الاثنين، 7 يوليو 2025

قداسة الجهل الدامي!

هل يمكنك أن تحارب أُممًا لا تعرف عنها شيئًا؟
بداهةُ العقل تقول: لا.
لكن قوى الاحتلال ذات النزوع الإمبراطوري تقول بأعلى صوت: نعم، نحن نستطيع محاربة الذين لا نعرف عنهم شيئًا، وسنظل نحاربهم حتى نطحن عظامهم.

فهل قوى الاحتلال، ذات التوجه الإمبراطوري، التي تريد إعادة رسم العالم وتخطيطه وفق مصالحها، عاجزة عن المعرفة؟
الحقيقة: لا.
الحقيقة أنها تستمرئ الجهل، ثم تؤسِّس له مدرسة تقوم على خلط الأوراق، فتتوه الحقائق، فلا يدري المقتول مَن قتله، ولا لأي ذنب قُتل!

قرأتُ قديمًا قصة تقول إن السيدة جيهان السادات، زوجة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، سمحت لصحفية أمريكية بمحاورتها. وقبل بدء الحوار، كانت السيدتان تتجاذبان أطراف الحديث، وفجأة سألت الصحفيةُ السيدةَ جيهان:
ـ كم مرة يضربكِ زوجكِ يوميًا؟
مع وقاحة السؤال، ظنت السيدة جيهان أن الصحفية تشاكسها أو تصنع مادة للضحك، فأجابتها مبتسمة: خمس مرات يوميًا!
لكن الصحفية لم تبتسم، بل ظهرت على وجهها علامات الجدية، فصاحت السيدة جيهان في وجهها:
ـ ما هذا السؤال؟! ظننتك تمزحين! أنا زوجة رئيس الجمهورية، وأستاذة بالجامعة المصرية!
ثم تبيَّن للسيدة جيهان، بعد النقاش، أن الصحفية خلطت بين مرات الصلاة الخمس المفروضة وضرب الرجل المسلم لزوجته!

ما الرابط بين الأمرين؟
سَلِ الأمريكيين!

أنا أصدق تلك القصة، فعليها من عالم الحاضر شواهد وشهود، وقد شهد بعض المنصفين من أهل بلاد الاحتلال بأنهم لا يعرفون شيئًا ـ أي شيء ـ عن الأمم التي يقاتلونها بضراوة منذ قرون، بل ولا يريدون أن يعرفوا!

نقرأ معًا شهادة النائب الأمريكي الشهير بول فندلي، الذي رحل قبل سنوات قلائل. يقول فندلي في كتابه «لا سكوت بعد اليوم: مواجهة الصور المزيفة عن الإسلام في أمريكا»:

"إن معظم الأمريكيين لا يعرفون أي مسلم، لم يناقشوا يومًا الإسلام مع أي شخص مطّلع على هذا الدين، ولم يقرأوا يومًا آية واحدة من القرآن، بل ولا أي كتاب عن الإسلام. وتنبع غالبية تصوراتهم عن الإسلام من الصور السلبية المزيفة التي تظهرها التقارير الإخبارية، والأفلام، والمسلسلات التلفزيونية، والحوارات في الإذاعات والتلفزيون".

ويعترف فندلي:

"أنه منذ طفولته وحتى خريف عمره، استقرت نمطية مضللة في ذهنه، فقد كانت معلمة مدرسة الأحد المسيحية تقول لنا: إن شعبًا أميًّا، بدائيًّا، ميّالًا إلى العنف، يعيش في مناطق صحراوية، ويعبد إلهًا غريبًا".

ويختم فندلي شهادته قائلًا:

"كنت أعتقد أن المسيحية واليهودية مرتبطتان معًا، وتشكلان جبهة الغرب المتمدن والتقدمي، على الخط الفاصل الذي يقف على جبهته الأخرى الإسلام، الذي اعتبرته القوة المتخلفة والخطِرة في الشرق العربي".

فندلي هذا كان له كتاب شهير نشره تحت عنوان: "من يجرؤ على الكلام؟" وقد تُرجم إلى لغات عديدة، على رأسها العربية. في ذلك الكتاب، يعترف فندلي بأنه، قبل زيارته لليمن في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لم يكن يعرف شيئًا لا عن اليمن ولا عن الشرق الأوسط كله، وقد فضح في كتابه هذا صناعة الجهل أو التجهيل التي يقوم بها اللوبي الصهيوني المتحكم في الإعلام والثقافة، بل والسياسة الغربية.

والجدير بالذكر أن فندلي، الذي كان نائبًا عن دائرته لعشرين عامًا، فقد مقعده في الكونغرس، ولم يعد إليه ثانية، لأنه تجرأ على فضح الأكاذيب الصهيونية.

ومن الشهادات الدامية الفاضحة، ما جاء في تقرير لوحدة من وحدات جيش الاحتلال عن بدء عملية الطوفان.
قال أحد الضباط:

"لقد رأيتهم في العاشرة صباحًا (يقصد المقاومين) ، وهم يصلّون العصر، ثم شنّوا هجومًا على المدنيين!"

هذا الضابط، الذي يحتل وجيشه فلسطين منذ ما يزيد على السبعين عامًا، يجزم بأنهم صلّوا العصر في تمام العاشرة صباحًا!
وليس في الإسلام، منذ أن كان، صلاة مفروضة في العاشرة صباحًا.
ومع ذلك، يُرفَع التقرير إلى الجهات العليا التي تبني موقفها بناءً على تقارير كاذبة جاهلة مثل هذا التقرير!

وأختم بجزء من المقابلة التي أجراها المذيع الأمريكي تاكر كارلسون مع السيناتور الجمهوري تيد كروز، وهو من غلاة المنادين بسحق إيران:

تاكر: هل تعرف عدد سكان إيران؟
كروز: لا أعرف.
تاكر: ألا تعرف عدد سكان الدولة التي تسعى لإسقاط حكومتها؟! كيف يمكن ذلك؟
كروز: وهل تعرف أنت؟
تاكر: نعم، 92 مليون نسمة.

تواصل الحوار، وكان في حدّة وسرعة تنس الطاولة، إلى أن ختمه السيناتور المتعصب الداعي لسحق إيران بفضح المسكوت عنه، عندما قال:

"لقد تعلمت من الكتاب المقدس: أولئك الذين يباركون إسرائيل سيباركون، وأولئك الذين يلعنون إسرائيل سيلعنون. من وجهة نظري، أريد أن أكون مباركًا".

ليت أبناء نخبتنا الذين يجلدون ظهورنا كل يوم، ويتهموننا بالجهل والتخلف لأننا لا نريد أن نتعلم من الغرب المتحضِّر المتمدِّن، ليتهم يتشجعون مرة ويناشدون الغرب أن يعرف من نحن، قبل أن يشن غارته علينا!


منشور بجريدة صوت الأمة
السبت 5 يوليو 2025م


 

الأحد، 29 يونيو 2025

ما أشبه ليلة إيران ببارحة العراق


 

لكل منا صندوق ذكريات، وقد شاء ربي أن يكون صندوق ذكرياتي أسود لا يضم إلا الذكريات السود، وقد شاء ربي ـ لا راد لمشيئته ـ أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية هي حجر أساس صندوقي الأسود، وأن تكون النواة الصلبة لذكرياتي.

أتذكر يوم الثاني من أغسطس من العام 1990، في ذلك اليوم الحارق البخيل قام صدام حسين رئيس العراق الأسبق بغزو الكويت، ففتح علينا باب شر لم يغلق من يومها.

أتذكر هياج الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف راحت تذرف الدموع على أشياء تبدو مضحكة، فهى مرة تبكي، مستقبل الأمة العربية (الأمريكان يبكون الوحدة العربية!) ومرة تبكي من أجل الديمقراطية، وتبكي ثالثة خوفًا على العالم من مدافع صدام العملاقة التي يستطيع بها قصف سيدني في أستراليا!

كانت أمريكا تضحك على العراق وتخدعنا، كانت تفاوض مرات وتبكي مرات وتبحث عن حلول سلمية مرات، فجعلنا سلوكها نقع في حيص بيص، فلا دليل مادي قاطع على أنها ستدمر العراق بحجة تحرير الكويت ولا دليل مادي قاطع على أنها ستحرر الكويت بطرق دبلوماسية.

كان السؤال الجارح لكل هذه الأمة من محيطها إلى خليجها هو: هل ستضرب أمريكا؟

مرت شهور أغسطس وسبتمبر وأكتوبر ونوفمبر وديسمبر، ودخلنا في العام الجديد 1991 ومضى من بدايته أكثر من نصف شهر يناير، خلال كل تلك الشهور جاءنا من يوسوس لنا قائلًا: أمريكا لن تضرب وستترك الكويت غنية لصدام مقابل تمركزها في كل الخليج!

المحزن بل المفجع أن استعداد أمريكا للضرب كان يجري على قدم وساق، وكل الأمور كانت ترتب تحت أعيننا ولكنا كنا نخاف مواجهة الحقيقة فلجأنا إلى أوهام تدخل قوى كبرى ستنقذ الموقف في اللحظة النهائية وإلى أوهام قدرة العراق على الصمود وإلى أوهام فشل أمريكا في تكوين تحالف دولي قوي.

أتذكر أن رئيس تحرير جريدة الأهالي الراحل الأستاذ فيليب جلاب قد أجرى حوارًا مع عسكري مصري بارز ولم يسمه، قال فيه العسكري المصري: أمريكا ستضرب وستضرب بكل قوة تمتلكها.

نزل علينا تصريح العسكري المصري البارز نزول الصاعقة، فقد أقام الرجل الحجج العقلية على صدق تحليله.

جاء ليل الخميس السابع عشر من يناير من العام 1991 وفتحت أمريكا بوابات الجحيم لا على بغداد بل على كل العراق، لا على كل العراق بل على حاضر ومستقبل هذه الأمة المسكينة المحاصرة.

في مئة ساعة لا تزيد دمرت أمريكا كل الدفاع الجوي العراقي، ثم في ستة أسابيع لا تزيد دمرت كل ما له علاقة بالجيش العراقي وبالبنية التحتية، ثم أعلنت تحرير الكويت!

كل ما فعله الأمريكان بالعراق لم يشف غليلهم، لقد فرضوا عليه حصارًا كالذي فرضه الكيان على غزة، حتى مناديل الحمام لم يكن مسموحًا بدخولها إلى العراق، حتى أقلام الرصاص منعوا دخولها العراق، وأيامها كنا نسمع الحجج المضحكة التي تخفي الهدف الكبير، كانت حججهم تدور حول منع العراق من تطوير الأسلحة النووية والبيولوجية!

ولا تسل عن علاقة المناديل الحمام بتطوير الأسلحة!

الهدف الكبير والحقيقي كان إسقاط نظام البعث الحاكم للعراق، إسقاطًا شاملًا جامعًا.

مضت عشر سنوات والعراق تحت الحصار الخانق، وكانت بادرة الأمل في تقرير سياسة" النفط مقابل الغذاء " التي وفقها يسمح للعراق ببيع بعض نفطه مقابل حصوله على بعض حقه في الأكل!

كل هذا الحصار لم يسقط النظام، فجاءت كارثة الحادي عشر من سبتمبر من العام2001

أيامها اتهموا العراق بأنه يرعى الإرهاب العالمي!

أتذكر صور كولن باول وزير خارجية الأمريكان، وهو يشير إلى شاحنة من شاحنات نقل الأثاث ثم يقسم بأنها مختبر نووي عراقي متحرك!

أتذكر توني بلير رئيس وزراء بريطانيا وهو يكاد يقسم بأن العراقيين هم يأجوج ومأجوج العصر الحديث.

تشكل حلف تقوده أمريكا ويضم بريطانيا وبولندا وأستراليا، حتى جاء يوم التاسع عشر من العام 2003 وفتحوا بوابات الجحيم على العراق، لقد عادوا لتدمير ما سبق له تدميره، في هذه المرة سيطروا جوًا وبرًا، لقد تدفقت قواتهم لإسقاط العاصمة بغداد الحبيبة الشقيقة.

أي كلام بعد سقوط العاصمة أي عاصمة هو هراء محض، فبسقوط العواصم تنهار الدول، في الثالث عشر من شهر ديسمبر من العام 2003 سقط صدام نفسه بين أيديهم، فتحقق لهم هدفهم الحقيقي وهو إسقاط النظام كله، ومن يومها وهم في حصانة قواعدهم في قلب العراق.

الآن وعدوان الكيان على إيران على أشده، والأمريكان بأنفسهم يشاركون في المعارك ويقومون بقصف المواقع المرتبطة بالمشروع النووي الإيراني، يعود الأمريكان لمواصلة لعبتهم المفضلة التي لا يستغنون عنها، لعبة الخداع الاستراتيجي، ففي كل ساعة لهم تصريح ينقاض سابقهم، فهم بعد أن قالوا: لقد محونا المشروع النووي الإيراني، عادوا ليؤكدوا بأن نتائج الضربة لم تظهر بعد!

هذه المراوغة نحن ذقنا مرارتها وتجرعنا سمها، ونمنا في ظلها ثم صحونا على تبخر نظام حكم تربع على عرش العراق لعقود طويلة، لا أريد الوقع في فخاخ الخوف ولكني لا أريد الوقوع في فخاخ الأماني الكذوب، فما أشبه الليلة بالبارحة، فإذا انطلقت الصواعق الأمريكية فكن على يقين من أنها تريد احتلال إيران وليس أقل من ذلك ودع عنك قصص قصف المواقع النووية ومنصات الصواريخ الباليستية.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة 

السبت 28 يونيو 2025

 

    

 

الأربعاء، 12 مارس 2025

محمد بن أبي بكر.. فاتح بيوت اللصوص!

 

تعمدت ذكر اسمه لكي يسأل القارئ الكريم نفسه: من هذا؟

ـ إنه محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حَرِيز.

ـ هل عرفته؟

ـ إنه ابن قيم الجوزية أو ابن القيم.

 الجوزية مدرسة من أقدم مدارس دمشق، وكان أبوه قيمًا عليها، ناظرًا أو مديرًا، بلغتنا المعاصرة، فأصبح ابنه محمد ابن القيم.

اتفقت الكتب التي ترجمت لابن القَيِّم على أن مولده كان في سنة إحدى وتسعين وستمائة هجرية.

أما عن مكان ولادته فهم يذكرون مكانين، إما جنوب سوريا وإما دمشق.

شأن أقرانه ـ خاصة وهو ابن عالم من العلماء ـ حفظ ابن القيم القرآن، وكان ظاهرًا لكل من يجالسه أنه سيمضي لأبعد من حفظ القرآن والأحاديث.

وذلك لأنه كان هادئًا هدوء الذي أتخذ بشأن حياته كلها قرارات حاسمة.

كانت أبرز قرارات ابن القيم بشأن حياته هي

الأول: أن يتتلمذ على أيدي أبرز علماء زمانه، وقد فعل ذلك.

قال الذين ترجموا له: إن عدد أساتذته ومشايخه الذين تلقي العلم عليهم كانوا أكثر من خمسة وعشرين عالمًا، وكان أبرزهم الشيخ الفقيه ابن تيمية، الذي سيلعب أخطر الأدوار في حياته ابن القيم، كما سنذكر ذلك بعد قليل.

القرار الثاني: الانقطاع للعلم، وكتابته، ومطالعته، وكيف لا يكون شديد الحب للعلم، شديد التعلق به، وهو القائل: "النَّهْمَةُ في العلم، وعدم الشبع منه من لوازم الإيمان، وأوصاف المؤمنين".

القرار الثالث: أن يكون جريئًا وصلبًا في دين الله، ويصدع بالحق؛ ولا يحابي أحدًا فيما يعتقد أنه الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم. القرار الرابع: أن يكون متجردًا في أبحاثه العلمية من كل هوًى نفسي، أو غرض ذاتي شخصي، وإنما كان يبتغي الوصول إلى الحق والصواب، ولو ظهر هذا الحق على لسان غيره.

القرار الخامس والأخير: أن يحتمل كل ما ستجلبه عليه القرارات السابقة من متاعب ومحن يقابلها صابرًا محتسبًا.

ليس هناك مجال لأن يقول قائل بأن زمن ابن القيم كان مختلفًا، بمعني أنه كان أفضل من زماننا هذا، الحقيقة أن زمنه كان أسوأ وبمراحل كثيرة وكبيرة من أيامنا هذه.

كان الإعصار التتري يضرب كل أرض المسلمين والعرب وكان شيخه المباشر وأستاذه الكبير ابن تيمية يجد ما هو فوق العناء لكي يقنع الناس بجواز قتال التتار، أقول بجواز وليس بفرض أو وجوب قتال التتار.

وأصل القصة أن دارسي التاريخ يعرفون معركة باسم (مرج الصفّر) بوصفها إحدى ثالث أكبر معركة جربت بين المسلمين والتتار، مسلمو سوريا أحسوا بقدوم التتار فهاجروا إلى مصر والبلاد المحيطة (كما يحدث الآن) وبقيت جماعة تقاوم، المقاومون كانوا يقاومون علي أمل أن الجيش المصري سيصل الشام سريعًا لكي ينقذها من أيدي التتار.

تأخر وصول الجيش المصري، فبدأ التراجع المزري والوضيع، إنه ذلك التراجع الذي يبحث في الدين عن سبب لمهادنة العدو أو الاستسلام له!

قال المرجفون في المدينة: كيف نقاتل التتار وقد أسلموا؟

هنا ابن تيمية للمرجفين وكأنه يقول لهم " على مَنْ؟ أنت لا تريدون القتال، وأنتم تعلمون أن التتار حتى لو كان بعضهم قد أسلم فهو يعتدون على دياركم بدون سبب ولا ذنب، هم معتدون خوارج على الجماعة، يرون أن من حقهم الحكم لا لشيء إلا لأنهم يريدون الحكم!).

هذا كان لسان ابن تيمية الذي قاتل كثيرًا حتى أقنع الشوام بضرورة قتال التتار، حتى أنه قال لأهله لو رأيتم المصحف فوق رأسي ورأيتموني أقف بجانب العدو فلا تترددوا في قتلي.

بعد قدوم الجيش المصري هزم الشوام التتار شر هزيمة.

ولكن بقي هذا الخلل الفاضح والفادح: البحث في الدين عن آية تبرر الانهزام وعن سطر يبرر الجمود، وهكذا سيدفع ابن تيمية وتلميذه ابن القيم حياتهما ثمنًا للتحرر من هذه الفكرة.

في ظل تلك الأيام المضطربة (الشعب لم يكن يريد فيها قتال العدو) سيكتب ابن القيم مؤلفاته والتي سنذكر أبرزها هنا

إعلام الموقعين عن رب العالمين.

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.

إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان.

بدائع الفوائد.

التبيان في أقسام القرآن.

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء.

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.

روضة المحبين ونزهة المشتاقين.       

زاد المعاد في هدي خير العباد.

هل رأيت الكتاب الوارد في ذيل القائمة؟ إنه زاد الميعاد، وما أدراك ما زاد الميعاد.

في زاد الميعاد كان ابن القيم قد نفض يديه من كل خوف من العامة ومن كل شغب من المتعصبين لمذاهبهم (عركة المذاهب قديمة جدا).

في زاد الميعاد سيبرز أسلوب ابن القيم كما لم يبرز من قبل، الرجل وصل إلى مرحلة (السلطنة) كما لو كان يغني أو التجويد لو كان يقرأ القرآن.

هل تعرف هؤلاء الذين يسمون أنفسهم الدعاة الجدد؟

هؤلاء الذين يطلون على المسلمين من تلفزيون المسلمين ليحضوا المسلمين علي الإسلام؟

هل تعرف أنهم قرؤوا كتاب زاد الميعاد تحديدًا، كلمة كلمة وسطرًا سطرًا وفصلًا فصلًا ثم جاؤوا إلي أبرز ما فيه وسجلوه في كشكول، فتري الواحد منهم قد حفظ كشكوله الذي نقل فيه ما يحلوا له من أقوال ابن القيم التي كانت بداية علم وأول طريق إلى معرفة كان يجب أن تتراكم ولو هؤلاء السارقين.

جلس سارق منهم أمام المذيع الجهول فأراد أن يبهر المذيع والمشاهدين، فطلب السارق من المذيع أن " يسمع دي ".

وكانت " دي" هي قوله إنه بعد بحث وتدقيق ومراجعة للمراجع والمصادر وبعد كذا وكذا من الجهد أكتشف أن الأنصار لم يستقبلوا الرسول عندما جاء من مكة مهاجرًا إلى مدينتهم بالنشيد ذائع الصيت " طلع البدر علينا ".

طبعًا الموضوع كله هو سرقه من زاد الميعاد لابن القيم الذي أقام دليلًا عقليًا على صحة كلامه فقال: إن مكة جنوب المدينة والقادم من مكة لن يمر بثنيات الوداع لأنها في شمال المدينة، ثم أن المدينة كان اسمها يثرب وظل كذلك لفترة حتى غيره الرسول بينما النشيد يتحدث عن المدينة وكأن اسمها هكذا منذ خلقت.

يخطف الخاطف منهم كل كلام ابن القيم فيفتح به بيته وينفق منه على عياله ثم لا يذكر مجرد ذكر ولا يشير مجرد إشارة إلي ابن القيم الذي هو صاحب الكلام!

صاحب ابن القيم شيخه ابن تيمية منذ عودة ابن تيمة من مصر وإلى وفاته، تلك الملازمة ستجر عليه السجن لأنهم قد سجنوا الشيخ فلابد وأن يسجنوا التلميذ، وكانوا قبل أن يسجنوا التلميذ قد طافوا به دروب دمشق ليشهروا به لأنه أفتى فتوى لم ترق لهم، أنكر مثلا شد الرحال لزيارة قبر الخليل إبراهيم عليه السلام.  

وعن معاناة ابن القيم بسبب أرائه الفقهية يقول المقريزي:" وفي يوم الاثنين سادس شعبان - يعني سنة 726هـ- حُبِس تقي الدين أحمد بن تيمية، ومعه أخوه زين الدين عبد الرحمن بقلعة دمشق، وضُرِب شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قَيِّم الجوزية، وشُهِّرَ به على حمار بدمشق، وسبب ذلك: أن ابن قَيِّم الجوزية تكلم بالقدس في مسألة الشفاعة والتوسل بالأنبياء، وأنكر مجرد القصد للقبر الشريف دون قصد المسجد النبوي".

بعد موت شيخه ابن تيمية أفرجوا عنه فلم يركن إلى الراحة وواصل التأليف ومحاربة الجمود إلى أن توفي الله في العام 751 هجرية.

 

 



الخميس، 6 مارس 2025

عبث شرير بتاريخ مجيد

 


أظهر المسلمون منذ فجر حضارتهم عناية فائقة بتاريخهم، فأسسوا بأنفسهم مدرسة متفردة في دراسة التاريخ، تقوم على السند، الذي يقوم عليه علم الحديث النبوي الشريف، فلا تجد كتابًا من كتب المؤرخين المسلمين إلا وهو يروى الحادثة مسندة.

هذه المدرسة المتفردة التي لم تعرفها أمة سبقت المسلمين، يعرفها لا شك في ذلك، أستاذ التاريخ أحمد صبحي منصور، ولكنه لا يعترف بها بل يركل إنجازاتها بقسوة بالغة.

ولد الدكتور منصور قبل سبعين عامًا، وتعلم في المعاهد الأزهرية حتى أصبح أستاذًا بجامعة الأزهر الشريف، ثم كثر الكلام عنه عندما بدأ يطعن في حجية السنة القولية، وهي الكلام الذي تلفظ به الرسول وصح نسبه إليه، وبعدها طعن في السنة العملية وهي التي تسجل أفعال الرسول ومثالها الشهير قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقوله أثناء حجة الوداع: "خذ عني مناسككم".

وعن تلك السنة قال الدكتور صبحي كلامًا كثيرًا جدًا يمكن تلخيصه في نقطة واحدة وهي: إن الإسلام هو ملة إبراهيم عليه السلام وكل ما كان يتعبد به إبراهيم أحياه الإسلام، فصلاتنا الآن هي صلاة إبراهيم وكذا بقية العبادات، ولذا لا نجد القرآن قد شرح طرق أداء تلك الشعائر!

مَنْ قال للدكتور صبحي إن الخليل عليه السلام كان يصلي الظهر أربع ركعات سرية ويجلس للتشهد مرتين؟

من الواضح أن الدكتور يفترض فرضًا ويبني عليه، غير ملتفت لأساسيات مدرسة التاريخ الإسلامي التي تهدر كل رواية لا سند لها.

ثم لم يبق أمام الدكتور سوى السنة التقريرية، فنسفها نسفًا.

السنة التقريرية قال العلماء في تعريفها: إنها ما فُعل بحضرة النبي فأقره، أو علم به فسكت عليه؛ لأنه لا يسكت على باطل، ولا يقر إلا حقا.

وعندما كان يُسأل الدكتور عن حجته في إهدار حجية السنة يقول: أعتمد على القرآن فقط، ما فيه يلزمني وما ليس فيه لا يلزمني.

ولقد أشار رسولنا الكريم في حديث شهير لخطورة رد الدكتور صبحي فقال لأصحابه: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".

والحال كما رأيت دخل الأزهر معركته مع الدكتور صبحي الذي كان يرد للأزهر الصاع صاعين، وما أكثر ما كتب في وصف الأزهر قائلًا: هذا هو الأزهر الشريف للبلاستيك!

وانتهت المعركة بفصله من جامعة الأزهر وكاد أمره ينتهي إلى مقبرة الصمت إلا أن أحد الأصدقاء - سامحه الله - بعث الرجل من مرقده، عندما قال لي: الدكتور أحمد صبحي منصور يقول: إن عمر بن الخطاب قد قتل أبا بكر الصديق!

الحق لم أصدق صاحبي الذي لم أعرفه كذابًا، فسألته: هل سمعته بأذنيك؟

قال: لا، بعضهم ذكر ذلك أمامي.

قلت لصاحبي: رمي الناس بالباطل أو الشبهات هو أمر عند الله عظيم، نبحث لنتأكد.

وليتني ما بحثت، لقد قالها الرجل في كتابات موثقة وكررها كثيرًا كأنها علكة يمضغها.

عثرت على قناة على اليوتيوب لا أعرف هل هى من ممتلكات الدكتور الخاصة أو أن بعضهم قد أطلقها من أجله، وعلى تلك القناة يأتي الدكتور منصور بكل عجيبة ونقيصة، ثم عثرت على موقع يحمل عنوان "أهل القرآن"، وهو من ممتلكات الدكتور الخاصة فقرأت فيه تفصيل ما قاله صاحبي.

في تفصيل قتل الفاروق للصديق قال الدكتور صبحي: إن حلفًا مكونّا من عمر بن الخطاب وأبي سفيان بن حرب كان يفرض أوامره على حلف مضاد يضم أبا بكر وخالد بن الوليد.

طبعًا هذا الكلام بدون أي وثيقة أو حتى قرينة أو حتى أوهى دليل، فالدكتور يفترض وعلينا نحن أن نصدقه.

نعم علينا أن نصدق أن عمر بن الخطاب كان واقعًا في غرام أبي سفيان، ومن أجل عيون هذا الغرام الحرام باع عشرة العمر وهانت عليه معاني الأخوة وترك وصايا النبوة وهجر القرآن وأصبح رجل مؤامرات، لماذا نصدق هذه الأكاذيب؟

لأنه الدكتور يريد ذلك!

حلف عمر كان يعلم أن حلف الصديق يستمد قوته من وجود خالد بن الوليد، فعمل ذلك الحلف كثيرًا على عزل خالد من قيادة الجيش، وعندما تمسك أبو بكر بورقته الرابحة، قام عمر باغتياله ثم عندما تولى الخلافة قام بعزل خالد.

آه لو كان على الكلام جمرك، لدفع الدكتور الغالي والنفيس لكي يمرر كلامه هذا، ولكن المشكلة أن الكلام مرسل لا قيد عليه.

في كل ما سبق توجد حقيقتان، الأولى أن الصحابة قد تقاتلوا، ولكنهم عندما وقعت الفتنة بينهم، كانوا رجال شرف وفروسية، فكان الرجل منهم يقاتل أخاه وجهًا لوجه وسيفًا لسيف وليس بالاغتيال والخداع، والذين وقعت الفتنة بينهم لم يكونوا على عهد الصديق ولا الفاروق، لقد بدأت الفتنة بعد عهدهما بسنوات.

الحقيقة الثانية أن الفاروق عندما تولى الخلافة قد عزل خالدًا، ولكن عزل خالد كان في سياق بعيد جدًا عن سياق المؤامرات والأكاذيب التي يروج لها الدكتور صبحي.

عن قتل الفاروق للصديق يقول الدكتور صبحي:

1 ـ إنّ أبا بكر مات مسموما بمؤامرة عمر. فقد كان المسيطر على أبى بكر في خلافته، ثم كان المستفيد من موته فتولى الحكم بعده. وساعده طلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وقد كانوا مع عمر في مشهد موت أبى بكر ودفنه ومبايعة عمر بعده. وسنراهم في مؤامرات تالية؟

2 ـ ولأنها مؤامرة قتل، فإن عمر أسرع بدفن الضحية ليلا، وقبل صباح اليوم التالي، ودون جنازة يحضرها الناس، بل ومنع النواح عليه. والروايات كلها تتفق في دفن أبى بكر ليلا بمجرد وفاته، دون أن ينتظر عمر للصباح.

لا حول ولا قوة إلا بالله، أهذا هو البحث العلمي الذي يقدمه أستاذ تاريخ؟

أهذا تاريخ أم خيال ظل؟

الدكتور لا يملك دليلًا واحدًا يقدم من خلاله قراءة جديدة لتاريخنا، هو فقط يمتلك خيالًا شريرًا، فكل عسل عند الرجل هو سم، وكل براءة هى حيلة وكل طهارة هى نجاسة، هل الدفن ليلًا يعني التخلص من الجريمة؟

ثم أين ذهب كل الصحابة وعلى رأسهم فتى الفتيان علي فارس الإسلام وفيلسوفه، هل شارك في التغطية على جريمة قتل، أم تراه كان مخدرًا؟

ثم أين ذهبت أسرة الصديق والرجل من قلب قريش؟

هل سكتوا جميعًا أم كانوا غائبين عن الوعي؟

الدكتور لا يمكنه الرد على هذه الأسئلة وغيرها، لأنه يخبط خبط عشواء، ويعبث وهو الرجل الذي جاوز السبعين بأصابع صبيانية في متن تاريخ مجيد.

المسلمون خلق من خلق الله وأمة من الأمم، وتاريخهم به النبلاء والأوباش والفجار والأبرار والقتلة والأبرياء، فلم شن صبحي غارته على أبي بكر وعمر والطبقة الأولى من الصحابة؟

إنها يا صاحبي خطة تسميم المنابع وحرق الجذور، هو ذهب إلى الشيخين الجليلين وقدمهما على هيئة رجال العصابات، فأبو بكر عنده ليس مقتولًا في مؤامرة فحسب، بل كان لصًا سرق خزينة الدولة!

إن القرآن الذي ينسب الرجل نفسه إليه يتحدث صراحة عن رضوان الله عن الذين بايعوا النبي تحت الشجرة، وكان أبو بكر وعمر على رأس المبايعين، فكيف أصبحا فجأة رجال عصابات؟

ثم السنة، عفوًا لقد نسيت أن الدكتور لا يعترف بالسنة.

ثم هناك كد وتعب أجيال عظيمة من المؤرخين، الذين دونوا تاريخنا بالكلمة بل بالحرف، كل هذا يرميه صبحي وراء ظهره.

فلا دليل ولا وثيقة ولا حتى ذكاء في قراءة الروايات التاريخية، لقد نسى الرجل في حمى الكتابة القرآن الذي يتشدق به، قال القرآن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ".

والحمد لله فقد تبينا فلم نجد إلا خيال شر ومقولة بهتان.

ــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة/ السبت 01 فبراير 2025