظ علي كيان الدولة .

8 ـ  أردنا أن نريكم كيف نقضى تدريباتنا ويومنا.. وعلشان خاطري بلاش تستعجلوا.

ماذا كان وقع قذائف السيسي على الفرقاء ؟.
مكتب الإرشاد شعر بمزيد من الأمن والأمان والحماية فها هو قائد الجيش يقطع بخطورة مشاركة الجيش على أي نحو كانت المشاركة في العملية السياسية وإلا لتم تأجيل الكلام عن مستقبل البلاد لثلاثين أو أربعين سنة قادمة .

المضادون للإخوان أصاب بعضهم الفزع وبعضهم أصابه الارتباك .
الذين فزعوا كان يريدون خطابًا مغايرًا من السيسي يقول فيه صراحة أو تلميحًا :" الجيش ضد مرسي ".
ولأن السيسي لم يقلها لا تصريحًا ولا تلميحًا فقد فزع هؤلاء لأنهم أدركوا أن رهانهم على نزول الجيش الفوري إلى الشوارع  هو رهان خاسر أو على الأقل هو رهان مؤجل لحين إشعار آخر !

المرتبكون عبرّ عنه خير تعبير الإعلامي عمرو أديب عندما قال في برنامجه ( القاهرة اليوم )  : " إن رسائل الفريق السيسي اليوم "شوية تبرد قلبك، وشوية تولع نار"، وإن كلمته "متستعجلوش" تعني أنه يجب علينا الانتظار، ثم يؤكد أن الجيش سيؤمن الانتخابات المقبلة.

وأضاف أديب  متسائلا: "هم لسه هيفضلوا ( يعني الإخوان ) لحد الانتخابات؟".

ثم كان نزول الملايين يوم الثلاثين من يونيو إلى الشوارع مما أدي لبيان الثالث من يوليو ، وبعد الأمرين جرت تحت الجسور مياه كثيرة أوصلتنا إلى ما نعيشه الآن .

الجيش دخل في تفاصيل ومفاصل العملية السياسية ، لا أتحدث عن مستويات الحكم العليا ، فوجود السيسي في الاتحادية أمر طبيعي لأنه رئيس منتخب ، ولكن أتحدث عما هو أدني من ذلك بمراحل ، بداية من رئاسة الأحياء ووصولًا إلى مقاعد البرلمان  .

الفريق أول قبل أن يصبح مشيرًا ثم رئيسًا حذّر بوضوح تام من اللعب بالجيش أو معه وأفصح عن أن مشاركة الجيش تعني تأجيل الكلام عن مستقبل البلاد لثلاثين أو أربعين سنة مقبلة .

هل كلامه كان نبوءة مثل نبوءة زرقاء اليمامة التي لم يسمعوا لها أحد ثم ندموا جميعًا؟ .
هل كان الرجل في وهج المصارحة وتحمّل المسئولية يدرك يقنيًا أن الجيش خلق للقتال أحيانًا  ولحماية الحدود  دائمًا وليس لإدارة عجلة الاقتصاد ؟.

على الذين قالوا :" انزل يا سيسي " أن ينزلوا معه  للمساعدة فلربما عادت المراكب للإبحار .

هامش
تقول وكيبيديا : إن حركة تمرد هي حركة معارضة مصرية دعت في 2013 لسحب الثقة من مرسي والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة. قامت الحركة بدعوة المواطنين إلى التوقيع على وثيقة تحمل نفس اسم الحركة. انطلقت "تمرد" في يوم الجمعة 26 أبريل 2013 من ميدان التحرير بالقاهرة، على أن تنتهي في 30 يونيو من نفس العام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المقال بتاريخ 7 مارس 2016