الأحد، 23 فبراير 2025

أبو الطفيل.. نكبة العمر المديد


ما الحياة عندما تفقد كل أحبتك؟

ما الحياة عندما تولد في أعظم الأيام وتحقق أخطر الأحلام ثم يمتد بك العمر فترى بعينيك كل بناء شيدته وقد تحطم كأنه لوح زجاج؟

بأي قلب ستواصل الحياة وأنت ترى كل أحلامك وقد أصبحت هباءً منثورًا؟

لكي تظل تتنفس وتأكل وتشرب وتنام لابد وأن تكون رجلًا كأبي الطفيل.

كان أبو الطفيل واحدًا من صحابة رسولنا الكريم، عليهم جميعًا الرضوان، ولكنه عاش حياة لم يعشها غيره، لقد أختبره الله بالعمر المديد والألم الشديد والشعر الوفير، وما أصعبه من اختبار وما أقساه من امتحان.

وفق أغلب التراجم فأبو الطفيل هو عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش بن جري بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي بن كنانة اللّيثي المكّي.

ولد أبو الطفيل في العام الهجري الثالث، وهو ذلك العام الذي كانت فيه غزوة أحد.

أبو الطفيل مكيّ النسب، فمتى هاجر أبوه إلى المدينة؟

بل مَنْ هو والد أبي الطفيل ومَنْ هي أمه؟

بحثت فلم أجد إجابة غير نسب الرجل وشيئًا يسيرًا عن طفولته ذكره هو بلسانه عندما قال:" أَدركت من حياة النبي صَلَّى الله عليه وسلم ثمان سنين، ورأَيت النبي يُقَسِّم لحمًا بالجِعْرانة، فجاءَت امرأَة فبسط لها رداءَه، فقلتُ: من هذه؟

قالوا: أُمُّه التي أَرضعته.

غير تلك الجملة لم أجد شيئًا. نعم هي جملة خطيرة لأنها تقطع بصحبة أبي الطفيل للرسول ولكنها لا تكشف عن تفاصيل طفولته.

عندما قُبض رسولنا الكريم كان أبو الطفيل في سن الطفولة، فمن الطبيعي ألا يكون قد شارك في معركة من معاركه صلى الله عليه وسلم، ومن الطبيعي أيضًا أن تكون قد وصلته أخبار الانتصارات المدوية في الخندق وخيبر وفتح مكة وحنين وغيرها من المعارك التي خاضها جيش الإسلام تحت قيادة الرسول.

نحن يستولي علينا حنين جارف لزمن نصرنا في العاشر من رمضان فكيف كان حنين أبي الطفيل لزمن انتصارات الرسول؟

عاش أبو الطفيل زمن حكم أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والحسن بن علي.

ثم جاء زمن حكم بني أمية فعاش أبو الطفيل تحت حكم معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد (معاوية الثاني)

ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروانو الوليد بن عبد الملك

وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك وأخيرًا هشام بن عبد الملك الذي حكم من العام 105 هجرية إلى العام 125 هجرية، وقد كان موت أبي الطفيل حسب أغلب الروايات في العام 110 هجرية، أي في زمن هشام بن عبد الملك. لقد تعمدت ذكر قائمة الحكام لأنك إن تأملتها ستكتشف معاناة هذا الصحابي الجليل.

الرجل عاش زمن العدل البشري المطلق تحت حكم رسولنا الكريم ثم هو نفسه عاش زمن يزيد بن معاوية قاتل الحسين!

الرجل عاش زمن عدل الفاروق والانتصارات على الفرس ورخاء المدينة المنورة، ثم عاش الزمن الذي استباحت فيه جيوش يزيد المدينة، وفشا اغتصاب الحرائر اللاتي كن بنات الصحابة أو حفيداتهم!

الرجل رأى الحسن الحسين طفلين يدللهما سيد الخلق حتى أنه كان يحملهما على ظهره وهو يصلي، ثم جاءه خبر موت الحسن مسمومًا وموت الحسين مقطوع الرأس!

وفق هذه الحوادث التي عاشها حق له وهو الشاعر الأصيل المطبوع أن يصرخ:" وما شاب رأسي من سنين تتابعت/ عليّ ولكن شيبتني الوقائع"

لا يذكر المؤرخون شيئًا عن عامر المعروف بكنيته "أبو الطفيل" في زمن الرسول والخلفاء حتى مجيء زمن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه.

هنا يجمع المؤرخون على محبة أبي الطفيل لعليّ وكيف حضر معه كل معاركه بل كان حاملًا لرايته في معارك حاسمة.

وفي معركة من معارك الإمام التي شهدها أبو الطفيل، خطب أبو الطفيل بين يدي عليّ قائلًا:" يا أمير المؤمنين إنك أنبأتنا إن أشرف القتل الشهادة وأحظى الأمر الصبر، وقد والله صبرنا حتى أصبنا، فقتيلنا شهيد وحيّنا ثائر، فاطلب بمن بقي ثأر من مضى، فإنا وإن كان قد ذهب صفونا وبقي كدرنا فإن لنا ديناً لا يميل به الهوى ويقيناً لا تزحمه الشبهة ".

ثم ينشد من شعره في مناسبة من المناسبات

أشهد بالله وآلائه / وآل ياسين وآل الزمر

إن علي بن أبي طالب / بعد رسول الله خير البشر

ثم لقي الإمام عليّ ربه شهيدًا، وحكم ابنه الحسن فترة قصيرة، اختفى فيها ذكر أبي الطفيل، فلما جاء معاوية حفظت لنا الكتب هذا الحوار الساخن الذي جرى بينه وبين معاوية.

معاوية: كيف وجدك (حزنك) على خليلك أبي الحسن؟

أبو الطفيل: كوجد أم موسى على موسى وأشكو إلى الله التقصير. معاوية: كنت فيمن حصر عثمان.

أبو الطفيل: لا، ولكني كنت فيمن حضر.

معاوية: فما منعك من نصره؟

أبو الطفيل: وأنت فما منعك من نصره إذ تربصت به ريب المنون وكنت مع أهل الشام وكلهم تابع لك فيما تريد.

معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه نصرة له؟

أبو الطفيل: بلى ولكنك كما قال أخو جعفي (الشاعر عبيد بن الأبرص)

لا ألفينك بعد الموت تندبني / وفي حياتي ما زودتني زادي.

معاوية كان رجلًا خطيرًا مهمًا وكان أحد ملوك الأرض، فإن لم يكن عامر بن أثلة صاحب شأن وحيثية ما كان معاوية قد حاوره، ولكن أين ذهبت تلك الحيثية والكتب جد شحيحة في ذكر الرجل؟

لا يذكر كتاب موقفه أثناء كارثة كربلاء، المنطق يقول إنه كان مع الحسين، لأنه كان مع أبيه من قبل ولكن لا حديث يؤكد أو ينفي.

ثم أين كان عندما صلب الأمويون عبد الله بن الزبير؟

ثم أين كان عندما قصف الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة حتى هدمها؟

سنعرف أنه كان من المشايعين لمحمد بن الحنفية وهو أخو الحسن والحسين من أبيهما، وقد تدخل بقوات قادها ليحرر ابن الحنفية من الحبس، وقد قتل ابنه الطفيل في معركة من تلك المعارك الداخلية التي عمت ساحة المسلمين في ذلك الوقت وقد سجل هو حادث مقتل ابنه عندما أنشد:

خَلَّى طُفَيْلٌ عَلَيَّ الهمَّ فانْشَعَبَا فَهَدَّ ذلك رُكِني هَدّةً عَجَبَا.

كان أبو الطفيل ـ بلغة عصرنا ـ مثقفًا صاحب موقف، فهو يقرأ القرآن ويقول الشعر ويروي الأحاديث ويشارك في المعارك، ثم بعد كل هذا العطاء يقل ذكره ولا يعرف فضله إلا الذين ينبشون في الكتب القديمة.

روى الإمام البخاري في كتابه الأدب المفرد:

عن أبي الطفيل وقد سئل: هل رأيت النبي؟ 

قال: نعم، ولا أعلم على ظهر الأرض رجلا حيا رأى النبي الله غيري، وكان أبيض، مليح الوجه.

وعن يزيد بن هارون، عن الجريري قال: كنت أنا وأبو الطفيل نطوف بالبيت، قال أبو الطفيل: ما بقي أحد رأى النبي غيري، قلت: ورأيته؟ قال: نعم، قلت: كيف كان؟ قال: كان أبيض مليحا مقصدا.

كل هذا يقطع بأن الرجل في حال حياته كان شهيرًا ذائع الصيت وآية ذلك ما قاله النَّضْر بن عربي، قال: كنتُ بمكة، فرأيتُ الناسَ مجتمعين على رجل، فقلتُ من هذا؟ فقالوا: هذا صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، هذا عامر بن واثلة، وعليه إزارٌ ورداء، فَمَسست جلده، فكان ألين شيء.

ثم تمر السنون بأبي الطفيل فيرى تمكن الثورة المضادة وعلوها في الأرض فيصاحب المختار الثقفي الذي خرج بقوات للانتقام من قتلة الحسين، وقد تمكنت قوات المختار من قتل كل الذين شاركوا في قتل الحسين، ثم بعدها يخفت ذكر عامر حتى يكاد يتلاشى، ولا نجد له حضورًا في أزمنة بني أمية إلا محاورته مع معاوية ومحاورة أخرى مع عمر بن عبد العزيز لا تذكرها إلا كتب شيعية تستغرق في سب كل بني أمية، ولذا فمن الأفضل ترك تلك المحاورة لأنها تبرز عمر بن عبد العزيز في ثوب الطاغية، وهذا ما لم يقل به مؤرخ منصف.

ثم بعد معارك المختار يخفت ذكر أبي الطفيل، ويظل الرجل مقيمًا في دائرة الظل حتى يلقى ربه بمكة المكرمة في عهد هشام بن عبد الملك.

حياة كحياة الصحابي الجليل كان تدوينها يستحق عناية أكبر من تلك العناية التي بذلها المؤرخون، ولكن حركة تدوين التاريخ وبدايات الترجمة للصحابة بدأت بعد رحيلهم بسنوات عديدة، وتدخلت الأهواء السياسية في الأمرين جميعًا.

أبو الطفيل كان من قواد جيش الإمام علي وقد هُزمت ثورة عليّ وانتصرت الثورة المضادة التي لن تتحرج عن تجاهل ذكر أسماء كانت بارزة، بل لن تتحرج من طمس ملامح التاريخ ذاته.

رحم الله أبا الطفيل وجمعنا به في الصالحين.

ـــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة

9 فبراير 2025


أبو ذر.. الدولة تهزم الثورة

 

 


اسمه مختلف عليه، مرة يقولون:" جندب بن جنادة الغفاري “ومرة يقولون:" جندب بن سكن " وفريق ثالث يقول:" برير بن جنادة “.

عمومًا هو معروف لدينا بـ “أبو ذر " وحتى في هذه فهناك اختلاف، يقولون في سبب إطلاق تلك الكنية عليه إن اسم (أبي ذر) أو (أبي الذر) من معنى النملة. ويوجد قول صرّح بذلك: "كني بأبي ذر لأنه خبز خبزا فطلع عليه الذر".

وبعضهم يقول إن اسم أبي ذر من فعل (يذر) أي يترك. فالروايات التي تصف حال أبي ذر يُفهم منها أن اسم أبي ذر من (الوحدة) و (العزلة) و (الخلوة) و (التفرد) وهي جميعها من معاني فعل (يذر) أي يترك. وهناك حديث نبوي شهير يقول:" مرحبا بأبي ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده ".

شاء الله أن يكتمل ـ مبكرًا ـ عقل أبي ذر فهجر عبادة الأصنام قبل الإسلام وكان يعبد الله الواحد الأحد بطريقة ما، وكان لأبي ذر شقيق يدعى " أنيس " سافر إلى مكة في حاجة من حوائجه ومكث بها بعض الوقت، وعندما عاد سأله أبو ذر عن أحواله بمكة فقال له سمعت برجل يزعم أنه رسول من الله.

تنبهت كل حواس أبي ذر لكلام أخيه فعاد يسأله عن موقف قومه منه؟

فقال أنيس: إنهم يقولون هو ساحر ومرة يقولون إنه شاعر ومرة يقولون بل هو كاهن، أما أنا فلا أراه ساحرًا ولا شاعرًا ولا كاهنًا.

عند هذا الحد من الحوار انطلق أبو ذر يقصد مكة لكي يتبين الأمر بنفسه.

في مكة ستقابله مشكلتان، الأولي أنه غريب لا يعرف أحدًا كما لا يعرفه أحد، وقد تغلب بإقامته بجوار الكعبة على تلك المشكلة وكان طعامه وشرابه أن يرتوي من ماء زمزم.

المشكلة الثانية أنه يبحث عن رجل لا يعرف حتى ملامح وجهه.

مكث أبو ذر في مكة ثلاثين يومًا لا يعرف طريقًا إلى الرجل الذي يزعم أنه رسول من عند الله، حتى لفتت إقامته الدائمة بجوار الكعبة نظر الإمام علي بن أبي طالب، الذي استضافه في بيته ولم يسأله عن شيء، ثم تجرأ أبو ذر وباح بسره لعليّ الذي قدمه إلي الرسول فجري بينهما هذا الحوار 

قال أبو ذر: أنشدني مما تقول.

فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: ما هو بشعر فأنشدك، ولكنه قرآن كريم.

قال أبو ذر: اقرأ عليّ.

فقرأ عليه الرسول، ما تيسر من القرآن، فقال أبو ذر:       " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"!

وسأله النبي: ممن أنت يا أخا العرب؟

فأجابه أبو ذر: من غفار.

فتألقت ابتسامة على فم الرسول، ضحك لها أبو ذر، لأنه يعرف سر ابتسامة الرسول، وذلك لأن قبيلة غفار كانت مضرب المثل في قطع الطريق والسطو على الناس، وها هو واحد من أبنائها جاء يجهر بالإسلام الذي لم يكن قد غادر بعد مهده الأول.

قبيل انصراف أبي ذر من مجلسه مع الرسول، طلب منه الرسول أن يكتم الأمر حتى إذا ظهر الإسلام واشتد عوده يعود أبو ذر علانية غير خائف من أحد.

لكن أبو ذر غلبت عليه طبيعته التي تريد الحق كله في ساعة واحدة، ولذا فقد أقسم بأنه سيجهر بإسلامه أمام صناديد قريش، بالفعل توجه إلى الكعبة وأعلن إسلامه فانهلوا عليه بالضرب ثم تركوه وهو يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، وفي صباح اليوم الثاني كرر فعلته فعادوا إلي ضربه، حتي مر بهم العباس بن عبد المطلب فحذرهم من قتل الرجل الذي عرف إنه من غفار لأن قبيلته لن تسكت على قتله خاصة وطريق تجارة قريش يمر عبر أراضي القبيلة.

عاد أبو ذر إلى قبيلته وعرض الإسلام علي أمه وأخيه أنيس فأسلما ثم عرضه على باقي أفراد قبيلته فاسلموا جميعًا ثم لم يكتف بهذا الانجاز فعرض الإسلام علي قبيلة تجاورهم وهي قبيلة " أسلم " فاسلموا كذلك.

وعندما سمع بهجرة الرسول وأصحابه إلى المدينة هاجر بكل أفراد القبيلتين الذين بايعوا الرسول ثم عادوا إلى أراضيهم وبقي أبو ذر بجوار الرسول في المدينة.

كان قلب أبي ذر قد امتلأ بالمعني الأول للإسلام من حيث أنه يعني المساواة الكاملة والحق المطلق والثورة الدائمة على كل ظلم وأي ظلم.

هذا المعني لم يكن يمثل أدني مشكلة في زمن دولة الرسول ولا في زمن دولة أبي بكر الصديق ولا في زمن دولة عمر، ولكنه هذا المعني الجليل الخطير تحول إلى محنة في زمن دولة عثمان.

الصحابة المجاهدون الذين عايشوا الرسول أصبح بعضهم من أثرى أثرياء القوم، بينما ظل الفقراء على حالهم من الفقر والعوز، رجل يريد الحق المطلق مثل أبي ذر لا يرتاح له جانب حتى يخرج على الناس محذرًا من ضياع المعني الأول، معني المساواة ونصرة الحق.

ولأنه لم يكن رجل دولة ولا رجل سياسة بل كان رجل ثورة دائمة فقد توجه إلى معقل الأثرياء وإلي قلعتهم الحصينة، توجه إلى دمشق التي يحكمها باسم الخلافة معاوية بين أبي سفيان.

اجتمعت الأمة علي أبي ذر الذي لو أراد أن يكون من الفقراء جيشًا يحارب به الأثرياء لفعل، ولكن الرجل يريد أن يعيد الأمة إلى شريعتها بالكلام لا بالسيوف، هو يكره أن يراق الدم ويحب أن تسري كلمته في القلوب فتعيدها كما كانت في زمن الرسول، ولذا راح يصرخ في طرقات دمشق حيث قصور ومزارع الأثرياء:" بشر الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار، تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة ".

ثم يصرخ وقد اشتد ضيقه بهؤلاء الأثرياء:" عجبت لمن لم يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه ".

ثم ينفر من الدم ومن خروج السيوف من أغمادها فيعود إلى التخويف من النار التي تنتظر الكانزين.

ضاق الأمير معاوية بدعوة أبي ذر فاستدعائه ليناظره، وزعم معاوية أن آية الكنز قد نزلت في أهل الكتاب، فرد عليه أبو ذر:" لقد نزلت فيهم وفينا ".

لم يجد معاوية أمامه سوى الشكوى إلي الخليفة عثمان بن عفان الذي استدعي أبا ذر وخيره بين الإقامة في المدينة أو الخروج منها، فاختار أبو ذر الخروج لأنه لم يعد لديه صديق، فهو يهاجم الجميع، فما إن يسمع بأن فلانًا من الصحابة قد بني بيتًا أو امتلك مزرعة حتى يقيم عليه الدنيا.

أبو ذر يريد كل الحق الآن ولا تستطيع طبيعته الثورية أن تتسامح مع أدني درجات الظلم ولو للحظة.

لقد عرضوا عليه إمارة العراق هذا المكان الثري جدًا والمتحضر للغاية لكنه رفض قائلًا:" والله لا تميلوا عليّ بدنياكم أبدًا ".

أبو ذر يريد الصحابة كما تركهم الرسول، مجاهدين مصابيح هدى، أما الثروات فهو لا يكاد يصبر على جمعها وعلي جامعيها لحظة واحدة.

لقد خرج إلى أرض الربذة وهي صحراء من كل الجهات، لكي تتحقق فيه نبوءة الرسول، يعيش وحده ويموت وحده، وقبيل موته يقول عنه الإمام عليّ بن أبي طالب:" لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ".

وهو يحتضر بكته زوجته وولده فلم يكن لديهما ما يصلح كفنًا لأبي ذر فمر بهم عبد الله بن مسعود فبكاه قائلًا:" صدق رسول الله، تعيش وحدك وتمشي وحدك وتموت وحدك ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بصوت الأمة 

السبت 22 فبراير 2025


 



الخميس، 20 فبراير 2025

العذاب الثقافي لزعيم مكة


 تتأمل اسمه فتشعر بمهابته، أبو سفيان صخر بن حرب بن أميه القرشي، عندما يتزوج لا يتزوج إلا سيدات 

زمانه، يكفيك أن تعرف أن هند بنت عتبة واحدة منهن، وعندما يُولد له يكون معاوية ملك الإسلام، الرجل الذي

 أسس دولة واحدًا من أولاده، يسود قريشًا التي تسود دولة مكة وهو في مقتبل عمره، يتاجر لها ويقود قوافلها 

ويحمي مصالحها الاستراتيجية، ويجالس هرقل ويتحدث مع كسري ويحارب ثم يفاوض عدوها الأول  محمد بن عبد الله.


رجل كهذا يتمتع بالعقل والحكمة والنباهة ترى ما الذي صرفه عن الإسلام؟

في أعماق نفسه كان يعرف أن الإسلام قادم لا محالة وأن محمدًا وأصحابه لن ينكسروا وأنهم عائدون إلى ديارهم الأولى حيث مكة والكعبة التي بفضل وجودها تسود قريش العرب.

مصارحته لنفسه جعلته يغض الطرف عن زواج ابنته أم حبيبة من عدوه محمد، كان يستطيع إرسال فرقة اغتيال تتخلص منها وهي في مهجرها بالحبشة، أبو سفيان التاجر الماهر، تمهل، واتخذ القرار الصائب الذي سيصب في مصلحة دولته مكة، وجود ابنته في بيت عدوه سيقوي مركزه التفاوضي يوم تبدأ المفاوضات.

على الأقل هو سيدخل بيت أبنته ويجلس تحت رعايتها المباشرة.

ولكن ما الذي صرفه عن اغتنام كامل الفرصة والسبق إلي الإسلام حتى يواصل سيادته تحت مظلة رضوان محمد الزعيم القادم لا محالة؟

إنها الثقافة، ثقافة أبي سفيان، هى التي منعته، أبو سفيان لا يستطيع قبول وجود بلال بن رباح أو عمار بن ياسر 

أو صهيب الرومي بجواره، إنه لا يكاد يراهم، وهم في الوقت نفسه مقربون جدًا من الزعيم القادم.

الزعيم القادم تأمر شريعته بالمساواة الكاملة والتامة والشاملة، شريعة الزعيم القادم لا تري فرقًا بين أبيض وأسود

 ولا بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، شريعة الزعيم القادم تؤكد: "كلكم لآدم وآدم من تراب".

كل هذا أثقل من جبل أحد على قلب أبي سفيان، مَنْ هؤلاء الذين سيجالسهم ويسمر معهم بل قد يتلقى منهم الأوامر؟

عالم أبي سفيان سيختل عندما تضعه شريعة محمد في كفة وبلالًا في كفة، ثم ترجح كفة بلال!

هل يقف أبو سفيان خلف عمار بن ياسر في الصلاة ويركع خلفه ويسجد خلفه ولا ينهي صلاته قبله؟

كيف يكون هذا؟ ثم مَنْ عمار، بل مِنْ كل هؤلاء؟

إنهم أكبر صفر رآه في حياته، ولكن مهما عظم حجم الصفر فسيظل صفرًا.

إنه لا يصدق أن سادة مثل على بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وسعد بن أبي وقاص و أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يجالسون هؤلاء ويأكلون معهم في طبق واحد، بل يقدمونهم أحيانًا على أنفسهم.

ما الذي حدث لهذا العالم التعس الذي يريد لأبي سفيان نهاية كهذه؟

لا وألف حرب، لا وألف معركة، لا وأنهار من الدم تجري على صحراء الجزيرة، هؤلاء شيء، أما أنا فأبو سفيان.

ثم لم يعد من أمر الله عاصم، وحانت لحظة الحقيقة، بلال وصهيب وعمار أصبحوا قادة وأمراء، وأبو سفيان 

أصبح لا في العير ولا النفير.

أستسلم أبو سفيان فأسلم ولكن السيد الجديد لم يتركه لشأنه، السيد الجديد معطاء كريم كأنه الريح المرسلة، السيد الجديد لا ينفد حلمه ولا نهاية لصبره، لكنه لا يسمح بأدنى كلمة تقال ضد ثقافته، ثقافة شريعته، إنه يشعل حربًا 

لو شعر بأن ميزان المساواة شابه اختلال.

دولة السيد الجديد، إعلامها، جيشها، قضاؤها، فقهها، حديثها، تفسيرها، كل الآليات مسلطة فوق رأسي أبي سفيان، 

لا تخيره إلا بين أمرين، المساواة أو العدم.

أبو سفيان تعذب وهو يغير ثقافته، الريح عاتية والدولة قوية مخلصة لثقافتها، إذن لا مفر.

إن جهاد أبي سفيان في ترويض نفسه على الثقافة الجديدة يستحق التأمل، إنه جهاد مرير لأنه كان يدمر عالمًا 

قديمًا ليبني عالمًا جديدًا، السيادة فيه لأهل الكفاءة ولأهل التقوى، أما أهل الحسب والنسب فعليهم أن يسابقوا

 أعمارهم لكي يلحقوا بركب المنتصرين.

ـــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة

السبت 15 فبراير 2025

إراحة الضمير بصنع الأساطير


شهد يوم الاثنين 27 يناير 2025 حدثًا خارقًا، عندما قرر آلاف الفلسطينيين، العودة سيرًا على الأقدام إلى ديارهم في شمال، وهم الذين كان الاحتلال قد فرض عليهم النزوح إلى أقصى جنوب غزة.

كان المشهد ينتمي لعالم الأرواح والأشواق وليس لعالم الحسابات العقلية البادرة، كان المشهد رسالة واضحة جدًا: نحن شعب غير قابل للهزيمة.

أثناء الزحف سيرًا على الأقدام قال بعضهم: سنقيم خيمنا فوق أنقاض بيوتنا.

آخرون دعوا الله أن يرشدهم لأنقاض بيوتهم.

بعد الوصول، ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، لا وجود لأي شيء من مقومات الحياة، لا بيوت ولا مدارس ولا مستشفيات ولا كهرباء ولا ماء ولا صرف صحي ولا بنوك ولا طرق، فكيف سيعيش هؤلاء؟

نشر موقع روسيا اليوم تصريحات على لسان مصدر فلسطيني جاء فيها: "لم يتم إدخال أي بيوت متنقلة مؤقتة إلى شمالي القطاع أو جنوبه، ونحو ثلثي الشاحنات التي دخلت قطاع غزة تحمل مواد غذائية.

وذكر أنه تم إدخال 197 شاحنة وقود للقطاع لا يستفيد منها الدفاع المدني ولا البلديات ولا شركات الكهرباء، كما لفتت المصادر إلى أنه لم يتم إدخال أي آليات أو معدات ثقيلة إلى القطاع لإزالة الركام والبحث عن الجثث.

وتابع أنه لم يتم أيضا، إدخال أي مواد بناء إلى غزة رغم الحاجة الماسة إليها في الترميم وإعادة التأهيل، وكذلك لم يتم إدخال أي من مستلزمات الطاقة الشمسية رغم الحاجة الماسة إليها، ولا حتى الأجهزة والأدوات الطبية إلى المستشفيات بشكل كاف، مشيرة إلى أن شمالي قطاع غزة يعاني من أزمة مياه خانقة بسبب تضرر أكثر من 75% من الآبار.

وختم المصدر قائلًا: لم يتم إدخال السيولة النقدية للبنوك في قطاع غزة رغم الأزمة الشديدة في توفر العملة".

الهدف الحقيقي من عدوان الاحتلال على غزة بدأ في الظهور شيئًا فشيئًا، الهدف هو التهجير ولا شيء غيره، ودع عنك القضاء على حماس وتحرير الأسرى بالقوة، فحماس ها هي تستعرض الأسلحة التي غنمتها من العدو أثناء حفلات إفراجها عن الأسرى، والأسرى أنفسهم لم يتم تحريرهم إلا بالتفاوض.

توارى نتانياهو المشغول بترميم حكومته وبالدفاع عن نفسه أمام القضاء ليحل محله دونالد ترامب رئيس القوى العالمية المسيطرة.

رفع ترامب غلالة الستر وقال: على مصر والأردن قبول أعداد كبيرة من الفلسطينيين.

هذا هو التهجير العاري الذي لا تستر عريه أكاذيب حقوق الإنسان وفق التعريف الغربي والأمريكي.

هبت مصر والأردن لرفض كلام ترامب، وصدرت عن قيادات البلدين تصريحات هي الأقوى منذ زمن بعيد، تصريحات واضحة قاطعة حاسمة، لخصتها مقولة الرئيس عبد الفتاح السيسي:" تهجير الفلسطينيين ظلم لن نشارك فيه".

هل سكت ترامب؟

حتى ساعة كتابتي لهذه السطور، يبدو مصرا على كلامه رغم الرفض المصري الأردني!

الأمر جد لا هزل فيه، ولذا فقد أغضبني الغضب كله كلام كتبه وصرح به بعض الذين ينسبون أنفسهم لعالم السياسة.

هؤلاء لعبوا اللعبة الخبيثة المريحة، فلكي يريحوا ضمائرهم لجأوا إلى تحويل الموقف المصري والفلسطيني إلى أسطورة!

قائلين: صمود مصر وصلابة موقفها وكذا صمود أهل غزة لن ينكسر.

ما هذا؟

هي إراحة للضمير لا أكثر ولا أقل، مصر وغزة والأردن في مواجهة مع أعتى قوة عالمية، فإن لم يتم دعم الأطراف الثلاثة بقوة، فنحن نلقي بهم إلى العراء الكوني.

وما أصدق الشاعر الذي قال:

أَلقاهُ في اليَمِّ مَكتوفاً وَقالَ لَهُ

إِيّاكَ إِيّاكَ أَن تَبتَلَّ بِالماءِ.

لا شيء بالمجان، ومصر والأردن وأهل غزة سيدفعون ثمن موقفهم الرافض للتهجير، فإذا لم يحصلوا على دعم حقيقي، دعم على الأرض وليس في سماء الغناء والشعارات، فلن يستمر صمودهم إلى الأبد.

مصر الأن في وجه المدافع، والكل يعلم ما تحتاجه مصر، والتسويف والمماطلة لن تكون في صالح أحد، لأنه ببساطة وصراحة، إذا لا قدر الله انكسرت الإرادة المصرية، فسيضيع كل شيء ولن ينجو أحد.

أهل غزة الذين عادوا إلى الشمال، بعضهم لم يعرف أين شارعه الذي ولد وعاش على ترابه، فكيف نطالب هذا بالصمود الأبدي؟

إذا لم يسارع الفاعلون، وكلنا نعرفهم إلى تقديم الدعم فهم وبصراحة يدفعون للتهجير التهجير ولكن بشكل طوعي، إنهم يريدون من أهل فلسطين أن يطلبوا بألسنتهم إخراجهم من محرقة غزة.

مصر والأردن وغزة، قدموا ما في وسعهم ورفضوا خطة ترامب بوضوح وحسم، وهم الآن في حاجة ماسة لكل دعم ومساندة، هذا وإلا فالضياع التام الكامل لكل الذين يظنون أن حصونهم مانعتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة

09 فبراير 2025