مع روائي مثل الراحل الأستاذ خيري شلبي، ستقف احترامًا لجبروت الموهبة، فلو لم تكن موهبة شلبي تمثل تسعة أعشاره ما كان له أن يصعد إلى قمة تربع عليها، فهو ـ بعد محفوظ ـ الأغزر إنتاجًا، بجملة مؤلفات وترجمات تجاوزت الستين كتابًا، ثم هو الأكثر تنوعًا واختلافًا عن كل أبناء جيله، فقد ضرب بسهم في كل فن من فنون الكتابة، وحققت سهامه جميعًا أهدافها.
لم أكن من الصفوة المختارة التي يفضي إليها العم خيري بأسراره، لكن شاء حسن حظي أن أكون شاهدًا على ساعة من ساعات بوحه.
ذات ليلة قال لنا العم خيري: أنا ابن الصور البراقة والمجد الغابر، ولدت لعائلة عريقة كانت ذات صيت وأملاك، وكانت محبة للفن، وكانت عائلتي تقدر التاريخ وتحترمه، فلقد وضعت صور أكابرها على حوائط «المندرة» التي كانت مخصصة لاجتماعات العائلة المهمة، ولاستقبال ضيوفها.
يضيف خيري: «عندما كنت طفلًا تعلقت بتلك الصور، إنها لأجدادي وأعمامي، فلان بك وعلان باشا، هذا صاحب أملاك وذاك صاحب سلطة، كانت وجوههم منيرة بطريقة ما، وكنت أخرج نفسي من حالة التأمل تلك بمشقة، أعود لواقعي، لقد ماتوا وذهبت معهم أمجادهم، الواقع كان قاسيًا بطريقة جهنمية، فقدت ولدت لأبوين، عيالهما كثر ومواردهما ضئيلة.. ذقت كل أنواع المعاناة، ولكن في وقت مبكر من حياتي عرفت أنني سأكون كاتبًا يخلد حياة الذين أغفل التاريخ ذكرهم".
أوفى العم خيري بوعده الذي قطعه على نفسه وأصبح كاتبًا، وقبل ربع قرن من عامنا هذا خرج على الناس بواحدة من قنابله. لقد نشر كتابه «مرسى جميل عزيز.. موسيقار الكلمات». الكتاب صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وقد نفدت طبعته الأولى، ولكن لم تُعد الهيئة ولا غيرها من دور النشر طباعته. قسّم الأستاذ خيري كتابه إلى خمسة أقسام رئيسية هي: مرسي شاعر الحب والأمل، مختارات من شعر مرسي، لمحة عن مشوار حياته، مشواره الفني، نماذج من أغانيه.
هل كان مرسي جميل عزيز يستحق كتابًا بقلم خيري شلبي؟
الإجابة هي نعم، قاطعة حاسمة.
ولد الأستاذ مرسي رحمه الله في التاسع من يونيو من العام 1921 بمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، كان والده الحاج جميل عزيز مرسي ثريًا من كبار التجار، وبفضل ثروته تلك تمكنّ مرسي الابن من التفرغ لفنه. حصل مرسي على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) من مدرسة الزقازيق، ثم التحق بكلية الحقوق (ولا أعرف هل واصل دراسة الحقوق أم لا). وتوفي في التاسع من فبراير من العام 1980، وخلال رحلته التي لم تستغرق سوى تسع وخمسين سنة صنع مجده الشعري.
البداية مع السنباطي
بدأ مرسي التأليف وهو ابن ثماني عشرة سنة، فقد قدم للإذاعة في العام 1939 أغنية «الفراشة» التي لحنها الموسيقار الكبير رياض السنباطي (هل نلتفت لدلالة قيام موسيقار شهير جدًا بتلحين أغنية لشاب لم يكن أحد قد سمع باسمه؟). لكن جاءته الشهرة عندما غنى له عبد العزيز محمود إحدى فرائده، وهي أغنية «يا مزوق يا ورد في عود".
لا يوجد صوت غنائي لم يكن له نصيب من إبداع مرسي، بداية من سيدة الشرق أم كلثوم ونهاية بعفاف راضي، إضافة لعبد الوهاب وعبد الحليم ومحمد قنديل والسيدة فيروز وغيرهم من فحول المطربين. مكانة مرسي الشعرية جعلت الأستاذ يحيي حقي، رحمه الله، يكتب عنه دراسة وافية وينشرها في كتابة «خطوات في النقد".
في مطلع الخمسينيات، هاجمت نوبة من الظروف القاسية العم خيري شلبي الذي كان في ذلك الوقت في ريعان شبابه، فرأى أن يتخلص من حياته. لم يكن قرار الشاب خيري عشوائيًا، لقد تسلطت عليه متاعب حياته الشخصية وقراءاته المبعثرة في الفن والفلسفة، ليصنعا مزيجًا دفعه للعزوف عن الحياة.
صوت فيروز
جاءت اللحظة الحاسمة، أحضر الشاب المقبل على كارثة زجاجة ممتلئة بصبغة اليود، واختفى في غرفة مهجورة من غرف بيت أبيه الريفي، أغلق دونه كل الأبواب، وسد كل منفذ للغرفة، كي لا يسارع أحد بإنقاذه متى صرخ من وطأة الألم. تجرع الشاب الزجاجة كاملة، سرت صبغة اليود في أحشائه فراحت تتقطع ألمًا، لم يصرخ الشاب وفاءً لعهد قطعه على نفسه، وهو في غيبوبة الألم جاءه الإنقاذ من مرسي جميل عزيز الذي كان يسمع باسمه، ولا تربطه به رابطة خاصة.
في اللحظة التي رفرف فيها طائر الموت بجناحيه فوق قلب الشاب، شاء الله أن يعلو صوت راديو الجيران. كانت فيروز تصدح بقصيدة مرسي جميل غزيز التي لحنها الرحبانية "سوف أحيا"
يقول العم خيري: كان صوت فيروز يزفه صوت الكورس البديع، القوي قوة الإصرار والأمل والرغبة في الحياة.
كانت الأغنية تقول:
لمَ لا أحيا وظل الورد يحيا فى الشفاه
ونشيد البلبل الشادي حياة لهواه
لمَ لا أحيا وفى قلبي وفى عيني الحياة
سوف أحيا سوف أحيا
يصف العم خيري مشاعره في تلك اللحظة الفارقة فيقول: «لا أستطيع وصف مشاعري لحظتها، أشرقت الدنيا في عينيّ فجأة، فشعرت بأن صوت فيروز هو الضوء المشتعل الذي أضاء كل الظلمات، وبأن كلماته المشرقة تؤنبني بشدة على ما فعلت، وتهزأ بإصراري على هذا الموقف الفج. وكان يخيل لي كأن الأكف تنهال على صدغي، لطمًا، وأنني حاول عبثًا دفعها عني. ثم بدأ كأن الكلمات تضمد جراحي بلحن غاية في العذوبة، ينفض المشاعر نفضًا، يصفيها من غبار اليأس وظلمات الأوهام والأفكار الخاطئة، ويزرع فيها المقاومة والرغبة في الحياة.
ليس سراً يا رفيقي أنّ أيامي قليلة
ليس سراً إنما الأيام بسمات طويلة
إن أردتَ السر فاسأل عنه أزهار الخميلة
عمرها يومٌ وتحيا اليومَ حتى منتهاه
سوف أحيا سوف أحيا
حينئذ –يضيف العم شلبي ـ «وعلى صوت البلبل الشادي، صرخت في طلب النجاة والإنقاذ، تيمنًا بزهرة الخميلة التي تعرف أن عمرها في الحياة يوم، لكنها تحيا اليوم حتى منتهاه. نعم، سوف أحيا، هكذا قلتها، ولا أزال أقولها كلما رن في مسمعي نشيد هذا البلبل الشادي على صوت فيروز الحبيب".
من حسن حظ الأدب العربي أن القصة قد انتهت بمواصلة العم خيري للحياة، وبإصراره على المقاومة، لكي يمتعنا نحن قراء العربية بروائعه. ثم مرت السنون وأصبح الرجلان صديقين، الشاب الذي كاد ينتحر، والشاعر المنقذ.
يقينًا قص خيري قصته على الشاعر، لكن من سوء حظ الأدب العربي أن العم خيري لم يسجل لنا رد فعل مرسي على تلك القصة النادرة. فلو كان فعلها وأكمل بوحه، لظفر الأدب العربي بصفحات مضيئة، كنا سنرى فيها مجدا حازه شاعر أنقذت كلماته أديبا شابا، سيصبح بعد قليل أحد أعمدة الرواية العربية المعاصرة.
رحم الله الرجلين الكريمين، وألهم الناشرين إعادة طبع هذا السفر النادر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بموقع أصوات 18 مارس 2019