كانت أشعار شاعرنا الراحل الكريم أحمد فؤاد نجم بل مجرد حضوره فى الحياة بفاجوميته من الأمور التى تحرمها الحكومات المصرية المتعاقبة، كانت أغنياته مع رفيق دربه الشيخ إمام عيسى تصلنا عبر شرائط الكاسيت الرديئة أو من خلال الإذاعات التى أطلقتها الحكومات العربية المناهضة لتوجهات السادات نحو الصلح مع العدو الصهيونى، ولكم فرحنا عندما قام يوسف شاهين بوضع أغنية نجم وإمام (مصر يا أمه يا بهية) فى فيلمه (العصفور) فى أيام السادات، ولسنوات من عصر مبارك كانت شرائط نجم وإمام ودواوين الفاجومى (إن وجدت) تعد من أهم أحراز القضايا السياسية.
شخصيًّا حصلت على قصائد نجم المطبوعة فى بيروت بطريقة تدعو الآن للضحك، قام شقيقى الذى كان يعمل فى الكويت بشراء مجموعة أعمال نجم، وقام بتمزيقها إلى صفحات، وكل صفحة يجعلها لفافة لهدية بسيطة يرسلها مع كل عائد من البلد الخليجى، الذى لم يكن يجرم أشعار نجم، وهكذا تجمعت لدىّ أعمال الفاجومى على مدار شهر!
ثم جاءت الثورة التى كانت أشعار نجم تنادى بها، فإذا برئيس وزراء مصر ينعى نجم، وإذا بجنازته تضم عددًا من أهم الوزراء والمسؤولين، وإذا بالفضائيات الحكومية والخاصة والجرائد والمجلات تحتفى برحيله، وتعيد إليه جزءًا من تكريم يستحقه.
هل بعد هذه المفارقة من حق بعضهم تكفير الشعب بالثورة بطريقة (هو إحنا عملنا حاجة؟ هى دى ثورة؟).
وتكملة لتلك المفارقات التى تبين للمنصف أن ثورتنا قد أنجزت تغيرًا لا يستهان على كل الأصعدة، لا سيما الصعيد الإعلامى أذكر أننى كنتُ قبل ثورة يناير، مشرفًا على الطبعة الثانية لإحدى الجرائد. كنت أمارس عملى المعتاد عندما بثت القناة الأولى للتليفزيون الحكومى خبرًا عن انقلاب عربة من قطار حربى، أخذت الخبر بنصه دون حذف أو إضافة ووضعته على الصفحة، بعد دقائق جاءنى اتصال غامض من رجل غاضب يأمرنى بعدم نشر الخبر (هكذا دون تسمية للخبر)، ظننتُ أن الاتصال مداعبة سخيفة من تلك المداعبات التى يلجأ إليها الصحفيون الساهرون لمواجهة ملل السهرة، فرددتُ عليه بكلام من ذلك الذى يتبادله الزملاء، لم يتجاوب الغامض الغاضب مع ردى، وضاق صدره وصاح: «ليس من حقك التجاوز معى، وعليك أن ترفع الخبر الآن من على الصفحة، ولا تدعى أنك لا تعرف عن أى خبر أتحدث، ولكى لا تكون لديك حجة فأنا أكلمك عن خبر القطار الحربى»، قلت له: «لقد بث تليفزيون الحكومة الخبر، وأنا أخذته عنه». سب الغامض الغاضب التليفزيون ثم أغلق خط الاتصال فى وجهى.
بعد قليل وقبل أن أستوعب هذا الذى يجرى جاءنى اتصال غاضب أيضًا من رئيس التحرير، يبلغنى فيه أن أحدهم قد هاتفه شاكيًّا من عدم تعاونى ورغبتى فى الجدال فى ما لا طائل منه، ختم رئيس التحرير اتصاله بأن أوصانى بعدم الإشارة من قريب أو بعيد إلى خبر القطار.
الأمر الآن واضح لا لبس فيه، الغامض الغاضب يعرف جدول سهرات الجريدة، ويعرف توزيع الأخبار على الصفحات، بل ويعرف أين يجلس مسؤول الطبعة، لأنه اتصل بى على هاتف المكتب وليس على هاتفى المحمول!
رفعتُ الخبر الذى لم تكن به أى معلومات أو تفاصيل تمس الجيش من قريب أو بعيد، كنت مقهورًا وغاضبًا، لكنه قهر وغضب العاجز، وكانت الدولة البوليسية القامعة تقف فوق رأسى تملى علىّ ما يجب نشره وما يجب تجاهله، كان كل الذين يرطنون بشعار (أزهى عصور الديمقراطية) يتقافزون مثل القردة فوق مكتبى.
ثم جاءت ثورتنا العظيمة فأصبح بفضلها وبفضل دماء شبابها من حق كل واحد منا مناقشة ميزانية الجيش، وأصبح الاعتراض على أى قرار أيًّا كانت جهة إصداره أمرًا طبيعيًّا لا يستدعى مكالمات غامضة من الرجل الغامض.
سنحب ثورتنا ونفخر بها، وأبدًا لن نندم على أى تضحية، وأبدًا لن نخجل من أشرف وأطهر وأعظم أيام حياتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير - 11 ديسمبر 2013
لينك المقال بموقع التحرير: