منذ أن خلق الله الخلق وإلى أن يرث الأرض ومَن عليها، لم
ولن تمر أنثى بأحداث كالتى مرت بها السيدة الصدِّيقة مريم العذراء.
فى البدء كانت السيدة مريم هى نجمة الحفلة وبطلة المشهد،
لقد اهتم بها القرآن الكريم وذكرها قبل أن تولد، نحن نعرف أنها ابنة العبد الصالح
عمران، وهو أحد صالحى زمانه وكان من علماء بنى إسرائيل وينتهى نسبه إلى خليل
الرحمن إبراهيم عليه السلام، وقد قرأنا أن أمها كانت طيبة صالحة كأبيها، وقالوا:
إن امرأة عمران كانت عاقرًا، وذات صباح كانت جالسة تحت شجرة، فرأت حنان طير يُطعم
فِراخه، فَتَحركت بداخلها مشاعر الأمومة فناجت ربها داعية: يا رب إنّ لك عليّ
نذرًا، شُكرًا لك، إنْ رَزَقتنى ولدًا أنْ أَتَصدق بِه على بيت المقدس لِيَخدمه.
ذلك النذر مذكور فى القرآن الكريم فاستجاب الله لها،
فحملت، وساعة الولادة تبين لها أن المولود أنثى وليس ذكرًا، فكأن ذلك قد غمّها،
لأن خدمة بيت المقدس كانت مقصورة على الذكور.
ولكن شاء الله أن يودع فى المولودة مريم، قدرات وصفات
تجعلها أهلًا لخدمة بيت المقدس، فنمت الطفلة مريم فى كنف زوج خالتها، وهو نبى الله
زكريا، عليه السلام، فكان بيتُها المسجد، وكان الطعام يَأتيها من الغيب بإذن الله.
وكل تلك المرحلة مذكورة فى القرآن، حتى جاء أمر الله
بأنْ بشَّرها بغلام، فتعجّبت إذ كيف يكون لها ولد وهى لم تتزوج.
هل وقع لأنثى قبلها مثل هذا؟
لم يقع ولن يقع، وذلك لأن حياة هذه السيدة الجليلة عليها
السلام هى معجزة إلهية ستمهد لمعجزة أكبر وأخطر وهى ميلاد سيدنا المسيح عليه
السلام.
كيف كانت مشاعر مريم لحظتها؟
القرآن ينص على أنها تمنّت الموت، لكى تفر من عار الحمل من غير زواج، وهى
الصوّامة القوّامة التى لم يمسسها بشر، ولكن كان لا بد من أن تمضى مشيئته تعالى
حتى ختام القصة، لقد جاءها المَخاض.
أى اختبار هو هذا الاختبار، بل أى بلاء هو هذا البلاء،
خادمة بيت المقدس الصدِّيقة تحبل فيعلو بطنها شأن الحبالى، ثم يأتيها المخاض ثم
تلد، ثم هى عذراء طاهرة من نسل طاهر لا يعرف الفاحشة.
ولدت الفتاة المسكينة الوحيدة دون مساعدة من أم أو خالة،
لقد جاءت بالنور عيسى عليه السلام.
قالوا لقد حملته وصعدت به جبلًا بجوار القدس وسكنت قمته
تأكل من نبات الأرض وتشرب من ماء المطر.
ثم كان لا بد للخبر من أن ينتشر ويذيع، لقد عرف الجميع
خبر ولادة مريم.
لقد حانت لحظة المواجهة بين مريم وبين الجميع، خاصة
الذين فى قلوبهم مرض أولئك الذين خاضوا فى عِرضها الطاهر.
القرآن ذكر تلك المواجهة بأوضح بيان: "فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا
أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ
صَبِيًّا قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا
وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ".
كل ما مرت به مريم كان تمهيدًا لذلك المشهد المعجز، رضيع
يتحدث بفصاحة ويقيم الدليل الأكيد على طُهر أمه ونقاء عِرضها.
بعد ذلك المشهد يختفى ذكر السيدة الجليلة، القرآن يتابع
حياة سيدنا المسيح حتى مشهد رفعه، ولكنه سكت عن متابعة حياة أمه السيدة مريم.
المصادر غير الإسلامية تقول: لقد عاشت السيدةُ مريم مع
ولدها عليهما السلام فى الجبل بعيدَين عن أعين الناس، يَتَعبدان ويَقومانِ فى
الليل ويَصومان فى النهار، يعتمِدان فى غذائهما على نباتات الأرض ومياه المطر، وفى
أحد الأيام نَزَل عيسى من الجبل لجمعِ بعض النباتات ليأكلَ مع والدته، فى هذه
الأثناء نَزَل مَلَكٌ على السيدة مريم وهى تُصلّى فى مِحرابها، فخافت ووقعت مغشيًا
عليها، وبعد أنْ أفاقت قالت للمَلَك: مَن أنت يرحمك الله؟.
قال لها: أنا مَلَك الموت. فقالت له: جِئت زائرًا أم
قابضًا.
قال: بل قابضًا.
فقالت: يا ملَك الموت لا تَتَعجّل حتى يعود قُرَّةُ
عينى، وريحانة قلبى، وفلذة كبدى عيسى.
فقال لها: ما أَمرنى الله تعالى بذلك، وأنا عبدٌ مأمور
من الله.
فقالت: يا ملَك الموت قد سلَّمتُ أمرى لله تعالى ورضيتُ
بقضائه.
وفى اليوم الثانى دخَلَ عيسى عليه السلام إلى أمّه
فوجدها نائمة، فلم يوقظها من نومها رحمةً بها، وقام إلى صلاته حتى ثُلُث الّليل
فعاد إلى أمه ووقف عند رأسها فقلب يدها وهو يقول لها: السلام عليكِ يا أمّاه قد
انتصف الليل وأفطر الصائمون وقام العابدون إلى عبادة الجبار، فلم يسمع منها أيَّ رد،
فظن أنّها تَعِبة وتُريد النوم، وعاد إليها مرةً ثالثة، وهو يحاول إيقاظها حتى سمع
صَوتًا من السماء يُخبِره بأنَّ روح أمِّه قد عَرَجت إلى السماء، فوقع عليه السلام
مغشيًا عليه، وحزن كثيرًا حتى سمع صوتًا يقول له: يا روح الله أتريدُ أحسن منى
مُؤنِسًا؟ فقال: أعوذُ بعِزة ربى ورأفتِهِ فإنى رضيت بحكم ربى. فَنَزل سيدنا عيسى
إلى إحدى قرى بنى إسرائيل ينادى: يا بنى إسرائيل أنا روح الله عيسى ابن مريم، إنّ
أمى قد ماتت فأعينونى على غسلها ودفنها؟ فرد عليه أهل القرية بأن هذا الجبل مليٌء
بالأفاعى ولم يسلكه أحد منذ سنين، فعاد سيدنا عيسى وفى طريق عودته لَقى رجلين فقال
لهما: إنَّ أمى ماتت غريبةً بهذا الجبل، فأعينونى على دفنها، فرد الرجلان بأنَّ
جبريل قد أرسلهما لذلك، فحفرا القبر، ونزلت الحور العين فغسَّلْنَها، ودفنها عليها
رضوان الله ورحمته.
تلك الرواية ليس ثمة إجماع مسيحى عليها، فالذى عند
المسيحيين بخصوص حياة السيدة مريم عليها السلام أنها عاشت حتى رأت ابنها على
الصليب، فقد جاء فى إنجيل يوحنا "فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ
الَّذِى كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا
ابْنُكِ".
ولأن السيدة الجليلة امرأة من النساء، أى بشر من البشر
فأين قبرها؟.
هناك روايات متعددة ولكن ليست معتمدة كنسيًا، فالكنيسة
الأرثوذكسية ترى أن ما حدث للعذراء هو ما يعرفه المسلمون بالرفع أو الإسراء، واسمه
عند المسيحيين هو "الانتقال".
الكنيسة الأرثوذكسيّة، أقرّت بأنّ انتقال السيّدة
العذراء قد تمّ فعلًا، ولكنّه بعد مدّة قصيرةٍ جدًا من وفاتها، وإنّ العذراء عندما
وافتها المنيّة كانت فى منطقة بستان الزيتون فى أرض "أورشليم" والتى هى مدينة
القدس فى فلسطين، وقد كان شاهدًا على وفاتها بعض من تلاميذ السيّد المسيح، والذين
كانوا إلى جوارها، وكانوا ما يزالون هم على قيد الحياة، ويقولون بأنّ جسد العذراء
مريم قد بُعِثَت فيه الرّوح مجددًا، وذلك بعد ثلاثة أيام من وفاتها، لتنتقل بعد
ذلك بروحها وجسدها وبشكلٍ مباشر إلى السّماء، وقد ارتفعت على مرأى من الناس
والتلاميذ.
فى كل الأحوال ستظل السيدة العذراء وسيظل ابنها سيدنا
المسيح يمثلان معجزة من معجزاته تعالى، فلهما المجد وعليهما السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة "صوت الأمة" يناير 2018