* كيف أضعت كنز صافي ناز كاظم ونزار قباني ؟
في يوم جمعة من صيف العام 2012 همس لي جنيّ مؤمن بأن أعيد ترتيب مكتبتي.
جادلت الجنيّ لدقائق ولكن لأنه جنيّ فقد زيّن لي بدء العمل.
بدأت بأدراج مكتبتي، أخرجت الأدراج الثلاثة من أماكنها ووضعتها على السجادة
التي افترشتها وبدأت بفتح ملف الخطابات الخاصة.
لحظتها همس لي الجنيّ:" قلنا نرتب المكتبة لا المكتب، هنا يا صاحبي
مرقد الألم ونبع المواجع، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد".
تركتُ الجنيّ لتقواه المفاجئة وبدأت في تصفح الخطابات، فماذا وجدت؟.
رسالة من إبراهيم عيسى ينهيها بأن ينصحني باستعمال الرفق مع نفسي؛ لأن
طريقي كله أشواك.
لم أعد أذكر مناسبة الرسالة، كما أنها ليست مؤرخة، ولكن باستقراء حوادث
الأيام فقد يعود تاريخ كتابتها إلى ما يزيد على عشرين عامًا مضت، عشرون مضت يا أبا
يحيى، والأشواك تتوالد وتتكاثر، عشرون سنة مضت ونبوءتك لا تزال قائمة فاجعة مؤلمة.
صورة ضوئية من خطاب صديقة إلى حبيبها تقول له
فيه: "هل أنت الله؟!"
بكل تأكيد لن أذكر شيئًا عن الذي فعلته صديقتي بحبيبها في قادم أيامهما!!
رسالة من سعد القرش يشرح لي فيها فهمه الخاص لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق".
سيقوم سعد بتطوير الرسالة ويجعلها مقالًا يربح به جائزة.
رسالة من الراحل الكريم حسام تمام إلى بلال فضل يعتذر فيها حسام عن أمر
ما كان بينه وبين بلال.
رسالة من أشرف عبد الشافي يقول لي فيها: "سنذهب إلى بيت شقيقي لمشاهدة
باراة الزمالك والأهلي في السوبر الإفريقي، طبعًا سنأكل وجبة صعيدية مفتخرة، ومن قلبي
أتمنى فوز الزمالك لكي لا تحزن.. ملحوظة مهمة جدًا: البنت التي تطاردك في كل مكان أرجو
ألا تكون معك، فأنا لا أتحمّل رؤية وجهها".
الذي أتذكره أن المباراة المشار إليها كانت
في عام 1994 فمن تكون البنت التي لا يتحمل أشرف رؤية وجهها؟.
ثم أشرف يرى أن كل النساء جميلات، وأن الرجل الحق هو الذي يكتشف مواطن
الجمال في كل امرأة، فكيف بات أشرف على رأي
ثم كيف أصبح على غيره؟.
بنت تطاردني في كل مكان، مَنْ تكون؟ كيف نسيتها؟.
إنني الآن لا أتذكر شيئًا، أي شيء عن تلك السنوات،
ثم لو سألت أشرف عن البنت وعن الرسالة سيرد قائلًا: إنه قد نسي طعام إفطاره فكيف سيتذكر
رسالة أو بنتًا سقطت من حياتنا قبل عشرين سنة؟.
ثم لن يسكت أشرف إلا بعد أن يطلق في وجهي الصوت السكندري الشهير.
أي خبل هذا الذي يدفعنا للحديث عن الخلود وعن الذكريات؟.
كيف لا ننتبه لدوامة النسيان التي تبتلع كل ما نظنه عزيزًا ونادرًا وعصيًّا
على النسيان؟.
رسالة من أكرم القصاص لي ولبلال يخبرنا فيها بأنه قد وصل إلى مطلق السعادة
وهو يجلس منفردًا على شاطئ الإسكندرية ويحصي عدد رمل الشاطئ وقد وصل قبل كتابته للرسالة
إلى الرقم 123 مليون حبة رمل.
وينهي أكرم رسالته بأن يؤكد أن كاتبها هو عبد الله أكرم بن حسين القصاص
البسيوني المولد الحنفي المذهب، وقد خطها لعشر
مضين من شهر مايو من عام1997، وفي ذيل الرسالة جملة نصها: "يا حمدي يا حرامي رجع
كتاب المسعودي، مروج الذهب اللى سرقته مني
يا لص الكتب".
طبعًا لم أُعِد لأكرم كتاب مروج الذهب ولا غيره من الكتب، ولكن هل لا يزال
أكرم سعيدًا أم تخطى السعادة نحو آفاق مجهولة؟
رسالة من بلال فضل يخبرني فيها بأن تبسمي في وجهه صدقة ويختم رسالته بأنها
من المحب العاشق المعذب ( ب/ ف ) القاطن في حلمية الزيتون.
لم يسكن بلال حلمية الزيتون فما الذي جاء بها على سن قلمه؟.
ثم أنا لم أعبس في وجهه قط، لقد كنت أضحك فور
رؤيتي له؛ لأنه كان يشير في الهواء بإشارات بذيئة
ثم يخرج لسانه كأنه سيموت عطشًا وكان كل ذلك يضحكني.
رسائل مطولة بيني وبين عماد الدين حسين، لا تقل الرسالة عن عشر صفحات كاملة،
كنا نتحدث في الرسائل عن ذكرياتنا مع قراءة روايات محمد عبد الحليم عبد الله، ثم تعلقنا
بالجرائد التي كنا أحيانًا نسير على أقدامنا أكثر من عشر كليو مترات لكي نحصل عليها،
ثم شتائم كثيرة جدًّا وغاية في البذاءة، كنا نوجهها للواقع الذي حلمنا به طيبًا فإذا
هو قطعة من العذاب، بل العذاب قطعة منه.
رسائلي مع عماد مؤرخة، وقد مضى عليها قرابة العشرين سنة.
افتقدت رسالة كنت قد أخذتها من
الأستاذة صافي ناز كاظم كانت قد أرسلتها للكاتب
الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، رحمه الله.
الرسالة كانت حادة جدًّا، أذكر مناسبة كتابتها، بل وبعض جملها، وقد أخذتها
هي ومقطع من قصيدة لأمل دنقل مكتوب بحبر أخضر بخط
أمل خارق الجمال وقد أهداه لصافي ناز.
لقد ضاعت الرسالة والمقطع ضياع الأبد.
الآن أقول : ما كان ضياع الرسالة ومقطع أمل إلا عقابًا لي على إيماني بالخلود
والذكريات .
كانت أمامي رسائل صافي ناز مع نزار قباني، لو كنت طلبتها منها ما كانت
ستضن بها، تبًا لي سار يومي، الرسائل النفيسة أخذتها الأستاذة سناء البيسي، وهي رغم
رهافة حسها وقيمة الرسائل فقد تعاملت معها بسواعد جزار أو بلطجي، لم تنشرها كاملة في
مجلتها "نصف الدنيا"، نشرتها مقطّعة فاقدة لما بين سطورها، وقد غاب عنها
لونها وظلالها.
كيف سمحت صافي ناز بهذا؟.
المجرم الأول في تلك النكبة هو أنا، ليتني حصلت على الرسائل، التي أظن
أن أصلها قد ضاع وليس بيد أحد استعادته.
رسالة من الأستاذ علاء الديب طمس الزمان كلماتها، لم يعد باقيًا منها سوى
مطلعها: "إلى أخي الكريم حمدي ".
طائفة من الرسائل بين أصدقائي وحبيباتهم ، بعض الحبيبات أصبحن زوجات لأصدقائي وبعضهن سقطن في جب النسيان.
الرسائل خاصة جدًّا وبها ما بها من مكاشفات وأسرار.
لماذا قدمها لي أصحابها؟.
خطاب مغلق من حمدي عبد الرحيم إلى حمدي عبد الرحيم، مكتوب على مظروفه:
"كتب في العاشر من يونيو من عام 2002 ولا يفتح إلا بعد مضي عشر سنوات على كتابته".
هل لم أرتب المكتبة والمكتب على مدار عشر سنوات مضت؟.
هذا مستحيل؟.
هل لم أمد يدي إلى ملف الرسائل على مدار كل تلك السنوات؟.
هذا مستحيل كسابقه.
كيف لم تقع يدي على هذا الخطاب سوى الآن، وبعد مرور عشر سنوات على كتابته؟.
وجهت سؤالي للجني المؤمن، فرأيته قد قام لصلاة العصر ليتركني في ضلال ذكرياتي
المؤلمة.
بأصابع مرتعشة فضضت المظروف، وبريق جاف بدأت القراءة، ثم ضحكت وضحكت وضحكت،
وواصلت ضحكاتي وأنا أمزق الرسالة شر تمزيق.
كانت الرسالة تؤكد على ما تفردت به عن بني الإنسان، تمضي حياة ابن آدم
إلى الأمام، قد تتراجع خطوة أو ميلًا لكنها سرعان ما تمضي شاقة طريقها نحو الأمام،
أما أنا فحياتي دائرية.
أبدأ من نقطة ثم أواصل السير الدائري حتى تكتمل الدائرة، فأغادرها إلى
نقطة جديدة راسمًا دائرة جديدة.
كل ما كتبته عن نفسي وعن حياتي وأيامي في عام 2002 وجدته هو هو الذي أعيشه في عام 2012.
وجدتني أكتب نفس الأفكار وأقرأ لنفس الكُتّاب وأتحمس للأوهام ذاتها وأبحث
عن بهجة قديمة أعلم أنها مضت ولن تعود، وأبحث عن نظافة أمي وعطرها وحضنها، وأصرخ متألمًا
من الغربة واليتم المبكر، وأشكو إلى الله جنونًا يصيبني لحظة العصر.
أنا لم أتقدم خطوة للأمام ولم أتراجع خطوة إلى الخلف، أنا الدائري الحلزوني،
المتعرج الأعرج خسرت كل شيء وربحت هزائم مدوية، يقفز عمري إلى خط نهايته ويشيب شعري
ثم لي قلب المراهقة وأعباء الكهولة.
كم أنا سعيد بي.
كم أنا تعس بي.
كم أنا شقي بي.
أنا لا أريد رؤيتي، لا أريد استحلاب هزائمي، لا أريد خطي الهمجي القبيح،
لا أريد بؤس كلماتي، فليذهب خطابي الذي كتبته لنفسي إلى مطلق العدم.
حملت كل ما سبق وصببته فوق رأس
بلال فضل، الذي وضع ساقًا على الثانية وضرب فخذه بيده ضربات قوية متتالية، ثم داعب شاربه، ومسح على لحيته
ثم خط في الهواء كلمة بذيئة ثم ضحك ثم سعل ثم سكت ثم قال: "الحق أقول لك إنك أسوأنا".
سارعت بمقاطعته غاضبًا: "لماذا أنا أسوأكم يا بلال".
رد بهدوء: "يا سيدي كونك أسوأنا هذا ليس قراري، إنه قرار مولانا عز
وجل".
بغضبة أشد من الغضبة الأولى سألته مقاطعًا: "ومن أدراك أن هذا الذي
تزعمه هو قرار الله عز وجل؟".
بهدوئه المثير قال: "أنا أظن أن هذا قرار الله وقضاؤه فيك، ولو قاطعتني
ثانية فلن أواصل كلامي، وهو كلام مهم جدًّا وستحتاج إليه في قادم أيامك، انظر يا شيخنا
كيف سيعاقبك الله على السوء الذي افترضه أنا فيك؟.
سيجعلك مستودعًا لأسرار أحبابك، يعني رجل يضع
عنده أصدقاؤه رسائل حبهم وردود حبيباتهم، لابد وأن يكون مستودعًا، هههههه حمدي مستودع،
اسم سينمائي والله، أحسن كثيرًا من مستودع الغاز، دعني أكمل، بعد أن تصبح مستودعًا،
سيبدأ عقاب الله لك، سيرحل أحبابك واحدًا بعد الآخر، سنرحل جميعًا موتًا أو قهرًا،
وستبقي وحدك يا شيخ حمدي، ستصبح وحدك تمامًا، ستعيش طويلًا وكثيرًا، وسنسمعك ونحن في
قبورنا أو في قهرنا وأنت تشتمنا؛ لأننا تخلينا عنك وتركناك وحدك، فتهرع إلى رسائلنا
وصورنا لكي تشمها وتبكي وحدتك، وبهذه الوحشة وبتلك الوحدة سيطهرك الله من السوء الذي
بك ويغفره لك وتسبقنا إلى الجنة، وعلى ما سبق فإن رسائلنا التي لديك، لن نأخذها منك، ستصبح رسائلنا كقناة
الناس طريقك إلى الجنة ههههههه، عبقري أنت والله يا بلال".
تركت ابن فضل يضحك ملء فمه ونظرت إلى يميني فرأيت الجنّي قائمًا يصلي وهو
يرتل: "والعصر إن الإنسان لفي خسر".