أعلم أنهم
يصدّعون رأسك بـ"الواقعية" و"الضرورة الدرامية" وبقية قائمة
الشعارات التى إن ذهبتَ تبحث عن جذرها فلن تجد سوى السراب الذى يحسبه الظمآن ماءً.
أعلم أنهم
يتلاعبون بمشاعرنا نحن المشاهدين المساكين، ولكن يحدث أحيانًا أن يشهد شاهد منهم،
فيكشف المستور.
قبل سنوات
أجرت مجلة "صباح الخير" حوارًا مع النجمة رغدة عن مشاركتها فى فيلم
"أبو الدهب" الذى لعبت بطولته مع الراحل أحمد زكى، أثناء الحوار كشفت
رغدة عن سراب الشعارات.
قالت: فى
يوم من أيام التصوير، كان مشهدى سيصور زيارتى للقصر الفخم الذى يمتلكه بطل الفيلم
أحمد زكى، لكى أقدم لزوجته صورًا للفساتين التى سأصممها لها بوصفى خيّاطة محترفة،
أثناء مرورى بحديقة القصر وجدت بشكير السباحة والبُرنس والمايوه وأريكة من تلك
التى يستلقى عليها الذين أنهكتهم السباحة.سألت فريق العمل: لماذا هذه الأشياء هنا؟
قالوا: هى
لك.
قلت: لى
أنا، لماذا؟! المشهد ليست به سباحة.
قالوا:
المنتج قال يجب أن تلبسى المايوه.
راحت رغدة
تقنعهم أن المنطق يقول إن الهانم زوجة البطل لن يمكن أن تسمح لخياطتها بالسباحة فى
حمام سباحتها.
قالوا:
المنتج يريدك بالمايوه.
قالت: لن
ألبس المايوه ولن تبيعوا لى ضروريات الدراما.
رغدة رفضت
ولكن العالمية سلمى حايك وافقت!
أنقل عن
"نيويورك تايمز"، قالت "حايك" إن منتج هوليوود الأشهر هارفى
واينستين قال لها ذات مرة: "سأقتلك! لا تظنى أننى لا أستطيع فعل ذلك".
وأضافت
سلمى فى تصريحاتها لـ"نيويورك تايمز"، التى تحدثت فيها عن علاقاتها
بـ"هارفى" توصلت إلى اتفاق مع"واينستين" بشأن حقوق الفيلم
التى كان سيعرض خلال عام 2002، أنها اضطرت مرارًا لرفض إيحاءات جنسية من هارفى.
وكتبت:
- لم أسمح
له بالاستحمام معى.
- لم أدعه
يشاهدنى أثناء الاستحمام.
- لم أسمح
له بتدليكى.
- لم أسمح
لصديق له بتدليكى وهو عارٍ.
- لم أسمح
له بممارسة الجنس الفموى معى.
- رفضت
الظهور عارية مع امرأة أخرى.
واتهمت
حايك منتج هوليوود بتهديدها بإلغاء الفيلم ما لم تؤدِ دورًا جنسيا مع ممثلة أخرى.
وأضافت
وهى تسرد اضطرابها أثناء تصوير المشهد الذى قالت إنه كان غير مبرر: "اضطررت
لتناول المهدئات، التى أوقفت فى النهاية البكاء لكنها تسببت فى حدة التقيؤ".
هل رأيت
كم هى متعبة ومرهقة تلك الضرورة الدرامية؟
إنها تجعل
الممثلة تصل لحد التقيؤ.
هذا عن
الدراما عندما تكون صورًا متحركة، فماذا عنها عندما تقدم الرسالة والمضمون
والمحتوى؟!
هل تؤمن
أن للدراما رسالة؟
أنا أؤمن
أن للدراما رسالة ومن منطلق إيمانى هذا أدافع عنها، مزيلًا عن جسدها الطيب قاذورات
يلقيها البعض على الجسد الطيب الذى لا يريد بنا سوى الخير.
بدعوى
الواقعية، وبزعم الاشتباك مع اليومى والمألوف يقدم بعضهم نفايات يعج بها محيطه هو
بوصفها الفن الذى لا فن قبله ولا فن بعده.
مخرجة
سينمائية شهيرة عاتبوها على استغراقها فى تقديم الجنس المجانى عبر أفلامها فقالت
علانية: "هذا هو الواقع وبنات مصر يخضعن لطبيب ترقيع غشاء البكارة قبل
زفافهن"!
الدخول فى
نقاش مع تلك الشهيرة سيزيد الأمر سوءًا، فهى تحكم بما ترى وخصمها سيحكم بما يرى،
ولا توافق بين المشاهدات ولن يكون.
الحياة
التى هى الأفعال اليومية تسبق الفن ولن يلحق بها، لأن الحياة هى التى تقدم المادة
الخام التى سيعمل عليها الفنان، ولكن هل كل المادة الخام صالحة لأن تقدم للمشاهد؟
المادة
الخام تقول إن الميت يجرى تغسيله، فهل تقبل بمشهد كهذا؟!
المادة
الخام تقول إن الأزواج يفعلون كذا، فهل تقبل برؤية هذا الـ "كذا" مجسدًا
على الشاشة؟!
المادة
الخام تقول إن الإنسان يدخل الحمام لقضاء حاجته، فهل تقبل بمشاهدة الفضلات؟!
المادة
الخام تقول إن بلدنا يعانى من كثرة حالات الطلاق، مع ما يعنيه الطلاق من خراب
ودمار وفوضى، فهل نناقش القضية من أى زاوية كانت وليس شرطًا تقديم الحل؟ أم نتبنى
صرعة جديدة دخلت حياتنا اسمها "سينجل مازر"؟!
انتبه!
إنهم يتلاعبون بالألفاظ والمصطلحات، يقولون "سينجل مازر"، يقولون
"المرأة العزباء"، يقولون مصطلحات شتى ليس من بينها المصطلح الحقيقى وهو
"المرأة الزانية".
هذا
التلاعب خطير غاية الخطورة، حتى أن كاتبة أحسبها عاقلة كتبت تدافع عن تقديم تلك
النماذج ما ملخصه: كنا نتعاطف مع شادية وفاتن حمامة وبقية الممثلات عندما يحملن من
سفاح، فماذا حدث لنا؟!
لقد دخل
المصطلح المراوغ على عقل الكاتبة فحطم الصورة، نعم كانت الدراما القديمة تقدم هذه
النماذج ولكن فى أى سياق؟
كان سياق
خداع البطل للبطلة، وكان السياق افتراس البطل لجسد البطلة، ودائمًا كانت هناك حسرة
الندم وحرقة المشاعر وحيرة المأزوم، وأبدًا لم تكن هناك تلك الدعوة العجيبة التى
تجعل بطلة مسلسل تحاول الحمل من صديقها مشترطة عدم الزواج، لأنها تريد طفلًا لا
طفلًا وزوجًا!
هل يوجد
بمصر "سينجل مازر"؟
نعم، كما
فى كل الدنيا وفى كل العصور، ولكن ما هى الرسالة التى يريدها الذى سيصور تلك
النماذج؟
هل توجد
بمصر بنات تدخن الحشيش؟
نعم كما
فى كل الدنيا وفى كل العصور، ولكن تبنى مثل تلك الحالات هو قصف نيرانى يمهد لما هو
قادم؟
هل أسئلتى
هذه تعنى أننى وفريقى نريد دراما على مقياس المخرج الراحل محمد كريم الذى كان يغسل
الجاموسة التى ستعبر خلف البطل، وكان يكنس التراب الذى بجوار شجرة الصفصاف التى
تقف تحتها البطلة؟
هل نريد
وعظًا وإرشادًا وخطابًا فجًا؟
هل نريد
مجتمعًا ملائكيًا ورديًا حالمًا هامسًا؟
إن
افترضتم فينا هذه الخيالات فقد رميتمونا بدائكم وانسللتم.
نحن نريد
الفن القوى العفى الذى يسكن القلوب ويعمل عمله فى العقول.
هل رأيتم
سينما توفيق صالح؟
هل رأيتم
سينما محمد خان؟
ألم
يشتبكا - ما وسعهما الاشتباك - مع الواقع، هل أنكرنا عليهما اشتباكهما؟
بجملة
واحدة: هناك فرق - كان وسيبقى- بين الفن"والمليطة"، فخذوا قراركم أى
سبيل ستسلكون.
ختامًا..
سأذكركم بكلمة منسوبة لتشرشل قائد بريطانيا فى أوج مجدها، قال: "نحن على
استعداد للتنازل عن كل ممتلكات بريطانيا العظمى فى كل مكان على الأرض ولكن لا
نتنازل عن عمل من أعمال ابن بريطانيا شكسبير".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر
بجريدة "صوت الأمة" ديسمبر 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق